العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
وإذا تأمَّلتَ عجائبَ البحر، وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها، وأشكالها، ومقاديرها، ومنافعها، ومضارِّها، وألوانها؛ حتى إن فيه حيواناتٍ أمثال الجبال، وفيه من الحيوانات ما تُرى ظهورها فتُظنُّ جزيرةً فينزل الركّاب عليها، فتحس بالنار إذا أوقدت فتتحرك، فيُعلم أنه حيوان. وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله، وفيه أجناس لا يعُهد لها نظير في البر أصلاً.
الحمد لله الذي نوَّع أدلة ربوبيته وتوحيده، فقامت من كل جانب، فعرفه الموفَّقون من عباده، وأقروا بتوحيده إيمانًا وإذعانًا، وجحده المخذولون من خليقته، وأشركوا به ظلمًا وكفرانًا، فهلك من هلك عن بيِّنة، وحيِيَ من حَيَّ عن بينة، والله سميع عليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يعلم أنه لا رب له سواه، ولا يعبد إلا إياه.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين، لم يفارق الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا مَن كان مِن الهالكين، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التّوبَة:128].
أما بعد: فيا عباد الله: أحسن ما أُنفِقَت فيه الأنفاس هو التفكُّر في آيات الله وعجائب صنعه، والانتقال منها إلى تعلُّق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته؛ ولهذا يكرِّر الله تعالى في القرآن ذكر آياته ويبديها، ويأمر عباده بالنظر إليها مرة بعد أخرى، قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [يُونس:101].
عباد الله: من آيات الله وعجائب مصنوعاته "البحار" المكتنفة لأقطار الأرض، حتى إن المكشوف من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمورة بالماء، ولولا إمساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته، وحَبْسُهُ الماء، لطفح على الأرض وعلاها كلها، فهذا طبع الماء؛ ولهذا حار عقلاء الطبيعيين في سبب بروز هذا الجزء من الأرض، مع اقتضاء طبيعة الماء العلو عليه وإن لم يغمره، ولم يجدوا ما يحيلون عليه ذلك إلا الاعتراف بالعناية الأزلية، والحكمة الإلهية، التي اقتضت ذلك ليعيش الحيوان الأرضي في الأرض.
وفي مسند الإمام أحمد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربَّه أن يُغرق بني آدم"، وهذا أحد الأقوال في قوله عز وجل: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطُّور:6]، وقيل في "المسجور": إنه الموقد؛ وهذا هو المعروف في اللغة، ويدل عليه قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) [التّكوير:6]، قال علي وابن عباس: أوقدت، فصارت نارًا، ومن قال: يبست وذهب ماؤها فلا يناقض كونها نارًا موقدة، وكذلك من قال: ملئت. فإنها تملأ نارًا، فإن البحر محبوس بقدرة الله، ومملوء ماء، ويذهب ماؤه يوم القيامة، ويصير نارًا.
وإذا تأمَّلتَ عجائبَ البحر، وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها، وأشكالها، ومقاديرها، ومنافعها، ومضارِّها، وألوانها؛ حتى إن فيه حيواناتٍ أمثال الجبال، وفيه من الحيوانات ما تُرى ظهورها فتُظنُّ جزيرةً فينزل الركّاب عليها، فتحس بالنار إذا أوقدت فتتحرك، فيُعلم أنه حيوان. وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله، وفيه أجناس لا يعُهد لها نظير في البر أصلاً.
هذا مع ما فيه من الجواهر، واللؤلؤ، والمرجان، فترى اللؤلؤة كيف أودعت في كنٍّ كالبيت لها، وهي الصدَفة تكنها وتحفظها. ومنه (اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) [الواقِعَة:23]، وهو الذي في صدَفِه لم تمسّه الأيدي. وتأمَّل كيف نبت (المـَرْجَان) في قعره في الصخرة الصماء تحت الماء على هيئة الشجر. هذا مع ما فيه من العنبر، وأصناف النفائس التي يقذفها البحر، أو تستخرج منه.
ثم انظر إلى عجائب السفن وسيرها في البحر تشقُّه وتمخره بلا قائد يقودها، ولا سائق يسوقها، وإنما قائدها وسائقها الرياح التي يسخرها الله لإجرائها، فإذا حبس عنها القائد والسائق ظلت راكدة على وجه الماء، كما قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [الشورى:33]. وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا، وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النّحل:14]. فما أعظمها من آية! وما أبينها من دلالة! ولهذا يكرر الله -سبحانه- ذكرها في كتابه كثيرًا.
وعجائب البحر وآياته أعظم وأكثر من أن يحصيها إلا الله سبحانه. وقال تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:12].
ومن آياته –سبحانه- في الأرض خَلق الحيوان على اختلاف صفاته وأجناسه، وأشكاله، ومنافعه، وألوانه، وعجائبه المودعة فيه، فمنه الماشي على بطنه، ومنه الماشي على رجلين، ومنه الماشي على أربع.
ومن الحيوان ما جعل سلاحه في رجليه-وهو ذو المخالب-، ومنه ما جعل سلاحه المناقير، كالنسر والرخم والغراب، ومنه ما سلاحه الأسنان، ومنه ما سلاحه الصياصي، وهي القرون يدافع بها عن نفسه مَن يروم أخذه، ومنه ما أُعطي قوة يدفع بها عن نفسه فلم يحتج إلى سلاح كالأسد، ومنه ما سلاحه في ذرقه وهو نوع من الطير إذا دنا منه من يريد أخذه ذرق عليه فأهلكه.
ومنه ما تشبه أعضاؤه جميع أعضاء الحيوان وهو "الزرافة" فرأسها رأس فرس، وعنقها عنق بعير، وأظلافها أظلاف بقرة، وجلدها جلد نمر فهي خلق عجيب، ووضْعٌ بديع من خلق الله الذي أبدعه، آية ودلالة على قدرته وحكمته التي لا يعجزها شيء؛ ليري عباده أنه خالق أصناف الحيوان كلها كما يشاء، وفي أي لون شاء.
كما يُرِي عباده قدرته التامة على خلقه لنوع الإنسان على الأقسام الأربعة، فمنه ما خلق من غير أب ولا أم، وهو أبو النوع الإنساني، ومنه ما خلق من ذكر بلا أنثى وهي أمهم التي خلقت من ضلع آدم، ومنهم من خلق من أنثى بلا ذكر، وهو المسيح ابن مريم، ومنه ما خلق من ذكر وأنثى، وهو سائر النوع الإنساني؛ فيُرِي اللهُ الناس آياتِه، ويتعرف إليهم بآلائه وقدرته، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: (كُنْ فَيَكُونُ) [الأنعَام:73]؛ فتنوع أفعاله ومفعولاته، وفعله الشيء وضده، والشيء وخلافه، من أعظم الأدلة على ربوبيته، وحكمته، وعلمه.
فاتقوا الله -عباد الله- بفعل ما أمر، وترك ما حظر، فالخالق لهذه الأشياء المتنوعة في هذا الكون العظيم هو المستحق للعبادة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:221-222].
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد القهار، يفعل ما يريد ويختار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يعجزه شيء، وإذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق المأمون؛ اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله: إن التفكُّر في آيات الله ينبه القلب من رقدته؛ ولنستمع إلى ما رواه أبو نعيم في الحلْية عن ثلاثة عُبَّاد باتوا على ساحل البحر وتفكروا فيه.
روى بسنده عن مسمع بن عاصم، قال: بِتُّ أنا، وعبدالعزيز بن سلمان، وكلاب بن جري، وسلمان الأعرج، على ساحل من بعض السواحل، فبكى كلاب حتى خشيت أن يموت، ثم بكى عبدالعزيز لبكائه، ثم بكى سلمان لبكائهما، وبكيت أنا أيضًا لبكائهم، ثم لا أدري ما أبكاهم. فلما كان بعدُ سألت عبدالعزيز فقلت: أبا محمد! ما الذي أبكاك ليلتك؟ قال: إني نظرت والله إلى أمواج البحر تموج وتحيك، فذكرت أطباق النيران وزفَراتها، فذاك الذي أبكاني. ثم سألت كلابًا وسلمان فقالا لي نحوًا من ذلك. قال: فما كان في القوم شرٌّ مني، ما كان بكائي إلا لبكائهم، رحمة لما كانوا يصنعون بأنفسهم.