الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - التوحيد |
إن الخلق أعظم الأفعال، فإنه لا يقدر عليه إلا الله، فالقدرة عليه أعظم من كل قدرة، وليس له نظير في قدر المخلوقين، فما خلقه الله من أنواع الحيوان والنبات والمعدن، كالإنسان، والفرس، والحمار، والأنعام، والطير، والحيتان؛ فإن بني آدم لا يستطيعون أن يصنعوا مثله؛ وكذلك الحنطة، والشعير، والباقلاء، واللوبيا، والعدس، والعنب، والرطب، وأنواع الحبوب والثمار، لا يستطيع الآدميون أن يصنعوا مثلما يخلقه الله سبحانه وتعالى ..
الحمد لله الخالق البارئ المصور، لا يستحق هذه الأسماء الحسنى سواه، برأ الخليقة وأوجدها، وأبدعها على غير مثال سبق لها، وأعطى العبد التصرف في بعض صفات ما أوجده الرب وبراه، يغيرها من حال إلى حالٍ على وجه مخصوص لا يتعداه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب كل شيء ومليكه، لا رب لشيء من الأشياء إلا هو، وهو إله كل شيء، (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) [الزّخرُف:84]، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبيَاء:22]، وسبحان الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الواسطة بينه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه وخبره، فلا يعرفون ما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، إلا بواسطة هذا الرسول الذي اصطفاه الله واجتباه؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين يضيفون جميع الحوادث إلى مشيئة الله، وسلم تسليمًا كثيرًا.
سس
أما بعد:
فيا عباد الله: إن الخلق أعظم الأفعال، فإنه لا يقدر عليه إلا الله، فالقدرة عليه أعظم من كل قدرة، وليس له نظير في قدر المخلوقين، فما خلقه الله من أنواع الحيوان والنبات والمعدن، كالإنسان، والفرس، والحمار، والأنعام، والطير، والحيتان؛ فإن بني آدم لا يستطيعون أن يصنعوا مثله؛ وكذلك الحنطة، والشعير، والباقلاء، واللوبيا، والعدس، والعنب، والرطب، وأنواع الحبوب والثمار، لا يستطيع الآدميون أن يصنعوا مثلما يخلقه الله سبحانه وتعالى؛ وكذلك المعادن كالذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، لا يستطيع بنو آدم أن يصنعوا مثل ما يخلقه الله؛ وإنما غايتهم أن يشبهوا من بعض الوجوه، فيصغرون وينقلون، مع اختلاف الحقائق؛ فإن الله سبحانه قال في كتابه: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الرّعد:16].
وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة"، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لعن المصوِّرين، فقال:"من صوَّر صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"، ولهذا يُفرَّق في هذا التصوير بين الحيوان وغير الحيوان.
إن مما يصنعه الناس لم يخلق الله لهم مثله، لكنه أقدرهم على صنعه؛ فإنه سبحانه أقدرهم على أن يصنعوا طعامًا مطبوخًا، ولباسًا منسوجًا، وبيوتًا مبنية من الفخار والزجاج ونحو ذلك.
وليس الطبع خالقًا لشيء؛ لأن كل حركة في الوجود ناشئة عن الإرادة والاختيار، والطبع لا إرادة له ولا اختيار، فبطل أن يضاف خلق شيء من المخلوقات- العَرَضِيَّة فضلاً عن الجوهرية- إلى الطبع الذي في الأجسام، مثل أن يكون الخالق للأجنة في الأرحام هو طبع، والخالق للنبات هو طبع؛ بل تضاف هذه الحوادث، حتى أفعال الحيوان، إلى خَلق الله، ومشيئته، وربوبيته، وهذه طريقة أهل العلم والإيمان، وهم أصح عقلاً ودينًا.
فأما كثير من الناس وأهل الطبع من المتفلسفة وغيرهم فيعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، ويرون ظاهر الحركات والأعمال التي للموجودات، ويرون بعض أسبابها القريبة، وبعض حكمها وغاياتها القريبة؛ كما يذكرون في تشريح الإنسان وأعضائه، وحركاته الباطنة والظاهرة، وما يذكرونه من القوى التي في الأجسام التي تكون بها الحركة، والقوة الجاذبة، والهاضمة، والغاذية، والدافعة، والمولِّدة، وغير ذلك، إلى غير ذلك من الأسباب مما هو عبرة لأولي الأبصار؛ لكن يقع الغلط من إضافة هذه الآثار العظيمة إلى مجرد قوة في جسم.
وتجد هؤلاء إذا تكلموا في الحركات التي بين السماء والأرض مثل حركة الرياح والسحاب والمطر، وحدوث المطر من الهواء الذي بين السماء والأرض تارة، ومن البخار المتصاعد من الأرض تارة، وكذلك إضافة الزلزلة إلى احتقان البخار، وإضافة حركة الرعد إلى مجرد اصطكاك أجرام السحاب، إلى غير ذلك من الأسباب، فشهدوا بعض اٍلأسباب المرئية، وجهلوا أكثر الأسباب، وأعرضوا عن الخالق المسبِّب لذلك كله، فضلوا في ذلك ضلالاً مبينًا؛ فإن خلق الله –سبحانه- للسحاب، بما فيه من المطر من هذا البحر وبخار الأرض، كخلقه للحيوان من المني، وخلق الشجر من الحب والنوى؛ ومعلوم أن المني جسم صغير لا يشبه الذي للحيوان من الأعضاء المكسوة والمتنوعة في أقدارها وصفاتها، وحكمها وغاياتها، فهل يقول عاقل إن هذا مضاف إلى عرض وصفة حالٍ في جسم صغير؟! أو يضاف هذا إلى ذلك الجسم الصغير؟! هذا من أفسد الأمور في بديهة العقل.
ومعلوم أنه لا نسبة إلى خلق هذا من هذا، وإلى ما يصنعه بنو آدم من الصور التي يصنعونها من المداد، مثل الكتابة بالمداد، ونسيج الثياب من الغزل، وصنع الأطعمة والبنيان من موادها، وهم مع ذلك لم يخلقوا المواد، وإنما غايتهم حركة خاصة تعين على تلك الصورة؛ ثم لو أضاف مضيف هذه الكتابة إلى المداد لكان الناس جميعًا يستجهلونه ويستحمقونه، فالذي يضيف خلق الحيوان والنبات إلى مادتها، أو إلى ما في مادتها من الطبع، أليس هو أحمق وأجهل وأظلم وأكفر؟!!
وقد تعارضهم طوائف من أهل الكلام فينكرون طبائع الموجودات، وما فيها من القوى والأسباب، ويدفعون ما أرى الله عباده من آياته في الآفاق وفي أنفسهم مما شهد به في كتابه من أنه خلق هذا بهذا، كقوله: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [الأعرَاف:57]، وقوله: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [البَقَرَة:164].
عباد الله: جميع الحركات الخارجة عن مقدور بني آدم، والجن، والبهائم، هي من عمل الملائكة، وتحريكها لما في السماء والأرض وما بينهما، فما في السموات والأرض وما بينهما من حركة الأفلاك والشمس والقمر والنجوم، وحركة الرياح والسحاب والمطر والنبات، وغير ذلك، فإنما هو بملائكة الله تعالى الموكلة بالسموات والأرض، الذين (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبيَاء:27]، كما قال تعالى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) [النَّازعَات:5] (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) [الذّاريَات:4]؛ وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وتوكلهم بأصناف المخلوقات.
وجميع المخلوقات عابدة لخالقها إلا ما كان من مرَدة الثقلين، وليست عبادتها إياه قبولها لتدبيره وتصريفه وخلقه، فإن هذا عام لجميع المخلوقات، حتى كفار بني آدم؛ بل عبادة المخلوقات وتسبيحها هو من جهة إلهيته -سبحانه وتعالى-، وهي الغاية المقصودة منها وبها، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [النحل:48-50]، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:44].
في الصحيحين، من حديث أبي ذر قال: دخلت المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، فلما غربت الشمس قال: "يا أبا ذر، هل تدري أين تذهب هذه؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب تستأذن في السجود فيؤذن لها؛ وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، ثم قرأ: (ذلك مُسْتَقَر لها)" في قراءة عبد الله.
فاتقوا الله -عباد الله- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [النُّور:41].
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد القاهر، يفعل ما يشاء ويختار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن؛ فإذا قال له: كن؛ كان.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المختار من ولد عدنان. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: أيها المسلم، إنْ سمعتَ من يقول بأن وجود الحيوان والنبات والمعادن من فعل الطبيعة، أو حركة الرياح والسحاب والمطر أو غير ذلك من فعل الطبيعة، فقل له: لو أراد الله أن يهديك لسألتَ نفسك بنفسك، وقلتَ: أخبريني عن هذه الطبيعة؛ أهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست كذلك بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع، تابعة له، محمولة فيه؟ فإن قالت لك: بل هي ذات قائمة بنفسها، لها العلم التام، والقدرة، والإرادة، والحكمة؛ فقل لها: هذا هو الخالق البارئ المصور، فلم تسمينه طبيعة؟! فإن هذا الذي وصفتِ به الطبيعة هو صفته –تعالى-.
وإن قالت لك: بل الطبيعة عرَضٌ محمولٌ مفتقِرٌ إلى حامل، وهذا كله فعلها، لكن بغير علم منها، ولا إرادة، ولا قدرة، ولا شعور، وقد شوهد من آثارها ما شوهد؛ فقل لها: هذا ما لا يصدقه ذو عقل سليم! إذ كيف تصدر هذه الأفعال العجيبة، والحكم الرفيعة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها، وعن القدرة عليها، كيف تصدر ممن لا عقل له ولا قدرة ولا شعور؟! وهل التصديق بهذا إلا دخول في سلك المجانين؟!!
ثم قل لها بعد ذلك: ولو ثبت لك ما ادَّعيْتِ، فمعلوم أن مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها، ولا مبدعة لذاتها؛ فمَن ربها ومبدعها وخالقها؟ ومَن طبَعَها وجعَلها تفعل ذلك؟ فهي إذًا من أدل الدلائل على خالقها وبارئها وفاطرها، وكمال علمه وقدرته وحكمته، فلم يُجْدِ عليك تعطيلكِ رب العالم، وجحودكِ لصفاته وأفعاله؛ وما تعطيلكِ وجحودكِ إلا لمخالفتكِ العقل والفطرة.
فإن رجَعَتْ إلى العقل وقالت: لا توجد حكمة إلا من حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن إلا من صانع قادر مختار، مدبر، عليم بما يريد، قادر عليه، لا يعجزه ولا يؤوده. قيل لكَ: فإذا أقررتَ –ويحك- بالخلاق العظيم، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، فَدَعْ تسميته طبيعة، أو عقلاً فعالاً، أو موجبًا بذاته؛ وقل: هذا هو الخالق البارئ المصور، رب العالمين، وقيوم السموات والأرضين، ورب المشارق والمغارب، الذي أحسن كل شيء خلقه، وأتقن ما صنع، فما لكَ جحدت أسماءه وصفاته وذاته؟ وأضفت صنيعه إلى غيره؟ وخلقه إلى سواه؟ مع أنك مضطر إلى الإقرار به، وإضافة الإبداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولابد. والحمد لله رب العالمين.
على أنك لو تأملت معنى هذه اللفظة "طبيعة"، لدلك على الخالق البارئ لفظُها، كما دل العقول عليه معناها؛ لأن "طبيعة" فعيلة بمعنى مفعولة، أي مطبوعة؛ لأنها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم، ووضعت فيه، كالسجية والغريزة والسليقة؛ فالطبيعة هي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه، ومعلوم أن طبيعة من غير طابعٍ لها محال.
والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خَلق من خلق الله مسخر مربوب، وهي سنته في خليقته التي أجراها عليه، ثم إنه يتصرف فيها كيف شاء، وكما شاء؛ وأن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش إليها إنما هي خلق من خلقه، بمنزلة سائر مخلوقاته، فكيف يحسن بمن له حظ من إنسانية أو عقل أن ينسى مَنْ طبَعها وخلقها، ويحيل الصنع والإبداع إليها؟ ولم يزل –سبحانه- يسلبها قدرتها، ويحيلها ويقلبها إلى ضد ما جعلت له، حتى يري عباده أنها خلقه وصنعه، مسخرة بأمره، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعرَاف:54].