القادر
كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
ثم تأملوا الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من عُلو ليعمَّ بسقيه وِهادها وتُلولها، وظرابها وآكامها، ومنخفضها ومرتفعها، ولو كان ربها يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر، وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها، ثم أنزله إلى الأرض بغاية من اللطف والحكمة التي لا اقتراح لجميع عقول الحكماء فوقها، فيرش السحاب الماء على الأرض رشًا..
الحمد لله الكريم المنَّان، واسع العطاء جزيل الإحسان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائم بأرزاق خلقه من حيوان وإنس وجان. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان إذ حزَبَه أمرٌ فزِع إلى الصلاة، وإذا أجدبت الأرض رفع يديه إلى السماء، فما تتخلف إجابة ذلك الدعاء. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البَرَرة، نجوم الدجا.
أما بعد:
فيا عباد الله: مِن آيات الله "السحاب" المسخر بين السماء والأرض، فتأملوا كيف ترونه يجتمع في جوٍّ صافٍ لا كُدرة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء إذا شاء؛ وهو -مع لينه ورخاوته- حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض، إلى أن يأذن له ربه وخالقه في إرسال ما معه من الماء.
روى الترمذي وغيره، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- جالِس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"هل تدرون ما هذه؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:"هذا العنان، هذه روايا الأرض- أي الحاملة للماء- يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه"! يعني لسعة رحمته وحلمه –سبحانه- يسقي به من يطيعه ومن يعصيه.
وكان الحسن البصري -رحمه الله- إذا رأى السحاب قال: في هذه والله رزقكم، ولكنكم تحُرمونه بخطاياكم وذنوبكم. وقال الله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات:22]، فالرزق المطر، وما توعدون به الجنة، وكلاهما في السماء.
وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا رجل بفلاة من الأرض إذ سمع صوتًا في سحابة: اسق حديقة فلان. فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حَرَّةٍ، فإذا بشرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء، فتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحوِّل الماء بمسحاته، فقال له: يا عبدالله! ما اسمك؟ قال:فلان. للاسم الذي سمع في السحابة. فقال له: يا عبدالله! لم سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان- لاسمك- فما تصنع فيها؟ قال: أمَا إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأرد فيها ثلثه"، وفي رواية: "وأجعل ثلثه لليتامى والمساكين وابن السبيل" أخرجه مسلم.
فتأمَّلوا! كيف يسوقه –سبحانه- رزقًا للعباد، والدواب، والطير، والذَّرِّ، والنحل؛ يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني، في الأرض الفلانية، بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدةٍ من الحاجة والعطش، في وقت كذا وكذا.
وتأملوا -رحمكم الله- كم سخَّر سبحانه للسحاب من ريح حتى أمطر! فسُخِّرت له الريح المثيرة أوَّلاً فتثيره بين السماء والأرض، ثم سخرت له الحاملة التي تحمله على متنها كالجمل الذي يحمل الراوية، ثم سخرت له المؤلِّفة فتؤلف بين كسفه وقطعه، ثم يجتمع بعضها إلى بعض فتصير طبقًا واحدًا، ثم سخرت له اللاقحة فتحمل الماء من البحر وتلقحها به، كما يلقح الفحل الأنثى، فيحمل الماء من وقته كما تحمل الأنثى من لقاح الفحل، ولولاها لكان جَهامًا لا ماء فيه.
فالله سبحانه ينشئ الماء من السحاب إنشاء، تارة بقلب الهواء ماء فيلقح به السحاب، وتارة يحمله الهواء من البحر فيلقح به السحاب؛ ولهذا تجد البلاد القريبة من البحر كثيرة الأمطار، وإذا بعدت من البحر قل مطرها.
ثم تأملوا الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من عُلو ليعمَّ بسقيه وِهادها وتُلولها، وظرابها وآكامها، ومنخفضها ومرتفعها، ولو كان ربها يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر، وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها، ثم أنزله إلى الأرض بغاية من اللطف والحكمة التي لا اقتراح لجميع عقول الحكماء فوقها، فيرش السحاب الماء على الأرض رشًا، ويرسله قطرات منفصلة لا تختلط منه قطرة بأخرى، ولا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها، لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره. فلو اجتمع الخلق كلهم أن يخلقوا منها قطرة واحدة، أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة، لعجزوا عنه! لقد أنزله الله –سبحانه- وأنزل معه رحمته إلى الأرض.
ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة، حتى إذا ما أخذت الأرض حاجتها منه، وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها، أقلع عنها، وأعقبه بالصحو؛ فلو توالت الأمطار لأهلكت ما في الأرض، ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب والثمار، وعفَّنت الزرع والخضراوات، وأرخت الأبدان، وخثَّرت الهواء، فحدثت ضروب من الأمراض، وفسد أكثر المآكل، وتقطعت المسالك والسبل.
ولو دام الصحو لجفَّت الأبدان، وغيض الماء، وانقطع معين العيون والآبار والأنهار والأودية، وعظم الضرر، واحتدم الهواء؛ فيبس ما على الأرض، وجفت الأبدان، وغلب اليبس، وأحدث ذلك ضروبًا من الأمراض عسرة الزوال.
فاقتضت حكمة اللطيف الخبير أن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم، فاعتدل الأمر، وصح الهواء، ودفع كل واحد منهما عادية الآخر، واستقام أمر العالم وصلح.
ثم تأمل كيف أودعه في الأرض، ثم أخرج أنواع الأغذية والأدوية والأقوات! فهذا النبات يُغذِّي، وهذا سم قاتل، وهذا الشفاء من السم، وهذا يمرض، وهذا دواء من المرض، وهذا يبرد، وهذا يسخن، وهذا إذا حصل في المعدة قمع الصفراء من أعماق العروق، وهذا إذا حصل فيها ولد الصفراء واستحال إليها، وهذا يدفع البلغم والسوداء، وهذا يستحيل إليهما، وهذا يهيج الدم، وهذا يسكنه، وهذا يُنوِّم، وهذا يمنع النوم، وهذا يفرح، وهذا يجلب الغم، وغير ذلك من عجائب النبات التي لا تكاد تخلو ورقة منه، ولا عرق، ولا ثمرة، من منافع تعجز عقول البشر عن الإحاطة بها وتفصيلها.
وانظر إلى مجاري الماء في تلك العروق الرقيقة الضئيلة الضعيفة، التي لا يكاد البصر يدركها إلا بعد تحديقه، كيف يقوي قسره واجتذابه من مقره ومركزه إلى فوق، ثم ينصرف في تلك المجاري بحسب قبولها وسعتها وضيقها، ثم تتفرق وتتشعب وتدق إلى غاية لا ينالها البصر.
ثم انظر إلى تكوين حمل الشجرة، ونقلته من حال إلى حال، كتنقل أحوال الجنين المغيب عن الأبصار، فسَتَرَ العجب العجاب! فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين. بينا تراها حطبًا قائمًا عاريًا لا كسوة عليها إذ كساها ربها وخالقها من الزهر أحسن كسوة، ثم سلبها تلك الكسوة وكساها من الورق كسوة هي أثبت من الأولى، ثم أطلَع فيها حملها ضعيفًا ضئيلاً بعد أن أخرج ورقها، صيانة لتلك الثمرة الضعيفة لتستجِنَّ به من الحر والبرد والآفات، ثم ساق إلى تلك الثمار رزقها وغذاها في تلك العروق والمجاري فتغذت به كما يتغذى الطفل بلبن أمه، ثم رباها ونماها شيئًا فشيئًا حتى استوت وكملت وتناهى إدراكها، فأخرج ذلك الجنين اللذيذ اللين من تلك الحطبة الصماء.
هذا، وكم لله من آية فيما يقع الحس عليه ويبصره العباد، وما لا يبصرونه، تفنى الأعمار دون الإحاطة بها وبجميع تفاصيلها: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء:7، 8]، فاعتبروا يا أولي الأبصار، واتقوا الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:10-11].
الخطبة الثانية
أما بعد: فقد قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ، فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا، وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ، انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعَام:99].
أمر -سبحانه- بالنظر إلى النبات وقت خروجه وإثماره، ووقت نضجه وإدراكه؛ لأن في خروجه من بين الحطب والورق آية باهرة، وقدرة بالغة، ثم من خروجه من حد اليبوسة والمرارة والحموضة إلى ذلك اللون المشرق الناصع، والطعم الحلو اللذيذ الشهي، إن في ذلك لَآياتٍ لقوم يؤمنون. قال بعض السلف: حق على الناس أن يخرجوا وقت إدراك الثمار ويَنْعها فينظروا إليها، ثم تلا: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) [الأنعَام:99].
وتأملوا حكمة الله تعالى في حبس الغيث عن عباده، وابتلائهم بالقحط إذا منعوا الزكاة، وحرموا المساكين، كيف جوزوا على منع ما للمساكين قِبَلَهُم من القوت بمنع الله ماء القوت والرزق وحبسه عنهم؛ فقال لهم بلسان الحال: منَعتم الحق فمُنعتم الغيث، فهلا استنزلتموه ببذل ما لله قِبَلَكُم؛ وجاء في الحديث: "ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء".