الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
واعلموا -عباد الله- أنّ لا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا بعد معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، والسلامة مما يناقضها. لابد في شهادة لا إله إلا الله من اعتقاد بالجَنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فإن اختل واحد من هذه الثلاثةِ لم يكن الرجل مسلِمًا؛ فإذا كان مسلمًا وعاملاً بالأركان، ثم حدث منه قول أو فعل أو اعتقاد يناقض ذلك، لم ينفعه قول لا إله إلا الله.
الحمد لله الذي خلق الجنة، وجعل مفتاحها لا إله إلا الله. أحمده سبحانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص فيها، موقن بها.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي جدد ما اندرس من معالمها، ومع ذلك قال له ربه (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد:19]، فصدع بها ونادى، ووالى عليها وعادى، وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها".
دعا إلى هذه الكلمة عشر سنين، ولم يدْع قبلها إلى زكاة ولا صيام، ولا حج ولا عمرة إلى بيت الله الحرام. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا مَن امتنع من قولها، أو صدَّ عنها، أو نقَضَها.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، وجدِّدوا إيمانكم في المساء والصباح؛ بتأمل وتطبيق معنى لا إله إلا الله، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، ومن أجلها أرسلت الرسل إلى العباد ليعلموهم العمل بلا إله إلا الله، وهي الكلمة التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة، وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أُسِّست الملة، ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد.
وهي محض حق الله على العباد، وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به، والحبل الذي لا يصل إلى الله إلا من تعلق بسببه، وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد، وبها انفصلت دار الكفر عن دار الإسلام، وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان، وهي العمود الحامل للفرض والسنة، "ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".
عباد الله: إن روح هذه الكلمة وسرَّها إفرادُ الربِّ -جل ثناؤه- بالمحبة، والتعظيم، والخوف، والرجاء؛ وتوابع ذلك من التوكل، والإنابة، والرغبة، والرهبة؛ فلا يحب سواه المحبة المقتضية للذل والخضوع، بل كل ما كان يحب فإنما هو تبع لمحبته، ووسيلة إلى محبته؛ ولا يخاف سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه، ولا يحلف إلا باسمه، ولا يَنذر إلا له؛ ولا يُتاب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره، ولا يحتسب إلا به، ولا يستعان في الشدائد إلا به، ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يركع إلا له، ولا يُنحنى إلا له، ولا يذبح إلا له وباسمه؛ ويجتمع ذلك في عبارة واحدة هي: "أن لا يعبد بجميع أنواع العبادة إلا هو -سبحانه-".
واعلموا -عباد الله- أنّ لا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا بعد معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، والسلامة مما يناقضها. لابد في شهادة لا إله إلا الله من اعتقاد بالجَنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فإن اختل واحد من هذه الثلاثة لم يكن الرجل مسلمًا، فإذا كان مسلمًا وعاملاً بالأركان، ثم حدث منه قول أو فعل أو اعتقاد يناقض ذلك، لم ينفعه قول لا إله إلا الله، فمن صرف لغير الله شيئًا من العبادات بأن أشرك به أحدًا من المخلوقات فهو كافر، ولو نطق ألف مرة بلا إله إلا الله.
قيل للحسن البصري- رحمه الله- أن أناسًا يقولون: مَن قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال: مَن قالها، وأدَّى حقها وفرضها دخل الجنة. وقال وهب بن منبه- رحمه الله- لمن قال له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى؛ ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك.
فالإسلام له نواقض عدَّدها العلماء عشرة. فالشرك من نواقض الإسلام؛ فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، فقد نقض الإسلام؛ ومن لم يكفِّر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحَّح مذهبهم، كفَر بالإجماع؛ والإعراض عن دين الله لا يتعلمه، ولا يعمل به، كفر بالإجماع؛ ومَن اعتقد أن غير هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل من هديه، أو أنّ حكم غيره أحسن من حكمه، فهو كافر؛ ومن استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه، كفر وانتقض إسلامه؛ وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثره ما يكون وقوعًا. فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.
عباد الله: ويُخاف على المسلم أن يأتي بسيئة راجحة، فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقينٍ مانع من جميع السيئات، ويُخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات، فتضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات؛ فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم أو مَن يحسِّن صوته بآية من القرآن من غير ذوقِ طعم وحلاوة.
فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأنَّ إلى الباطل، واستحلى الرفث ومخالطة أهل الباطل، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذاً قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله. قال الحسن البصري- رحمه الله-: ليس الإيمان بالتحلِّي، ولا بالتمنِّي، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، فمن قال خيرًا قبل منه، ومن قال خيرًا وعمل شرًا لم يقبل منه.
فالذي يدخل النار ممن يقولها: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيَيْن للسيئات، أو لرجحان السيئات؛ أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئة أو سيئات رجحت على حسناتهم.
فقد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذَرَّة؛ وتواترت بأن كثيرًا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهولاء كانوا يصلُّون ويسجدون لله؛ وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لكن جاءت مقيَّدةً بالقيود الثِّقال: بالصدق، واليقين، والإخلاص، وعدم الشك.
فاحرص -أيها المسلم- أن تكون ممن يشهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة، بحيث لا يبقى في قلبك شيء لغير الله، ولا إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله، فإن من مات على هذه الحالة فهو من أهل الجنة ولا يدخل النار. قال الله تعالى: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف:86].
لكنَّ من الناس من تكون شهادته ميتة، ومنهم من تكون نائمة، إذا نُبِّهت انتبهت، ومنهم من تكون مضطجعة، ومنهم من تكون إلى القيام أقرب؛ وهي في القلب بمنزلة الروح في البدن، فروح ميتة، وروح مريضة إلى الموت أقرب، وروح إلى الحياة أقرب، وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن. وفي الحديث الصحيح: "إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجدت روحه لها روحاة يعني راحة". يعني: لا إله إلا الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الزمر:65-66].
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، الذين قاموا بواجب لا إله إلا الله؛ فمن نفى ما نفته، وأثبت ما أثبتته، ووالى عليها وعادى، رفعته إلى أعلى عليين، منازل أَهل لا إله إلا الله.
أخرج البخاري في صحيحه، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، ومعاذُ بن جبل -رضي الله عنه- رديفُه على الرحل، قال:"يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قالها ثلاثًا. قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، صدقًا من قلبه، إلا حرَّم اللهُ تعالى عليه النار". قال: يا رسول الله: أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: "إذًا يتَّكِلوا".
اللهم اجعلنا ممن يقوم بأركان الإسلام، ولا تجعلنا ممن يكتفي في الإسلام بالأنساب، ونعوذ بك اللهم من الشرك ومن الإلحاد، ونسألك الاستقامة على التوحيد والطاعة والسداد.
إن أحسن الحديث...