المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | مراد كرامة سعيد باخريصة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إننا نعيش في وضع يتفاقم، ويزداد فيه الفراغ، وتتسع فيه دائرة الخطر يومًا بعد يوم، هذا الواقع المر يحتاج منا أن نتذكر بعض الأمور وننتبه لبعض الأشياء وأولها -يا عباد الله-: إظهار الذلة لله، وكثرة التضرع له -سبحانه وتعالى-، والافتقار إليه والتوجه له والاستكانة به، والفرار والتمسكن له -جل جلاله وعز كماله-؛ يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ..
إننا نعيش في وضع يتفاقم، ويزداد فيه الفراغ، وتتسع فيه دائرة الخطر يومًا بعد يوم، هذا الواقع المر يحتاج منا أن نتذكر بعض الأمور وننتبه لبعض الأشياء وأولها -يا عباد الله-: إظهار الذلة لله، وكثرة التضرع له -سبحانه وتعالى-، والافتقار إليه والتوجه له والاستكانة به، والفرار والتمسكن له -جل جلاله وعز كماله-؛ يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
فتوجهوا إلى الله متضرعين ذليلين مستكينين منكسرين متوجهين مخبتين، فإن رحمة الله قريب من المحسنين؛ يقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو: "رب أعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسر لي الهدى، وانصرني على من بغى عليّ، اللهم اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا مطواعًا، إليك مخبتًا أو منيبًا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي". رواه الترمذي وحسنه الألباني.
مطلوب منا في ظل هذه الأوضاع المتأزمة أن نتآخى ونتصافى وتسود بيننا روح العفو والمسامحة والإخاء، وتطهير النفوس من الضغائن، وتصفية القلوب من الأحقاد، بل نحتاج إلى ما هو أكبر من ذلك، وهو أن تسود بيننا روح الإيثار ومحبة غيرنا أكثر من محبتنا لأنفسنا، وأن لا نترك في صدورنا مجالاً للمكايدات والمزايدات والحسد، فالظروف لا تسمح بذلك؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "إن الأشعريين -وهم قبيلة من قبائل اليمن- كانوا إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم".
فمدحهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم كانوا إذا نزلت بهم نازلة أو ضاقت بهم ظروف المعيشة تركوا السخيمة والحسد، وجمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية.
فهل نحن مستعدون إذا قلّ المال، وضاق المجال، واستصعب الحال، أن نتشبه بالأشعريين، أو نفعل مثلما فعل الأشعريون، أم أن الأنانية وحب الذات وشدة الطمع والمصلحة الشخصية ونفسي نفسي هي التي ستغلب علينا وتتحكم فينا؟! فعلينا أن نطهر صدورنا، ونسلل سخيمة قلوبنا من اليوم؛ حتى نتمكن من الإيثار والعطاء غدًا، ولا يكن حالنا كحال بعض التجار الذين يستغلون الأوضاع، ويحتكرون السلع، ويخفون المواد الغذائية والمشتقات النفطية، ليظهروها عند الأزمة والحاجة؛ ليحققوا بذلك كسبًا سريعًا، وربحًا مضاعفًا، وهذا ما نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- وحرّمه الإسلام؛ لما فيه من ابتزاز الناس وامتصاصهم واستغلال ظروفهم وحاجتهم؛ يقول الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) [البلد: 11-14].
مطلوب منا في ظل هذه الأجواء الساخنة أن ننمي في أنفسنا الوازع الديني، والضمير الحي، وأن نغرس في قلوبنا وقلوب أهلنا وأبنائنا خوف الله -سبحانه وتعالى-، ومراقبته، حتى لا تتجرأ نفوسنا الأمارة بالسوء في حال استشعارها بسقوط النظام أو ضعفه وذهاب الهيبة وغياب الرقابة، فتتجرأ على فعل المخالفات الشرعية، كسفك الدماء، ونهب أموال الناس، وأذيتهم والتعرض لهم بالقول أو بالفعل، أو الانجرار نحو العصبيات والقبليات والصراعات الجاهلية، ومادام الجميع متفقًا على حرمة الأنفس والأموال والأعراض، فإنه من المؤكد في حال اشتداد الأمور وانفلات الأوضاع ستقوم الأنفس التي لا تخاف الله ولا تراقبه، بانتهاك هذه الحرمات والقيام بممارسة هذه الاعتداءات، وتعريض أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم للانتهاك، فلنتقِّ الله في أنفسنا، ولنجعل الخوف من الله نصب أعيننا، ولنقتدِ بآبائنا وأجدادنا الذين ذاع صيتهم واشتهرت أمانتهم، وعرف العالم كله عفتهم وبعدهم عن مواطن اللوم؛ حتى إن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- كتب إلى واليه في مصر كتابًا يقول له فيه: "لا تولِّ عملك إلا أزديًا أو حضرميًا؛ فإنهم أهل أمانة".
فلنكن خير خلف لخير سلف؛ يقول الله -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7].
مطلوب منا في زمن الفتن والأزمات أن نكون عقلاء رزناء؛ ننظر إلى الأمور بنظرة ثاقبة، ونحسب للتصرفات ألف حساب، ونحذر من الانجرار والاستغفال والانخداع بهذا الفريق أو ذاك، فنحن مسلمون موحّدون نعبد الله وحده لا شريك، ونريد شريعة الله -سبحانه وتعالى- هي الحكم بيننا، هذا ما نريد.
فلنحذر ممن يريد أن يسير بنا خلف الأنظمة البشرية والرايات الجاهلية والشعارات العمية؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو بن العاص: "إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا". وشبك بين أصابعه. قال: فقمت إليه، فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟! قال: "الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة". رواه أبو داود وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
عباد الله: لقد ركب كل فريق رأسه، وأعجب كل ذي رأي برأيه، وقدم كل طرف مصالحه الشخصية والحزبية على المصلحة العامة والمطالب الضيقة على المطالب العليا، وصار الهوى المتبع ظاهرًا في سياسات وتصرفات الأطراف المتنازعة، ولم يصغوا لنصائح الناصحين، ولا لإرشادات المصلحين، واختار الحكام لهم مستشارين خونة يصورون لهم الحقائق على غير وجهها، ويشعرونهم بأن الأمن مستتب، والناس جميعًا محبون لهم على قلب رجل واحد، ولا يوجد من يشاغب ولا يوجد من يخالف، ولا يوجد مظلوم، فتمادى هؤلاء الظلمة في التسويف والمماطلة وعدم الاستجابة لمطالب الناس وحقوقهم، وازدادت الفجوة بينهم وبين شعوبهم، وأعجبتهم سكرة الركون إلى السلطة والاستماع للبطانة السيئة عن تحقيق المطالب المشروعة، فأوصلوا البلاد إلى مهاوي الهلاك ونذر الفتنة وبوادر الحرب وسياسة الأرض المحروقة والخاتمة الممقوتة، وهذا هو الحكم الجبري الذي أخبر عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ثم تكون ملكًا جبريًا"، هذا الحكم الجبري شهدناه وشاهدناه في هذا العصر الذي صار الحكم فيه بقوة السلاح، وسوم الشعب سوء العذاب، وتنحية مظاهر شرع الله -سبحانه وتعالى-، وجعل البلاد رهينة لتصرفات الحاكم وأهله وعشيرته، يأكلون ثرواتها، ويعيثون فيها فسادًا ويمكنون فيها لأعداء الله.
قد طغى عليهم حب الدنيا وطال عليهم الأمد في الظلم والفساد، وأصبحوا لا يميزون بين الخبيث والطيب، ولا يفرقون بين الناصح والكاذب، فقست قلوبهم وأعجبوا بقوتهم ونفوذهم، واغتروا بالأتباع المغرر بهم الذين يرقصون لهم ويلهثون خلفهم، ورحم الله أبا الأحرار -محمد محمود الزبيري رحمه الله- حين هجاهم فقال:
هـي الشاةُ تتبعُ جزّارَها
إذًا فأسباب الهلاك قائمة، وشبح الفتنة يطل برأسه، والمخلصون المحبون لهذه البلاد، الغيورون عليها، واضعون أيديهم على قلوبهم تخوفًا من القادم المجهول، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات؛ فالمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات: تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى"، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة: 48].
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فقد تشكلت لجان شعبية على مستوى الأحياء والمناطق هدفها حفظ الأمن، والحفاظ على أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم، وتوفير السكينة والطمأنينة لهم ليس لها غرض غير ذلك، وهذا عمل جليل، وجهد رائع، يجب أن يلتف حوله الجميع، وأن يتعاون عليه الجميع، كلٌّ بقدر جهده وطاقته وفي حدود تخصصه وإمكانيته.
هذا العمل الطيب يجب على كل قادر أن يساهم فيه بكل ما يستطيع؛ لأن في أيام الفتن والأزمات، وحين يضعف النظام وتكثر الفوضى، يتنبه السراق واللصوص، وتستيقظ عصابات البغي والفساد، التي هي في غاية الخطورة على البلاد والعباد.
فعلينا جميعًا أن نتعاون مع هذه اللجان الشعبية، وأن نقف لهذه العصابات المجرمة بالمرصاد، وأن نحذرهم وأن لا نتعاطف معهم، أو نغض الطرف عنهم، أو نتستر عليهم؛ لأن هؤلاء مجرمون خونة، يشرع للإنسان أن يقاتلهم دفاعًا عن نفسه وماله وأهله؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد".
فجزى الله كل القائمين والمشرفين والمساهمين والمتطوعين على هذه اللجان خير الجزاء، ونوصيهم بالثبات والاستمرار وعدم الملل أو الانقطاع، كما نوصيهم بأن يخلصوا أعمالهم لله؛ فـ"إنما الأعمال بالنيات، وإنا لكل امرئ ما نوى"، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-.