البحث

عبارات مقترحة:

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

وكونوا مع الصادقين

العربية

المؤلف فواز بن خلف الثبيتي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. أهمية الصدق وفضله .
  2. شمولية الصدق وعمومه .
  3. ثمرات الصدق وفوائده .
  4. مجالات الصدق .

اقتباس

أيّها المسلمون: من لزِم الصدقَ في صغَره كان له في الكبرِ ألْزَم، ومن اعتصَم به في حقّ نفسه كان في حقّ الله أعصم، ومن تحرَّى الصدق هُدِي إليه وطابت نفسه وطهُرتْ سريرته وأضاء قلبُه.
عبادَ الله: إنه لا يصحّ التهاونُ في هذا المبدأ، فهو أساسٌ في ديننا، وقد كان عُنوانًا لقدوتنا وأسوتنا محمّدٍ، والذي كانت حياته ....

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله...

أَمَّا بَعدُ:فَاتَّقُوا اللهَ - تعالى -حَقَّ تُقَاتِهِ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

أيها الناس: رحِم الله امرَأً أصلَح من لِسانه، وأقصرَ من عِنانه، وألزم طريقَ الحقِّ مِقالَه.

لقد وصفَ الله بالصدق رسلَه وأنبياءَه وأصفياءَه وأولياءَه، فقال سبحانه: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)[مريم: 54].

أيُّها المسلمون: صِفةُ الصِّدق ليست نَفلاً ولا خِيارًا، إنها فريضةٌ على المسلم وسَجيةٌ للمؤمن، والذي يجِب أن يكونَ باطنه وظاهرُه سواءً في الصدق والوُضوح والطهارة والصفاء.

ومعَ بساطة هذه الصفةِ وإجماعِ الخَلق عليها إلا أننا اليومَ أحوجُ ما نكون إلى التواصِي بالالتزام بها في خِضَمّ أزمة الأخلاق التي يعاني منها الكثيرُ لأسبابٍ يأتي في مقدمها: ضعف الإيمان، وضعفُ التربية، والتهافتُ على الدنيا.

الصدقُ -أيها المؤمنون-: محمَدةٌ في الدنيا والآخرة، وعلامة التقوى، وسببٌ لتكفير السيئات، ورِفعة الدرجات، وكلّ ذلك مجموعٌ في قول الله - عز وجل -: (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الزمر: 33-35].

أما في يوم الجزاء، فاسمع قولَ الله - تعالى -: (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة: 119].

الصّدقُ فضلٌ ونبلٌ، ودَربٌ مضيء، ونَفسٌ سامية، وصاحبُه موفَّقٌ أبدًا لكلِّ خير.

أيّها المسلمون: من لزِم الصدقَ في صغَره كان له في الكبرِ ألْزَم، ومن اعتصَم به في حقّ نفسه كان في حقّ الله أعصم، ومن تحرَّى الصدق هُدِي إليه وطابت نفسه وطهُرتْ سريرته وأضاء قلبُه.

عبادَ الله: إنه لا يصحّ التهاونُ في هذا المبدأ، فهو أساسٌ في ديننا، وقد كان عُنوانًا لقدوتنا وأسوتنا محمّدٍ، والذي كانت حياته أفضلَ مثالٍ للإنسان الكامِل الذي اتَّخذ من الصدق في القول والأمانة في المعاملة خطًّا ثابتًا لا يحيد عنه قيدَ أنملة، وقد كان ذلك فيه بمثابةِ السجيةِ والطبع، فعُرِف به حتى قبل البعثة، ولُقِّب بالصادق الأمين، واشتُهِر بهذا وعُرِف به بين الناس، ولما أُمِر بالجهر بالدعوة، وتبليغ الرسالة جمَع الناسَ وسألهم عن مدى تصديقهم له إذا أخبرهم بأمر، فأجابوا بما عرفوا عنه، قائلين: "ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا".

وانظر إلى هذا الموقفِ من حياةٍ كلّها صدقٌ ونبلٌ ووفاء: عن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بايعتُ النبي ببيعٍ قبل أن يُبعَث، وبقيَت له بقيّة، فوعدتُه أن آتيَه بها في مكانه، فنسيتُ، ثم ذكرتُ بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: "يا فتى، لقد شَققْت علَيّ، أنا ها هُنا منذ ثلاث أنتظِرُك"[رواه أبو داود].

ثلاثة أيام وهو يأتي في نفس الموعِد إلى المكان المتَّفق عليه وفاءً وصِدقًا.

واستمرَّ هذا المبدأ الراسخ معه منذ طفولته حتى توفِّي، لم يكذب كِذبةً واحدة، بل كان الكذِب أبغضَ خلقٍ إليه، قالت عائشة - رضي الله عنها -: "ما كان مِن خلقٍ أبغَض إلى رسول الله من الكذب، ولقد كان الرجل يكذِب عنده الكِذبة فما يزالُ في نفسهِ حتى يعلَمَ أنه قدْ أحدَث فيها توبة"[أخرجه الإمام أحمد وابن حبان].

أيها الإخوة في الله: اعلَمُوا أَنَّ الصِّدقَ لَيسَ خَاصًّا بِالقَولِ كَمَا يَفهَمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ خُلُقٌ يَتَّسِعُ لِيَكُونَ عَمَلاً قَلبِيًّا يَتعلَّقُ بِالنِّيَّاتِ وَالمَقَاصِدِ، وَجَسَدِيًّا يَظهَرُ على الأَعضَاءِ وَالجَوَارِحِ، حَيثُ يَتَمَيَّزُ الصَّادِقُ بِالصِّدقِ في النِّيَّةِ وَالمَقصِدِ وَالصِّدقِ في القَولِ وَالصِّدقِ في العَمَلِ، فَلا تَرَاهُ مُخَالِفًا لِلحَقِيقَةِ في قَولِهِ، وَلا مُتَحَدِّثًا بما يَعلَمُ أَنَّ الوَاقِعَ خِلافُهُ، وَلا تَجِدُهُ مُخَالِفًا في عَمَلِهِ لِمَا يَقُولُ وَيَعتَقِدُ، وَلا قَائِلاً بما لا يَستَطِيعُ فِعلَهُ، وَتَرَاهُ إِذَا حَصَّلَ عِلمًا عَمِلَ بِهِ، وَلَزِمَ ذَلِكَ العَمَلَ وَاستَقَامَ عَلَيهِ مَا بَقِيَ حَيًّا، وَالصِّدقُ عَلَى هَذَا مُرَادِفٌ لِلاستِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ، وَالصَّادِقُ بِذَلِكَ ثَابِتٌ مُستَقِيمٌ عَلَى الأَمرِ وَالنَّهيِ، قال سبحانه: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البقرة: 177].

قال ابنُ كَثِيرٍ - رحمه الله -: (أُولَئِكَ الذِينَ صَدَقُوا) أَيْ: هَؤُلاءِ الذين اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الذين صَدَقُوا في إِيمَانِهِم؛ لأَنهم حَقَّقُوا الإِيمَانَ القَلبيَّ بِالأَقوَالِ وَالأَفعَالِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الذِينَ صَدَقُوا، وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ؛ لأَنَّهُمُ اتَّقُوا المَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ".

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مَا بَلَغَ مَن بَلَغَ مِن مُتَقَدِّمِي هَذِهِ الأُمَّةِ وَلا امتُدِحُوا وَفَازُوا وَأَفلَحُوا إِلاَّ بِصِدقِهِم مَعَ رَبِّهِم، وَوَفَائِهِم بما عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ، قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)[الأحزاب: 23-24].

وقال سبحانه مُمتَدِحًا المُهَاجِرِينَ -رضي الله عنهم-: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحشر: 8].

قال ابنُ كَثِيرٍ - رحمه الله -: "أَيْ: هَؤُلاءِ الذِينَ صَدَّقُوا قَولَهُم بِفِعلِهِم، وَهَؤُلاءِ هُم سَادَاتُ المُهَاجِرِينَ، وَلَمَّا ادَّعَى قَومٌ الإِيمانَ وَكَأَنَّهُم يَمُنُّونَ بِهِ، قال تعالى مُوَضِّحًا حَقِيقَةَ الإِيمَانِ الكَامِلِ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحجرات: 15].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ لا نجاةَ وَلا فَوزَ في يَومِ الدِّينِ، وَلا فَلاحَ ولا تَوفِيقَ إِلاَّ لِلصَّادِقِينَ، وَالصِّدقُ خَيرٌ لِلمُتَّقِينَ، قال جل وعلا: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ)[محمد: 21].

وقال سبحانه: (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة: 119].

وقال سبحانه: (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[الزمر: 33].

وَأَخرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلى رَسُولِ اللهِ مِن أَهلِ نَجدٍ ثَائِرَ الرَّأسِ يُسمَعُ دَوَيُّ صَوتِهِ وَلا يُفقَهُ مَا يَقُولُ، حتى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسأَلُ عَنِ الإِسلامِ، فقال رَسُولُ اللهِ: "خمسُ صَلَواتٍ في اليَومِ وَاللَّيلَةِ" فقال: هَل عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قال: "لا إِلاَّ أَن تَطوعَ" قال رَسُولُ اللهِ: "وَصِيَامُ رَمَضَانَ" قال: هَل عَلَيَّ غَيرُهُ؟ قال: "لا إِلاَّ أَن تَطوعَ"، قال: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ الزَّكَاةَ، قال: هَل عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قال: "لا إِلاَّ أَن تَطوعَ"، قال: فَأَدبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنقُصُ، قال رَسُولُ اللهِ: "أَفلَحَ إِن صَدَقَ".

 بَل إِنَّ الصَّادِقَ مَعَ اللهِ لا يُخَيِّبُهُ اللهُ فِيمَا رَجَاهُ، فَقَد رَوَى النَّسَائِيُّ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعرَابِ جَاءَ إِلى النَّبيِّ فَآمَنَ بِهِ واتَّبَعَهُ، ثم قال: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوصَى بِهِ النَّبيُّ بَعضَ أَصحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَت غَزَاتُهُ غَنِمَ النَّبيُّ فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعطَى أَصحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرعَى ظَهرَهُم، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيهِ، فقال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قَسمٌ قَسَمَهَ لَكَ النَّبيُّ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إلى النَّبيِّ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قال: "قَسَمتُهُ لَكَ"، قَال: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعتُكَ، وَلَكِنِ اتَّبَعتُكَ عَلَى أَن أُرمَى إِلى هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلى حَلقِهِ بِسَهمٍ فَأَمُوتَ فَأَدخُلَ الجَنَّةَ، فقال: "إِن تَصدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ"، فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثم نَهَضُوا إِلى قِتَالِ العَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ إِلى النَّبيِّ يُحمَلُ قَد أَصَابَهُ سَهمٌ حَيثُ أَشَارَ، فقال النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم: "أَهُوَ هُوَ؟" قَالُوا: نَعَمْ، قال: "صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ".

بَل إِنَّ جَزَاءَ الصَّادِقِ لَيَتَجَاوَزُ ذَلِكَ بِفَضلِ اللهِ وَرَحمَتِهِ، حتى إِنَّهُ - تعالى- لَيَمُنُّ عَلَى العَبدِ بِصِدقِ نِيَّتِهِ فَيُؤتِيهِ أَجرَ العَامِلِ وَلَو لم يَعمَلْ، قال: "مَن سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ مِن قَلبِهِ صَادِقًا بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِن مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ". 

أَمَّا كَلِمَةُ التَّوحِيدِ فَإِنَّ لها مَعَ الصِّدقِ شَأنًا عَظِيمًا، قال: "مَن مَاتَ وَهُوَ يَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ صَادِقًا مِن قَلبِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ".

وَالمُؤمِنُ لا بُدَّ أَن يَقَعَ في الذُّنُوبِ، وَلَكِنَّهُ متى صَدَقَ في التَّوبَةِ وَاستَغفَرَ رَبَّهُ بِيَقِينٍ لم يَكُنْ لَهُ دُونَ الجَنَّةِ جَزَاءٌ، قال عليه الصلاة والسلام: "سَيِّدُ الاستِغفَارِ أَن تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ، خَلَقتَني وَأَنا عَبدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهدِكَ وَوَعدِكَ مَا استَطَعتُ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا صَنَعتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنبي، فَاغفِرْ لي فَإِنَّهُ لا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنتَ"، قَالَ: "وَمَن قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بها فَمَاتَ مِن يَومِهِ قَبلَ أَن يُمسِيَ فَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ، وَمَن قَالَهَا مِنَ اللَّيلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبلَ أَن يُصبِحَ فَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ".

بَل حتى الدُّنيَا وَمَا فِيهَا مِنَ التَّعامُلِ فَإِنَّهُ لا يَستَقِيمُ حَالُهَا إِلاَّ لِمَن صَدَقَ، قال: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، فَإِن صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بَيعِهِمَا، وَإِن كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَت بَرَكَةُ بَيعِهِمَا".

وعن رفاعةَ - رضي الله عنه - أنه خرج مع النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- إلى المصلَّى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: "يا معشر التُّجار"، فاستجابوا لرسول الله، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: "إن التجار يُبعَثون يومَ القيامةِ فجَّارا إلا مَن اتقى الله وبرَّ وصدق" [رواه الترمذيّ وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديثٌ حسن صحيح"].

بَل إِنَّهُ مَا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ مِن خَيرٍ وَلا بِرٍّ إِلاَّ وَمَنشَؤُهُ الصِّدقُ، وَمَا مِن شَرٍّ وَلا فُجُورٍ إِلاَّ وَبِدَايَتُهُ الكَذِبُ، شَاهِدُ ذَلِكَ مَا صَحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قال: "عَلَيكُم بِالصِّدقِ؛ فَإِنَّ الصِّدقَ يَهدِي إِلى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهدِي إِلى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدقَ حتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُم وَالكَذِبَ؛ فَإِنَّ الكَذِبَ يَهدِي إِلى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذَّابًا".

قال ابنُ القَيِّمِ - رحمه الله -: "فَكُلُّ عَمَلٍ صالحٍ ظاهرٍ أو بَاطِنٍ فَمَنشَؤُهُ الصِّدقُ، وَكُلُّ عَمَلٍ فَاسِدٍ ظَاهِرٍ أو بَاطِنٍ فَمَنشَؤُهُ الكَذِبُ، وَاللهُ - تعالى - يُعَاقِبُ الكَذَّابَ بِأَن يُقعِدَهُ وَيثَبِّطَهُ عَن مَصَالحِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَيُثِيبُ الصَّادِقَ بِأَن يُوَفِّقَهُ لِلقِيَامِ بمصالحِ دُنيَاهُ وَآخِرَتِهِ، فَمَا استُجلِبَت مَصَالحُ الدُّنيا وَالآخِرَةِ بِمِثلِ الصِّدقِ، وَلا مَفَاسِدُهما وَمَضَارُّهما بِمِثلِ الكَذِبِ".

ألا فاجعَلوا الصدقَ لكم شعارًا ودِثارًا، والزَموه إعلانًا وإِسرارًا؛ يجعَلِ الله التقوى في قلوبكم والتوفيقَ والنورَ في دروبكم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه....

أمَّا بَعدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ - تعالى - وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ.

ثم اعلَمُوا أَنَّ الصِّدقَ خُلُقٌ شَامِلٌ، يَدخُلُ فِيهِ الصِّدقُ في الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ وَالأَحوَالِ، قال ابنُ القَيِّمِ - رحمه الله -: "فَالصِّدقُ في الأَقوَالِ استِوَاءُ اللِّسَانِ على الأَقوَالِ كاستِوَاءِ السُّنبُلَةِ على سَاقِهَا، وَالصِّدقُ في الأَعمَالِ استِوَاءُ الأَفعَالِ على الأَمرِ وَالمُتَابَعَةِ كاستِوَاءِ الرَّأسِ على الجَسَدِ، وَالصِّدقُ في الأَحوَالِ استِوَاءُ أَعمَالِ القَلبِ وَالجَوَارِحِ على الإِخلاصِ وَاستِفرَاغِ الوُسعِ وَبَذلِ الطَّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ العَبدُ مِنَ الذِينَ جَاؤُوا بِالصِّدقِ، وَبِحَسَبِ كَمَالِ هَذِهِ الأُمُورِ فِيهِ وَقِيَامِهَا بِهِ تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ".

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ أَمرَ الصِّدقِ عَظِيمٌ وَشَأنَهُ جَلِيلٌ، وَإِنَّ الأُمَّةَ لم تُؤتَ في مَاضٍ وَلا حَاضِرٍ إِلاَّ مِن قِبَلِ عَدَمِ صِدقِهَا مَعَ رَبِّهَا، لَكِنَّهَا لم تُبتَلَ بِعَدَمِ الصِّدقِ بِمِثلِ مَا بُلِيَت بِهِ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ التي كَثُرَ فِيهَا الدَّجَّالُونَ وَالأَفَّاكُونَ، وَوُجِدَ فِيهَا المُتَكَلِّمُونَ المُتَفيهِقُونَ، وَلا سِيَّمَا مِنَ الصَّحَفِيِّينَ وَالإِعلامِيِّينَ، الذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفعَلُونَ، وَيَتَحَدَّثُونَ فِيمَا لا يَعلَمُونَ، وَيُدخِلُونَ أَنفُسَهُم فِيمَا يُحسِنُونَ وَمَا لا يُحسِنُونَ، وَيُنَصِّبُونَ أَنفُسَهُم لِلتَّحكِيمِ في شُؤُونِ الأُمَّةِ وَأُمُورِ المُسلِمِينَ، حتى على المَعلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، فَضلاً عَنِ القِيَمِ وَالمَبَادِئِ وَالأَخلاقِ، وَصَدَقَ النبي-صلى الله عليه وسلم- حَيثُ قال: "إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنطِقُ فِيهَا الرُّوَيبِضَةُ"، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيبِضَةُ؟ قال: "المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ".

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَقوَالِهِم، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَعمَالِهِم، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَحوَالِهِم، اُصدُقُوا اللهَ يَصدُقْكُم، اُصدُقُوا مَعَ أَنفُسِكُم وَإِخوَانِكُم، اُصدُقُوا في بَيعِكُم وَشِرَائِكُم وَمُعَامَلاتِكُم، اُصدُقُوا في أَخذِكُم شَرَائِعَ دِينِكُم، لا تُكُونُوا ممَّن يُؤمِنُ بِبَعضٍ وَيَكفُرُ بِبَعضٍ، بَل خُذُوا مَا أُوتِيتُم بِقَوَّةٍ وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلا تَتَرَدَّدُوا وَلا تَرتَابُوا، إِنَّ اللهَ أَكرَمُ مِن أَن يُخَيِّبَ صَادِقًا، وأَجوَدُ مِن أن يَرُدَّ صَادِقًا، وَلَو صَدَقَ المُسلِمُونَ مع ربهم وصدقوا في دينهم لنصَرُهم الله وَلقَادُوا العَالمَ، وَلَو صَدَقَ النَّاسُ بَعضُهُم بَعضًا لمَا احتَاجُوا لمَحكَمَةً وَلا قَاضِيًا، وَلَو صَدَقَ بَعضُنَا بَعضًا لَتَلاشَتِ المُنكَرَاتُ وَاختَفَتِ المُخَالَفَاتُ، وَلو صَدَقَ بَعضُنَا بَعضًا لَطَابَت لنا الحَيَاةُ، وَلَذَهَبتِ الهُمُومُ وَقُضِيَت الحَاجَاتُ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ الثَّبَاتَ في الأَمرِ وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرَّشدِ، وَنَسأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحمتِكَ وَعَزَائِمَ مَغفِرَتِكَ، وَنَسأَلُكَ شُكرَ نِعمَتِكَ وَحُسنَ عِبَادَتِكَ، وَنَسأَلُكَ قُلُوبًا سَلِيمَةً وَأَلسِنَةً صَادِقَةً، وَنَسأَلُكَ مِن خَيرِ مَا تَعلَمُ وَنَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا تَعلَمُ، وَنَستَغفِرُكَ لِمَا تَعلَمُ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ.