المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
يظن بعض الناس أن التحذير من الشرك والحديث عنه لا يناسب عند قومٍ الظاهر من أحوالهم أنهم موحِّدون، وهذا ظن خاطئ؛ لأن القرآن كله، والشريعة كلها، إنما جاءت لتقرر لزوم إفراد الله تعالى بما يستحق، وتحذِّر من سلوك سبيل المشركين، وتبيِّن مآلهم. فلو كان نصف حديث الناس، أو أكثره، عن التحذير من هذا الذنب العظيم –الذي هو أعظم الذنوب- لما كان ذلك مستكثَراً عند من يفهم شريعة الله تعالى فهماً صحيحاً ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون: تمر على العبد المتبصر لحظات يتفكر فيها في هذا العالم الواسع، بما أودع الله تعالى فيه من كائنات ومخلوقات، لها وظائف وأعمال، من إنسان وحيوان ونبات وجماد، من أرض وسماوات، وأنجم وأفلاك، من بحار وأنهار وأحجار وجبال، كلها وغيرها خلقها الله تعالى لحكم بالغة، ومعان عظيمة، يدرك البشر منها بما آتاهم الله من عقول ومبتكرات ما يدركون، ويجهلون كثيراً من ذلك.
وحين ما يحرك الإنسان ذاكرته، ويعود بها إلى الوراء، يتذكر الأطوار التي مرّ ويمر بها من طفولة وصبا، وشباب وكهولة، وهرم وشيخوخة.
وقبل تلك الأطوار كلها كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم جنيناً ينتظر الخروج إلى الدنيا؛ وقبل ذلك لم يكن له وجود ولا أثر، ولا ذكر ولا خبر: (هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان:1-3].
إذن، فالغاية التي خلق من أجلها هذا المخلوق الضعيف أن يكون شكوراً، يفرد الله تعالى بالعبادة، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، ومن أظلم الظلم، وأقبح القبائح، أن يشرك العبد مع الله غيره بعد أن خلقه الله واصطفاه، وسخر له المخلوقات، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب؛ فكان أعظم الذنوب الشرك بالله تعالى، بأن يساوي غير الله بالله فيما هو من خصائص الله تعالى، فكيف يُساوى الخالق الرازق الملك المدبر بالمخلوق الذي لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟!.
وهذه الحقيقة تظهر للمشركين يوم القيامة فيقولون لمعبوداتهم من دون الله تعالى: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء:97-98]. وجاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكأنه أبطأ بهن. فأوحى الله إلى عيسى: إما أن يبلغهن، أو تبلغهن. فأتاه عيسى فقال له: إنك أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أبلغهن، فقال له: يا روح الله، أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي؛ فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرفات، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن: وأولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثَل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق ثم أسكنه داراً فقال: اعمل وارفع إليَّ -أي ائتني بما تكسبه- فجعل العبد يعمل ويرفع إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً... " ثم ذكر الصلاة والصيام والصدقة والذكر ... الحديث. أخرجه أحمد والترمذي بإسناد صحيح.
فالشرك من الكبائر، بل هو أكبر الكبائر؛ لذا حرمت على صاحبه المغفرة والجنة، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء:116]، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة:72].
وكثيراً ما يحذر الله من الشرك عقب الأمر بالتوحيد؛ لئلا يشوب التوحيد شرك: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) هذا أمر بالتوحيد، وسبب هذا التوحيد: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ)، ثم عقب ذكر التوحيد وسببه حذر من الشرك، (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:22].
ويروي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الله تعالى أنه قال: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه فقال: "لا تشرك بالله شيئاً، وإن قُطّعت وحُرّقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر، فإنها مفتاح كل شر" أخرجه ابن ماجه.
أيها الإخوة: يظن بعض الناس أن التحذير من الشرك والحديث عنه لا يناسب عند قومٍ الظاهر من أحوالهم أنهم موحدون، وهذا ظن خاطئ؛ لأن القرآن كله، والشريعة كلها، إنما جاءت لتقرر لزوم إفراد الله تعالى بما يستحق، وتحذر من سلوك سبيل المشركين، وتبين مآلهم.
فلو كان نصف حديث الناس، أو أكثره، عن التحذير من هذا الذنب العظيم –الذي هو أعظم الذنوب- لما كان ذلك مستكثَراً عند من يفهم شريعة الله تعالى فهماً صحيحاً.
فالقرآن العظيم جاء يحذر المشركين من شركهم؛ ليأخذ بأيديهم إلى التوحيد والهداية والنجاة، (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات:50-51].
وكل رسول كان يقول لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف:59]، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25]، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36].
ولم يقتصر التحذير من الشرك على الكفار فقط؛ بل حذر الله المؤمنين منه، وأمرهم بالإيمان مع إيمانهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً) [النساء:136]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) [الحديد:28]. والعبد المؤمن قد هداه الله تعالى، ودله طريقه المستقيم، ومع ذلك يقرأ في كل ركعة من كل صلاة يصليها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6].
ولعظيم أمر الشرك، لا يكتفي القرآن بتحذير المشركين والمؤمنين منه؛ بل يحذر الله الأنبياء والمرسلين من الوقوع في الشرك -وهم معصومون منه-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) [الحج:26].
وبعد أن ذكر الله تعالى جملة من الأنبياء في كتابه قال: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:88]. قال العلماء: "فإذا كان ينهى عن الشرك مَن لا يمكن أن يباشره، فكيف بمن عداه؟". هذا الخليل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يخبر الله تعالى عنه فيقول: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]. إبراهيم الذي كسر الأصنام بيده، وتبرأ من قومه، فجعله الله تعالى أسوة للموحدين، (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة:4]، وقد أخبر الله تعالى أنه أمة وحده، ونفى عنه الشرك: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل:120]، إبراهيم الذي ألقاه قومه في النار من أجل إزالة الشرك يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ) [إبراهيم:35-36].
قال إبراهيم التيمي -رحمه الله تعالى-: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!"، وقال الشيخ سليمان بن عبد الله أحد أئمة الدعوة: "وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله، وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبح، وأظلم الظلم؛ إذ مضمونه تنقيص رب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدلُ غيره به، كما قال تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام:1]. ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غايةُ المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته، والذل له" اهـ.
ويقول أيضاً: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ)، أي: اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيني وبينهما. وإنما دعا إبراهيم بذلك لأن كثيراً من الناس افتتنوا بها، كما قال: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ)، فخاف من ذلك ودعا الله أن يعافيه وبنيه من عبادتها، فإذا كان إبراهيم -عليه السلام- يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام، فما ظنك بغيره؟!.
وهذا يوجبُ للقلب الحيِّ أن يخاف من الشرك، لا كما يقول الجُهال: "إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، فأمِنوا الشرك فوقعوا فيه". انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.
إذن -أيها الإخوة- يجب أن لا نأمن من الشرك، ولا نأمن النفاق؛ إذ لا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا المؤمن، قال ابن أبي مليكة -رحمه الله تعالى-: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه" أخرجه البخاري؛ وعمر -رضي الله عنه- يمسك حذيفة ويقول: "أنشدك الله! هل سماني لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع من سمى من المنافقين؟!".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم:30-32].
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28]
أيها الإخوة المؤمنون: كما حذر الله الكافرين من الشرك، وحذر المؤمنين والمرسلين منه؛ فإنه تعالى خاطب إمام الموحدين وسيد المرسلين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- يحذره من الشرك -وقد عصمه منه-، وتحذيره -عليه الصلاة والسلام- تحذير لأمته: (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [القصص:87].
وقال تعالى له: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) [الإسراء:22]. وفي آية أخرى (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء:39].
وأُمر -عليه الصلاة والسلام- أن يقول: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ) [الرعد:36].
ويخبره تعالى بأنه أوحى إليه وإلى النبيين من قبله أن الشرك محبط للعمل، (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الزمر:65-66].
وإذا كان الشرك بهذه الخطورة المتناهية فانه يجب على العبد أن لا يأمنه على نفسه، ولا سيما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خاف على صحابته الوقوع في الشرك الأصغر, روى أبو سعيد مرفوعا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل".
قال العلماء -رحمهم الله-: فلذلك صار خوفه -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه من الرياء أشدّ؛ لقوة الداعي وكثرته دون الشرك الأكبر... مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته؛ فدل على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر؛ فإذا كان الأصغر مخوفاً على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر؛ لنقصان إيمانه ومعرفته بالله تعالى...".
أيها الإخوة: من صور الشرك القبيحةِ الطوافُ بالقبور والأضرحة، والذبح عندها، والصلاة لها أو إليها، ودعاء الأموات، مما هو منتشر في كثير من البلاد الإسلامية؛ بسبب الجهل، وتمكن البدعة.
كذلك من مظاهر الشرك الحكم بغير ما أنز الله تعالى، وفصل الدين عن الدولة، ورفض بعض أحكام الشرع، والمناداة بالتحرير من تعاليم الإسلام؛ بحجة أنه لا يواكب العصر، مما يصيح به الأفاكون والمنافقون؛ وكل ذلك انتقاص لرب العالمين الذي شرع الدين وأوجبه.
كذلك من مظاهر الشرك: الهزل بشيء من تعاليم الشريعة مهما دق، والاعتراض على ما قدر الله تعالى، وسبُ الدهر والريح، والحلف بغير الله تعالى، والرياءُ، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا، وغير ذلك كثير مما يجب الحذر والتحذير منه.
ولا يكون العبد حذراً منه إلا إذا تعلمه وفهمه حتى لا يقع في شيء يخل بإيمانه وهو لا يعلم، يقول حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-: "كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني" أخرجه البخاري.
أسأل الله تعالى أن يميتنا على توحيده، وأن يتولانا برحمته، إنه سميع مجيب، وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم.