الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
والودود -سبحانه- هو المحبوب من عباده الصالحين؛ لما عرفوا من كماله في ذاته وصفاته وأفعاله؛ إذ إنه المستحق لأن يُوَد فيُعبَد ويُحمَد وحده؛ لكماله وجماله وجلاله وعظيم إحسانه، فهو أحب إليهم من كل شيء، إليه ودًّا ومحبة وإنابة...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. [حديث خطبة الحاجة أخرجه أبو داود (2118) وصححه الألباني].
يا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظموه حق تعظيمه، وأحبوه لما يغذوكم به من نعمه، ولما أسبغ عليكم من ستره ولطفه وكرمه، واعلموا أن ودّ الله -سبحانه- عمَّ عباده كلهم، فقد وصلهم ببره، ومدّهم بإحسانه، ووسعهم بعدله وغفرانه، ولطف بهم، وغفر لهم مساوئ أعمالهم، فهو اللطيف الودود الغفور، يتحبب إلى العاصين برحمته ومغفرته، ويتحبب إلى الخلق كلهم بالعطاء والرفق، وإذا كان الإنسان قد يغفر لمن أساء إليه مع أنه لا يحبه، كما أنه قد يرحم من لا يُحب، فإن الرب -سبحانه- يغفر لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه ويحبه، فالودود يحب التوابين من عباده، ويفرح بهم أشد الفرح، يرضى عنهم، ويقبل صالح أعمالهم، ويحسن إليهم لأجلها، ويثيبهم عليها، والودود -سبحانه- يحب لعباده أن يسعدوا في دنياهم، ويغنموا في أخراهم؛ لأنه الرحيم الودود رءوف بالعباد -سبحانه-.
أيها المؤمنون: كل إنسان في هذه الحياة يحب أن يكون محبوبًا ممن حوله، مقبولاً في مجتمعه، يُحِب ويُحَب، ويُعرَف ويُشكر، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يحبه الودود -سبحانه- ويُحبّبه إلى خلقه، ويرفع له ذكره، وينشر له الثناء الحسن بين خلقه، سواء في حياته أو بعد مماته، فلا شك أن الود والمحبة كلها من الله -سبحانه-، فالله -عز وجل- هو الودود الذي يؤيد رسله وعباده الصالحين بمعيته الخاصة، فلا يخيّب رجاءهم ولا يرد دعاءهم، وهو عند حُسْن ظنهم به، وهو الودود لعامة خلقه بواسع كرمه وسابغ نعمه، يرزقهم ويؤخر العقاب عنهم؛ لعلهم يرجعون إليه-سبحانه- وتعالى.
وتيقنوا -عباد الله- أن الله -سبحانه- هو الودود المحب لأنبيائه وملائكته وعباده الصالحين، والمودِّد الذي يُوجِد الودّ بين عباده ويخلق الحب فيما بينهم، وهو المودود المحبوب من خلقه، فلا شيء أحب إليهم منه، واعلموا أن محبة الله في قلب العبد يجب أن تكون سابقةً لكل محبة، وغالبةً لكل مودة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) [البقرة: 165]، وقال -جل وعلا-: (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود: 90]، وقال -تبارك وتعالى-: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج: 14].
أيها المسلمون: أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية فوصف نفسه بأنه الودود، وهو اسم يُسعِد العباد؛ مُحبَب إلى القلوب والنفوس؛ كونه يرتبط بالحنان والعطف، والرحمة والحُبّ، وقد ورد هذا الاسم العظيم في القرآن العظيم في سورتين: في سورة هود، قال الله تعالى حكاية عن شعيب -عليه السلام- مخاطبًا قومه: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إليه إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود: 90]، والمرة الأخرى في سورة البروج في معرض ذكر عدد من صفات الله -تبارك وتعالى-, قال -سبحانه-: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [البروج: 14 - 15]. وورد اللفظ دالاً على الفعل كما في قوله -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم: 96]، وقوله -تبارك وتعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إليها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 21].
واعلموا -أيها المسلمون- أنه لا فرق بين المودة والمحبة، بل هما بمعنى واحد، إلا أن الود أشمل وأعم من الحب، فالحب يعبّر عن المشاعر النفسية داخل الإنسان، أي: ما تُكنّه في قلبك للآخرين، والود يعني التعبير بالأفعال عن تلك المشاعر، أي أن الحب إحساس داخلي، والود ترجمة وتحويل تلك الأحاسيس الداخلية لأفعال وتصرفات، فحينما تُكِنّ لأخٍ لك مشاعر جميلة في قلبك، فهذا حبّ، لكن عندما تبتسم في وجهه، أو تقدم له خدمةً أو هدية، فإن ذلك تعبير منك عما في باطنك من حب وتقدير، ولله رب العالمين المثل الأعلى في السموات والأرض، فهو الودود لعباده المخلصين، اللهم اجعلنا منهم.
ولهذا فكل ودود مُحبّ، وليس كل مُحِبّ ودودًا، ففي الحديث القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" [البخاري (3209)]. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وما ألطف اقتران اسم الله الودود بالرحيم! فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه، ولا يحبُّه، وكذلك قد يرحم من لا يُحبُّ، والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه ويحبُّه مع ذلك؛ فإنه "يحب التوابين"، وإذا تاب إليه عبده أحبَّه، ولو كان منه ما كان". [التبيان في أقسام القرآن، 124].
أيها المسلمون: والودود -سبحانه- هو المُحِبّ الذي يحب رسله وأنبياءه، وأتقياه وأولياءه، يتودد إليهم بالمغفرة والرحمة، يقبل توبتهم، ويرفع أعمالهم، ويرضى عن سعيهم، ويحبّبهم إلى خلقه، كما في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم: 96]، أي: سيجعل لهم محبة وودادًا في قلوب أوليائه، وقبولاً عند أهل السماء والأرض، وإذا أحبّهم الآخرون صار لهم في قلوبهم مكانةً وقدرًا، وتيسرت كثير من أمورهم، وحصل لهم من الخيرات والقبول والإمامة ما تقرّ به أعينهم، وتنشرح به صدورهم، وتسعد به حياتهم.
وهذا الحب هو أرقى مستويات الحب وأنقاه، وأعلى درجاته وأصفاه؛ إذ ليس فيه حِقد، فربما أحببتَ إنسانًا لكنك مع حبك قد تحقد عليه، أما الله تعالى فحاشا وكلا، يتودد إلى أوليائه، ويُحب أنبياءه وعباده الصالحين، فيملأ حُبّه سمعهم وبصرهم وقلوبهم، وجوارحهم وأرواحهم؛ فيكون أحبَّ إليهم من أنفسهم وأولادهم، ومن كل محبوب في الأرض.
والودود -سبحانه- هو المحبوب من عباده الصالحين؛ لما عرفوا من كماله في ذاته وصفاته وأفعاله؛ إذ إنه المستحق لأن يُوَد فيُعبَد ويُحمَد وحده؛ لكماله وجماله وجلاله وعظيم إحسانه، فهو أحب إليهم من كل شيء، إليه ودًّا ومحبة وإنابة.
والودود -سبحانه- هو وقد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم الذي يزرع الود في القلوب، ويؤلف بين المختلفين بقدرته -سبحانه-، ولا يقدر على ذلك إلا الله -جل في علاه-، قال -تبارك وتعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : 21] أي محبة ورأفة حادثة، لم تكن بينكم من قبل، وهذا من جميل صنعه وكمال قدرته، ونفوذ إرادته، وقوة اقتداره، وسعة رحمته وإحسانه؛ إذ المودة تعني علاقة الحب المتبادل في رحلة الحياة الزوجية وشراكتها، ويفسّر هذا ما نلمسه من تآلف وتأقلم بين الزوجين في وقت وجيز.
وقد أخبر تعالى عن يحيى –عليه السلام- أنه منحه حنانًا منه، فقال تعالى: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) [مريم: 13]؛ ولأن يحيى -عليه السلام- وهبه الله لوالديه مع تقدم العمر، والضعف الملموس، فإن طفلاً مثل يحيى -عليه السلام- يحتاج من الرعاية والحنان ما يعوضه حنان والديه، كما يحتاج إلى مَنْ يُعلِّمه ويُربِّيه، لذلك تولِّى الحق -سبحانه- وتعالى هذه المهمة؛ رحمةً منه ورأفة، فتيسرت بها أموره، وصلحت بها أحواله، واستقامت عليها أفعاله.
واعلموا -إخواني- أن الودود -سبحانه- يؤلف بين القلوب بعد التفرق والتنافر، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا..) [آل عمران: 103]، ويزرع الوداد بين المؤمنين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". [مسلم (4685)].
يا عباد الله: كثيرة هي الصور الدالة والناطقة بعظيم ودّ الله لخلقه ورحمته بهم، ومن أهم مظاهر ودّ الله ولطفه بخلقه: أن الكون مليء بما يتودد الله به إلينا. فإذا كنا نشعر بالأنس والسعادة مع الودود من الناس -أزواجًا كانوا أم أصدقاء أو غيرهم- على ما فيهم من نقص، فكيف يكون أنسنا بالودود -سبحانه- وتعالى؟!.
ومن لطيف ود الله تعالى بعباده في جميع أحوالهم: أن تودد إليهم بنعمه المتوالية، وما شرعه لهم من الأحكام الميسرة، وقبول توبتهم إذا تابوا، ويفرح بذلك، كما قال -سبحانه-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء: 27].
ومن لطف الودود وإحسانه المحيط: علمه بضعف الإنسان من جميع الوجوه؛ ضعف في عزيمته وإيمانه، وضعف في صبره وبدنه، وضعف في تصوره وإرادته، فلعلم الله تعالى المسبق؛ حيث إنه الذي خلقه، يعلم مواطن ضعفه وقصوره، فخفّف عنه ما لا يطيقه، قال -سبحانه-: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]، وفي الأحكام والتكاليف راعى ربنا قدرة العبد واستطاعته، فقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، أي أن الودود يريد لكم التخفيف، ويريد بكم اليسر والسهولة، ولا يريد بكم العسر والمشقة، ولا يحب لكم العنت!.
ومن وده -سبحانه- رغبته في صلاح عباده، ونيلهم خيره وفضله في الدنيا، ونعيمه ورضاه في الآخرة، فهو يتودد إلى عباده بحسن خطاب، وأجمل عتاب، فسبحانه من ودود يعاتبك بودٍّ ويقول: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) [الحديد:16]، فعتابه ليس مؤلمًا، وتأنيبه ليس محزنًا، فسبحان الودود الرحيم.
ومن وده -سبحانه- وتعالى: ذكر الحكمة من مشروعية بعض تشريعاته أحيانًا، فمن ذلك مثلاً فرض الحجاب على النساء، فقد بيّن الله تعالى أنه لا يريد سوى صيانتهن من الأذى، وحفظهن من العبث وتهكم الفاسدين بهن، وليس ذلك إلا من قبيل ودّه ورفقه بهن، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب:59]. فلو فهمت المسلمة الحجاب بهذا الشكل، وأنه صيانة لها وحماية، وعبادة وقربة؛ لذابت شوقًا إلى الحجاب والستر.
أيها المسلمون: إن من علامات محبة الله للعبد ووده له: أن ييسر له الأسباب، ويهوّن عليه كل عسير، ويوفّقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأن يُقبِل بقلوب العباد إليه بالمحبة والوداد، وأن يَقْبَل منه القليل من العمل، ويغفر له الكثير من الزلل.
اللهم إنا نسألك ودك وحبك يا كريم، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
اتقوا الله -عباد الله- واعبدوه، واشكروا له، وأخلصوا دينكم له، وأحبوا إخوانكم المسلمين، وابذلوا لهم خالص الود والرحمة، وافرحوا لفرحهم، واحزنوا لمصابهم، واعلموا أن المسلم الودود يكون كثير الودّ للمسلمين، يحب الخير للآخرين، فيحب للعاصي التوبة والمغفرة، وللمطيع الثبات وحسن المنزلة، ويعفو عمن أساء إليه، ويلين مع البعيد كما يلين مع أقرب الناس إليه، ويكون ودودًا قريبًا، لطيفًا مجيبًا، مراعيًا بحبه لأهله وعشيرته، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أصابه قومه في رباعيته، ولم يمنعه ذلك أن يطلب لهم العفو والمغفرة، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه قال-: "كأني أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ؛ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ" [البخاري 3477].
ومن التعبد لله باسمه الودود: مودة الرجل لزوجته، ورِفقه بها، وكذلك مودة المرأة لزوجها، فعن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ودود ولود إذا غضبت أو أُسيء إليها، أو غضب زوجها، قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحل بغَمْضٍ حتى ترضى" [الطبراني (118)، وحسنه الألباني].
ومن صور التعبد للودود: حسن المرافقة والمصاحبة للآخرين، وتذكر جميل الآخرين، والوفاء للآباء الراحلين، فعَن ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ! إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ" [مسلم 85].
ولقد دعا الإسلام إلى تفعيل دور المودة في المجتمع؛ انطلاقًا من اسم الله الودود، ففتح القرآن الكريم أمامنا باب الأمل والطمع في اصطناع المودة، وأولى الناس استحقاقًا لتلك المودة رسول الله، قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب: 6]، ثمّ قرابته -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) [الشورى: 23]، أي: إني لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرًا، إلا أن تودوني لقرابتي منكم، فأنتم قومي، وأحق من أجابني وأطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى، ولا تؤذوني، ولا تهيّجوا عليَّ، وأسألكم أن تتوددوا إلى الله فيما يقرّبكم منه.
واعلموا -عباد الله- أن العداوة والشدة على الكفار والمشركين مشروعة في حالة بقائهم على الكفر ومناصرتهم له، أما إن انتقلوا إلى الإسلام فستنقلب تلك العداوة إلى مودة ورحمة؛ إذ ليس إيمانهم بعيدًا أو معجزًا في حق الله القادر على هداية من يشاء، قال تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)[الممتحنة: 7]، وقال -سبحانه-: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة:11].
واعلموا أن القسط معهم، والبر بالقريب منهم لا حرج فيه، إذا لم يحملوا على المسلمين سلاحًا، ولم يشاركوا في إخراجهم من بلادهم، قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
أيها المسلمون: اتقوا الله، وتعرضوا لمحابه ومواطن رضاه؛ حتى تكتسبوا ودّه، واحرصوا على امتثال ما يحبه الله ويرضاه, واجتناب ما يبغضه ويسخطه، وتوددوا إلى ربكم كما تودد إليكم بإدرار نعمه وفضله, وأحبوه كما أحبكم, وأحسنوا إلى خلقه كما أحسن إليكم.
فأَقْبِلْ -يا عبد الله- على الله بمنتهى الحب، واملأ قلبك بخالص ودّه، وليكن حظه منك أعظم من حظ حبك لوالديك وزوجك وولدك والناس أجمعين، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نِعَمه.." [الحاكم 4716 وصححه ووافقه الذهبي]. وإياك أن تفرط في نَيْل وُدِّ الله؛ بتقصيرك في شرعه، ونسيانك لشكره، وتعديك على حدوده، حتى لا تخسر محبة الله ووده، وينقلب ذلك إلى غضب ومحق ونقمة عاجلة أو آجلة، نسأل الله السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
وإذا أردت أن يكون لك حظ عظيم من اسم الله الودود، فتودد إليه بالأعمال الصالحة، وإن ارتقيت إلى تلك المرتبة؛ حينها ستنال محبة الله -عز وجل- وملائكته، وسيُبسَط لك القبول في الأرض.
وكُن -أخي- ودودًا مع الآخرين، مع والديك وأهلك، وأرحامك وجيرانك، ومع زملائك في التعليم وفي العمل، كُن ودودًا مع مرؤوسيك وخدمك، ومن تحت يدك من عمال، وعاملهم برقة وعطف، وتعلّم من نبيك الود مع خلق الله، فقد جاءته -عليه الصلاة والسلام- قبيلة أسلمت، اسمها أسلم، فقال لها: "أسلم سالمها الله"، فاختار الكلمات الودودة. وتأتيه قبيلة أخرى اسمها غِفَار مسلمةً، فيقول: "غِفَار غفر الله لها" [البخاري (3513)]، فانظر كيف اختار الألفاظ والكلمات التي تدل على الحب.
عباد الله: وإن محبة الودود -سبحانه- ينجو بها العبد من عقاب ربه، ويحتمي بها من عذابه وسخطه، ومثل هذا الفضل ينبغي ألا يتعوض عنه بشيء، وأبشر فإن حب الله لك حجاب، وودّه لك سِتْر، فهو الودود، ومن أحبه الله رحمه وأكرمه -سبحانه وتعالى-.
وينبغي أن يحرص العبد على دعاء ربه باسمه الودود، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، .. وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا" [الترمذي (3235) وصححه الألباني].
وذكر الله -سبحانه- باسمه الودود يغمر القلوب شعورًا بالراحة والطمأنينة، والفرح بالله -عز وجل-، فما أعظم تلك المشاعر حينما نعلم أن العلاقة بين السيد والعبد في الدنيا عادة ما تكون محدودة في الأوامر والنواهي، خالية من أي مشاعر للحب ومظاهر والرحمة والود، بينما الودود -سبحانه- وهو الخالق الحكيم، والمالك المتصرف في كل شيء، صاحب الأمر والنهي، القادر الغني علاقتنا به علاقة المحب الرحيم، والمشفق الكريم، واللطيف الحليم بعباده، -سبحانه وتعالى-.
يقول الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرة | وليتك ترضى والأنام غضاب |
وليت الذي بيني وبينك عامر | وبيني وبين العالمين خراب |
إذا صح منك الود فالكل هين | وكل الذي فوق التراب تراب |
وختامًا -أيها الأحبة- ليس العجب في مودة العبد لسيده، وموالاته له، فهو في حاجة دائمة إليه، لكن العجب كل العجب في مودّة الربّ الغني لعبده الفقير، فإن الرب -سبحانه- هو الذي (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54]. فاحرص أن تكون ممن يحبهم رب العزة -سبحانه-؛ لأنه إن أحب أجزل بالعطاء، وأعظم لك المثوبة، ويسر لك الخير حيث كان، وإلى هذا المعنى أشار الحديث القدسي، فقد قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي (عَبْدٌ) بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ (يَبْطُشُ) بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" [البخاري (6502)]، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
اللهم اغمرنا بودك، وامنحنا رحمتك، واكتبنا في السعداء، وجنبنا موارد الأشقياء. اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم.