الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن من أبرز الحقائق الكبيرة وأوضحها في حياتنا، بل في حياة الكون كله، والتي يتعامى عنها كثير من الخلق ويتناساها كثير من الناس: أن هذا الكون كله بما فيه وبنا نحن مضطر إلى الله غاية الاضطرار، محتاج إلى الله في كل شيء، في كل لحظة، في كل صغير وكبير، فلا غنى له عن ربه طرفة عين، إنها حقيقة ضخمة وعقيدة هائلة الأثر في الحياة لما تقوم عليها الحياة ..
الحمد لله الغني الحميد، المتعالي بعظمته ومجده على العبيد، فطر العباد على شديد الافتقار إليه وهو العلي المجيد، وجعل بهم عظيم الحاجة إلى تدبيره ورحمته ونعمته، فلا غنى لهم عنه طرفة عين، أشهد أن لا إله إلا هو الله له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من قام بالعبودية، وأزكى من دعا إلى الوحدانية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -معاشر المسلمين- واعلموا أن بنا إليها شديد الفاقة وعظيم الحاجة، فهي ضرورة الضرورات الكبرى للنجاة والسعادة في الأولى والأخرى، وُصِّيَ بها الأولياء والأشقياء والأولون والآخرون والأنبياء والجاحدون، فلا غنى عنها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [الأحزاب: 70].
أيها المسلمون: إن من أبرز الحقائق الكبيرة وأوضحها في حياتنا، بل في حياة الكون كله، والتي يتعامى عنها كثير من الخلق ويتناساها كثير من الناس: أن هذا الكون كله بما فيه وبنا نحن مضطر إلى الله غاية الاضطرار، محتاج إلى الله في كل شيء في كل لحظة، في كل صغير وكبير، فلا غنى له عن ربه طرفة عين، إنها حقيقة ضخمة وعقيدة هائلة الأثر في الحياة لما تقوم عليها الحياة، إلا أنَّ الاضطرار تتعدد أشكاله وتتنوع جهاته، فربما حصره كثير من الخلق في الطعام والشراب وما تقوم به الحياة، ولا ريب أن هذا نوع اضطرار لا كله ولا أسه، وإنما الاضطرار الأكبر إلى الله في نوع آخر أجل وأعظم، غاب عنا في زحمة الغفلة عن الله وذكره، ونسيان مدارسة أمره وشرعه، هذا الاضطرار إلى الله لم يقم بحقيقته ويؤدي واجبه مثل الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؛ فقد كانوا في غاية من الضراعة وشديد الاستكانة بين يدي الله تعالى طلبًا لهذه الضرورة الجليلة، فيا ترى هل كانت ضرورة هؤلاء الأنبياء التي تضرعوا من أجلها إلى الله تعالى طعامًا وشرابًا فحسب، أو شيئًا من لعاعة الدنيا وزخارفها فقط، أم أنها كانت ضرورة فوقها وغاية أسمى منها؟!
لقد كانت الضرورة التي قضّت مضاجع الأنبياء والمرسلين، وألهبت أجوافهم، وحركت ألسنتهم لهجًا ومناجاة لله تعالى بالدعاء والذكر حتى فاضت دموع عيونهم بين يدي ربهم، إنها لم تكن مالاً ولا طعامًا ولا زخرفًا من الدنيا، إنما كانت غفران الذنوب والتوبة عليهم وهدايتهم إليه تعالى في كل شأن، لقد كان همهم همًّا لا كهمِّ الخلق، لهم في ربهم هموم وللخلق في دنياهم هموم، كانت لهم في الآخرة هموم وكان للخلق في الدنيا هموم، كان لهم في العبودية هم وفي مرضاة الرب هم، وكثير من الخلق لم يكن لهم من هذا الهم هم.
فتعالوا معي نتدارس ونتذاكر بعضًا من مطالب الأنبياء والمرسلين من ربهم.
فهذا آدم -عليه السلام- يناجي ربه فيقول بعد الذنب الذي كان منه: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
وهذا نوح -عليه السلام- يناجي فيقول: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [هود: 47].
ثم هذا إبراهيم -عليه السلام- أبو الأنبياء والإمام القانت كان بحق لربه نجيًّا وله مخبتًا، ناداه وهو يبني بيت ربه تعالى وقدماه على الحجر فقال: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة: 127-129].
ولما كان قبل في قومه داعيًا كان يناجي ربه فيقول: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 77- 89].
و لما قدم بأهله إلى بيت الله الحرام قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم: 35-41].
فيا لله أي فقه في هؤلاء المرسلين!! أما إنه ما كان لهم شغل غير مرضاة الله عنهم وما يقربهم إليه ويبقي لهم من أجله الذكر الحسن.
وانظر إلى زكريا -عليه السلام- بماذا ناجى ربه، وماذا كان نداؤه الخفي؟! قال الله عنه: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) [آل عمران: 38]، (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً) [مريم: 4-6].
وهذا موسى -عليه السلام- لم يكن له من هم إلا أن يغفر الله له ويدخله رحمته: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأعراف: 151]، وقال -عليه السلام- لمَّا أخذتهم الرجفة: (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ) [الأعراف: 155-156].
وانظر إلى داود قال الله عنه: (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) [ص: 24].
إنها مطالب وأي مطالب، إنها تقول لنا: إنه ليس ثمة أجل من هذه المطالب، ليس ثمة أبرك على العبد وأزكى من غفران الذنب وقبول التوب والدخول من رحمة الله الواسعة، فأين نحن -عباد الله- عنها؟!
أفلا يكون لنا من لهجهم لهج؟! ومن دعائهم دعاء؟! وفي تضرعهم ضراعة؟! ألا بمثلهم اقتدوا -رحمكم الله تعالى-.
الخطبة الثانية:
أما نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقد كان أعلى الخلق تحقيقًا لهذا المقام، وأرفعهم شأنًا خرج إلى الطائف يبغي لدعوته حاميًا، وله ناصرًا، فلما بلغ منازلهم وعرفوا ما أراد، إذا بهم يلقون عليه الحجارة ويؤذونه أشد الإيذاء حتى أغمي عليه من البلاء، فلما بلغ قرن الثعالب أفاق فناجى ودعا بقلب جريح وفؤاد مكلوم، أتدرون بماذا دعا؟! "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الرحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أو إلى قريب ملكته أمري إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السماوات والأرض وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك، أو تنزل علي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
يا له من دعاء عظيم!! أين نحن منه؟! ألا فاسألوا ربكم ما سأل المصطفون من عباده يعطكم خيرًا مما تظنون، وفوق ما تطلبون.