القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إنَّ القرآنَ سطَّر لنا حقيقةً جليَّةً غابت عنا في زحمة الفتنة بالدنيا وشهَواتها، تلك الحقيقة هي أَّن المجتمعات حين تغفل عن سنن الله، فتغرق في شهواتها، وتضلّ طريقها، وتتنكَّب شريعة ربها، إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسَها، إنها سُنَّةُ الله حين تفشو المنكَرات، وتقوم الحياة على الذنوب والآثام؛ إن الانحلالَ الخلقي، وفُشُوَّ الدعارة، وسلوكَ مسالكِ اللهوِ والترف، طريقٌ إلى عواقبِ السوء، ومَرْتَعِ الهَلَكَة، إذ تترهَّلُ النفوس ..
أيها المسلمون: حدَثٌ وأحداث، وعظة وعظات وآية وآيات، ونُذُرٌ مُدْلَهِمَّات، تنزل بساحاتنا، وتقرع أبوابنا، وتملأ منا الأبصار والأسماع؛ إنها تلك الآيات الربانية، والمصائب الكونية، تعددت حتى حار المــــُعِدُّ لها في تعدادها، وها هو نبأٌ موجَزٌ نعرض فيه سرداً لكوراثِ هذا العصر وأزماته التي تعصف بالعالم كله، لا سيما العالم الإسلامي، وما فيه من نُذُرِ الله تعالى، وتزايدٍ للفتن، وتغيُّرٍ للأحوال.
عباد الله: إنَّ من النذر الإلهية، والآيات الربانية، ما يتعلق بالآيات الكونية، والذي منها هذا الغبار الذي يملأ الأجواء، ويعمُّ مناطق كثيرة من هذه البلاد؛ حتى إنه غيَّبَ الشمسَ في بعضها لمدة أسبوع أو تزيد، وهذا الجدب في الأمطار، والقحط في الديار، والجفاف في الآبار، والشح في العيون، والضعف الذي أصاب النبات، والموت الذي دب في الأشجار، وهذا التكاثر في الزلازل والبراكين والأعاصير والعواصف التي تكاد تقلب الأرض أسافلها أعاليها، وتهلك عشرات الألوف من بني الإنسان، وتجعل الأرض والحياة خلقاً آخر.
ومنها ما يكون في أوضاع الناس الاجتماعية، كتفاقم المشاكل الاجتماعية، وتشتُّت الأسر، وتفكك البيوت، واحتقان العلاقات؛ ومنها ما يكون في أحوال الناس الاقتصادية والذي من أظهرها هذا الغلاء المتزايد في أسعار الأغذية وحاجات الناس، والتعسرُ المتزايد لمسالك الرزق الحلال في بلاد الإسلام، وتضاعفُ الأزمات الاقتصادية، وهذه المجاعات التي عمت دولا، وأحالت أهلها أعظماً نخرة، وهياكل رميمة، وهذا الارتفاع المتعاظم في معدلات الفقر والفقراء.
ومنها ما يكون في أحوال الناس الصحية، كهذه الأمراض المفجعة التي تنتشر في العالم لتقضي على الحياة وطعمها والتي باتت تتزايد كل يوم، ويتكاثر صرعاها كل ساعة، كأمراض السرطان، والايدز، والهربس، وهلم جرا؛ وما نراه من حوادث الموت المفاجئة، إصابات بلا نذر، وأمراض بلا مقدمات، وموت للأفواج من الناس في لحظة واحدة في حوادث المراكب الجوية والبرية والبحرية، في الطائرات والسيارات، والقطارات والبواخر، يذهب فيها جماعات من الناس في غمض عين، ولمح بصر.
ومنها ما يكون في أحوال الناس النفسية، فمنها هذا الضيق الذي يخنق الأنفس، وهذه الهموم والأحزان التي تكتسح بني الإنسان، وهذه الانتكاسة للفطر التي أشاعتها القنوات الفضائية، والتقنية الحديثة.
ومنها ما يتعلق بأحوال الناس الإيمانية، كرسوخ الفسق في النفوس، وتمكن الغفلة والاستهانة بالمحارم، وتلك العماية التي حلت بالأبصار، والقسوة التي استحكمت على القلوب، فلا تلين ولا تتعظ ولا ترعوي عما هي فيه من فسق وإعراض، وهذه القلوب، ما أعظم ما ألمَّ بها! ألا ترون ماذا بها من قسوة؟ وما حل بها من جفوة؟ كم فيها من أحقاد وأحساد؟ كم بها من غل، وبغضاء، وتدابر، وتشاحن؟ ألا تشاهدون ما أصابها من عمى عن الهدى، وإعراض عن الرشد، وتمكُّن الغيِّ والهوى منها.
ومنها ما يتعلق بأحوال الناس السياسية، كتأزم المشكلات السياسية بين الدول، والتحريش بين الحكومات والعدواة بين الشعوب وحكامها، والمكر والخديعة بين الدول، والتربص ببعضها البعض.
وكهذه الحروب التي اشتعلت بدمارها ونارها في بقاع من بلاد المسلمين التي لم تعرف البشرية من قبل لها مثيلاً، أسلحة فتاكة، انفجارات مروعة، وقذائف مدمرة، تشتعل نيرانها فتبعثر وجه الحياة، وتقلب أحوالها، فتيتم الأطفال، وتفجع الثكالى، وتخلف الأرامل، وتملأ الأنفس بالذعر، لا يمنع منها حصون، ولا تقي منها دروع، تقضي على الجماعات بقذيفة واحدة، وتُدك الحصون، وتشعل النيران في البيوت والمساكن، وتمزق الأجسام، تدع الناس بلا مأوى ولا طعام ولا شراب، كم أخرجت من ملايين اللاجئين الذين شردوا من بلادهم، وفيهم النساء الأرامل، والأطفال اليتامى، وفيهم المرضى والجرحى، وكبار السن والمعوقين.
وكتسليطٍ للظلَمة والجبابرة على الشعوب، يأكلون خيراتها، ويبيعون بركاتها، ويتقربون بهم قرباناً لأعدائهم، لا رحمة بهم ولا رأفة فيهم ،يرون رعاياهم شاحبة منهم الوجوه، ذاعرة منهم القلوب، خاشعة منهم الأبصار، فلا يحرك ذلك فيهم إلا الاستمتاع بهذه المناظر لهذه الشعوب المغلوبة على أمرها.
وكتسليط الأحزاب المتعارضة بعضها على بعض، تتنافس من أجل الدنيا، فتذهب معهم الحياة الآمنة الساكنة، وتسلط الكفار على أهل الإسلام.
إنها كروب من بعدها كروب، وأزمات من ورائها أزمات، تعددت وتنوعت، وقليل من القلوب اتعظت. وما أقَلَ النفوسَ التي تفتَّحَت لنُذُرها، وارعوت عن غيها!.
عباد الله: هذه النذر -وهي بعض نذر الله تعالى- ما ينبغي لمؤمن لها أن تمر عليه دون الاعتبار بها، وتدارك الأمر قبل انحلاله، ومعاجلته قبل فاجعته.
وإنَّ أول ما نعظ أنفسنا به من خلال هذه النذر أن نتساءل عن سر هذه النذر وموجباتها؟ فما السر في وقوع كل هذه النذر؟ إن السر لبيِّنٌ وجَلِيٌّ، استنطقوا القرآن ينطق لكم بأن ذلك ما كان إلا بما كسبت أيدي الناس. أما نقرأ قوله سبحانه: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].ألا نتلو مما نتلو في هذا الذكر الحكيم قول ربنا -سبحانه-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30] .
أما نقرأ في موعظة ربنا أن الذنوب هي التي أخرجت أبانا من الجنة: (وَعَصَى آدمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه:121]، أما بسببها لُعن إبليس وأصبح طريداً من رحمة الله! أما كانت هي التي أذاقت الأمم الخوالي، ذات القوة العوالي، بأسَ اللهِ تعالى، فأحالتهم هشيماً، وصيَّرَتْهُم كأعجاز نخل خاوية؟ لا ترى لهم من باقية؟ (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].
إنه لا غير الذنوب يهدّ عروش الممالك، ولا غيرها يحيل المسالك هوالك، ولا غيرها يبدل الأمن خوفاً، ولا غيرها يقلب الرخاء ضرا، والغنى فقرا، والرزق الرغَدَ لباس جوع! إنها هي التي أهلكت الأمم الماضية، وهي التي تهلك الأمم اللاحقة، قال الله تعالى: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات:16-19].
ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها؛ ولقد وعى السلف الصالح هذا الخطر العظيم للمعصية فنطق الحسن البصري -رحمه الله- مبيناً شؤم الذنوب، وما يغشى الوجوه من ذلةٍ وهوانٍ بسببها، فقال : إنهم، وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إنَّ ذلَّ المعصيةِ لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل مَن عصاه. نعم، إن ذلك كله من هوان العبد على ربه، وسقوطه من عينيه، (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) [الحج:18].
إن الذنوب شؤم، قال الامام مجاهد -رحمه الله تعالى- في قول الله سبحانه: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة:159]، البهائمُ تلعن عصاة بني آدم، حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، تخرج البهائم فتلعنهم.
وسمع أبو هريرةَ -رضي الله عنه- رجلاً يقولُ: إِنَّ الظالمَ لا يضرُّ إِلا نفسَه. فقال أبو هريرةَ: بَلى والله! حتى الحُبارى لتَموتُ في وكْرها هُزْلاً لظلمِ الظالمِ؛ ولأجل ذلك ثبت في الحديث الصحيح أن الْعَبْدَ الْفَاجِرَ إذا مات يَسْتَرِيحُ منه الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ.
إنَّ ذنوب عصرنا شر ذنوب، وسيئاته شر سيئات، وموبقاته شر الموبقات، في زماننا هذا أصبحت ترى صوراً من الكفر ظاهرة، وألواناً من الردة عن دين الله منتشرة، وأنواعاً من الزندقة متجلية، ومحادةً لله ولشرعه ولأوليائه متغطرسة، وصار الاستهزاء بالسنة والعلماء من سبل التمكين والرفعة على صفحات الجرائد والمجلات، يهون على كثير من الكتَّاب أن يسلق الدين وأهله وشريعة الله بألسنة حداد، ويعظم عندهم أن يقول حقاً يغضب وزيراً أو مسؤولاً؛ أفتسألون؟ أفتعجبون من هذه المصائب وأنتم تبصرون ما يكون من الافتراء على دين الله، وإهانة أوليائه، ثم لا حراك؟!.
أما ترون فشو الربا الماحق لكل بركة؟ أما تبصرون سوق الزنا رائجة عبر الشبكات العنكبوتية، وشبكات الدعارة في بلادٍ من بلاد الإسلام؟ أما شُربت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات، وارتفعت أصوات المعازف والمزامير، واستمكن الغناء أغلب البيوت، وتساهل الناس في شأن القنوات الفضائية، وذاع أكل الحرام، وجاهر الناس بالتحايل على أمر الله؟
وأين نحن من الشهادات الباطلة، والأيمان الفاجرة، والخصومات الظالمة؟ ثم تأملوا كيف بلغ ظلم الناس بعضهم لبعض في أكل الحقوق، والغش في التجارات، وانتشار الرشوة والاحتكار، والاستغلال، والسرقة، وأنواع المعاملات المحرمة.
أولا نرى كيف أقبل الناس يتربون صغاراً وكباراً على ما تبثه وسائل الإعلام، وأعرضوا عن هدى الله ورسوله، زاهدين مغرورين؟ ألا ترون كيف فشت رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات بين البنين والبنات؟ ألا ترون تسكع النساء في الشوارع والأسواق، وكثرة المغازلات والمعاكسات؟ أما تساهل الناس في الصلوات؟ كم هم الذين عن صلاتهم ساهون؟ كم تشكو المساجد من ندرة المصلّين، لا سيما في صلاة الفجر! وإذا رأيت ثَمّ رأيت وجدت رجالاً يتخلّفون وهم مكتملون في صحّتهم، آمنون في سربهم، لا عذر لهم في التخلّف إلّا الكسل والسهر، أولئك ينامون حين ينامون على أنعُم الله، ويستيقظون حين يستيقظون على أنعُمِ الله، ما بالُهم يتأخّرون عن المكتوبة؟ لا يشهد صلاةَ الفجر إلا عدد يسير ونزر قليل من الرجال، وبقيتهم يتقلبون في فرشهم غافلين عن دعاة الفلاح وأصوات المآذن، لا يجيبون داعي الله.
شاهدوا في زمننا هذا كيف تنتشر المنكرات، ويُجاهَر بالموبقات، في الأسواق والمستشفيات، والأعمال وغيرها، ويفرض هذا الفساد على الناس بالقوة، ويُؤصَّل له في كثير من وسائل الإعلام المنحرفة، ولا يُنكِرُ ذلك إلا القليلُ من الناس، حتى ماتت كثير من القلوب، وغابت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تكاد؛ بسبب تخاذل الناس، وقوة أهل الشر والبغي والفساد.
لقد جرت سنة الله عز وجل في عباده أن يعاملهم بحسب أعمالهم، فإذا اتقى الناس ربهم الذي خلقهم ورزقهم، أنزل عليهم البركات من السماء، وأخرج لهم الخيرات من الأرض، كما قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف:96]، وقال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) [الجن:16]؛ فإذا كان العباد مطيعين لله عز وجل، معظِّمين لشرعه، أغدق عليهم النعم، وأزاح عنهم النقم،
وإذا تبدل حال العباد من الطاعة إلى المعصية، ومن الشكر إلى الكفر، حلت بهم النقم، وزالت عنهم النعم.
إنَّ القرآنَ سطَّر لنا حقيقةً جليَّةً غابت عنا في زحمة الفتنة بالدنيا وشهَواتها، تلك الحقيقة هي أَّن المجتمعات حين تغفل عن سنن الله، فتغرق في شهواتها، وتضلّ طريقها، وتتنكَّب شريعة ربها، إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسَها، إنها سُنَّةُ الله حين تفشو المنكَرات، وتقوم الحياة على الذنوب والآثام؛ إن الانحلالَ الخلقي، وفُشُوَّ الدعارة، وسلوكَ مسالكِ اللهوِ والترف، طريقٌ إلى عواقبِ السوء، ومَرْتَعِ الهَلَكَة، إذ تترهَّلُ النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات، فتنتشر الفواحش، وترخص القيم العالية؛ فتتحلل الأمة، وتسترخي، وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلِك، وتُطْوَى صفحتها.
نعم، إن الاستمرار في محاداة أمر الله وشرعه، والاصرار على الذنوب والخطايا وعدم الإقلاع، لَيَهْدِم الأركان، ويقوض الأساس، ويزيل النعم، ويُنقص المال، ويرفع الأسعار، وتحل الهزائم تلو الهزائم.
وإن من رحمة الله تعالى أن لا يؤاخذ العباد بكل ذنوبهم، وإلا لأهلكهم أجمعين، ولم يظلمهم شيئا، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [النحل:61]، وفي الآية الأخرى: (وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذَابَ) [الكهف:58].
الخطبة الثانية:
إن من أشد ما نخافه -عباد الله- فوق ذلك، وينذر باشتداد الأزمة، واستحكام البلية، وتتابع المصائب، هو ما نحن فيه من غفلة، وموت القلب والإحساس، مع طوارق هذه الآيات؛ اغترارا بالدنيا، وأمناً من مكر الله تعالى، وفرحاً بمد الله لنا، وكأنا ما قرأنا قوله تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55-56]، فالكوارث تدق علينا الأبواب، والأخطار الجسيمة تحيط بنا من كل جانب، ونحن في سكرتنا وغفلتنا، لم نقلع عن الذنوب، ولم نحاذر الشهوات.
وإن مما أمات الاتعاظ بهذه الآيات ذلك الاعلام المادي المرتكس في النظرة الإلحادية القائلة بأن ما يكون هو بسبب الطبيعة، ولأحوال مادية بحتة لا علاقة لها بأعمال الناس؛ فأماتت إحساسهم، وأفسدت قلوبهم وأخلاقهم، فلا يتعظون ولا يعتبرون، وقد جاءتهم النذر من بين أيديهم ومن خلفهم، (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14].
لقد أصبحت وسائل الإعلام الحديثة نقمة على العباد؛ أغرقتهم في الشهوات المحرمة حتى في حال الشدة والأزمة، وأَصَّلَت لهذه الموبقات بتقرير الكفر والإلحاد تحت شعارات الحرية، والاستمتاع بالحياة بلا قيود ولا ضوابط.
كيف تحيا القلوب بهذه المواعظ وهذه القنوات تذكرها حين تذكرها مجردةً عن قدرة الله تعالى على خلقه، فلا تُذَكِّرهم بشدة انتقامه، وأليم عقابه، وغيرته -سبحانه- على محارمه، بل تنسب ذلك للطبيعة أو لأسباب مادية مجردة عن قَدَرِ الله تعالى وقُدْرته؟ كيف تتأثر القلوب، وتحيا النفوس بهذه الآيات والذي ينقل أخبارَها نساءٌ سافرات متبرجات، فيُعصَى الربُّ -جل جلاله- حتى في نقل آثار قَدَرِه، ودلائل قُدْرَتِه؟
كيف، ثُمَّ كيف تستيقظ الأفئدة من رقدتها وشهواتها بهذه المصائب ونحن نرى كيف يعقُب نشرةَ الأخبار عن هذه الكوارث فلمٌ خليع، أو غناء رقيع، أو برنامج ساقط، أو حوارُ زندقة، وكأن أخبار الزلازل والأعاصير التي فتكت بالآلاف من البشر، ودمَّرت المدنَ والقرى في منأىً عنهم، ولا تعنيهم شيئا؟ وكأن عذاب الله -تعالى- لا يطالهم، أو لا يستحقونه، وهذا من أعظم ما يرسِّخ المعصية في الأذهان، ويسوغها للناس، بتربية المشاهدين على الفصل بين المعاصي والعقوبات.
وكل من نظر في قصص الأولين رأى فيها ما كانوا عليه من قوة في الأبدان، وسعة في السلطان، وكان بأسهم شديداً، لكنهم لما عصوا ربهم، أخذهم بذنوبهم (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [غافر:21]، فقطع الله دابرهم، وأهلكهم عن آخرهم، (فتلك بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) [النمل:52]، (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) [القصص:58]. إنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب ولا حسب، (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:99].
فكم دعانا القرآن الكريم إلى الاعتبار بما حل بمن قبلنا وبمن حولنا؛ لنتعظ ولنقف عند حدود الله فلا نتعداها: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام:11]، وذلك رغبة منه أن نصحح أحوالنا، ونغيّر حالنا، ونقلع عن ذنوبنا، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح، ما دام بابها مفتوحا.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وقفوا عند حدود الله، وعظّموا حرماته، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5]، وإيّاكم أن تزيدوا فسوقاً كلما زادكم الله نعيماً! وأنتم تقرؤون عن قومٍ قال الله فيهم: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:44-45].
إنّ رغد العيش قد يُنسي، وإنّ الأمن من مكر الله قد يُطغي، فحَذارِ حذارِ! ضُجُّوا بالدعاء، واقرعوا أبواب السماء، وافزعوا بأنين البكاء، لله رب الأرض والسماء، أن يوقظنا من هذه الغفلة، ويباعد عنا السوء والمكروه، وأن يعيننا على تقواه.