البحث

عبارات مقترحة:

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

الشهيد

كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...

الواحد

كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...

مقاصد سور القرآن - سورة الفجر

العربية

المؤلف عبد البديع أبو هاشم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه
عناصر الخطبة
  1. الجو العام لسورة الفجر .
  2. الخطاب موجه أصالةً للكفار .
  3. البعث يوم القيامة في السورة .
  4. من معاني السورة .
  5. تحكيم العقل .
  6. تأملات في أحوال الظالمين وكيف هلكوا .
  7. مشهد الابتلاء بالسراء والضراء .
  8. ختم السورة بالحديث عن يوم القيامة .

اقتباس

سورة تأذن بميلاد جديد لحياة جديدة، بحركة جديدة كما تشير كلمة الفجر عنوانًا على هذه السورة، إشارة إلى موضوعها، وهو يوم القيامة، إيحاءات قرآنية لطيفة، كأن هذا الاسم عنوان على هذه السورة، يوحي الله من خلاله إلى العباد أن الذي يعيد الحياة للفجر بعد الليل إذا يسري فيمضي الليل ويأتي الفجر إيذانًا بيوم جديد من حياة جديدة، فيه عمل جديدة في شؤون جديدة، فيه رزق جديد ..

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له ولن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح للأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلوات الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة عباد الله: فوصْلاً بما سبق، ومتابعةً لحديثنا حول مقاصد السور، نعيش هذه اللحظات المباركة من هذا اليوم الفضيل مع سورة الفجر، سورة سماها الله بهذا الاسم، المنعش للنفس، المريح للصدر والقلب، بِاسْم هذا الوقت الذي يبدأ به النهار، ويسفر به الصبح، ويتنفس فيه الإنسان أجمل نَفَسٍ في الحياة، كما قال ربنا: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) [التكوير: 18].

سورة تأذن بميلاد جديد لحياة جديدة، بحركة جديدة كما تشير كلمة الفجر عنوانًا على هذه السورة، إشارة إلى موضوعها، وهو يوم القيامة، إيحاءات قرآنية لطيفة، كأن هذا الاسم عنوان على هذه السورة، يوحي الله من خلاله إلى العباد أن الذي يعيد الحياة للفجر بعد الليل إذا يسري فيمضي الليل ويأتي الفجر إيذانًا بيوم جديد من حياة جديدة، فيه عمل جديدة في شؤون جديدة، فيه رزق جديد، فيه أحوال غير الأمس، إذًا الذي قدر على إحداث تلك الآية مرة بعد مرة أمام أعينكم، لقادر على أن يعيد الحياة كلها من جديد، يوم يبعث العباد.

فإن الله خلق حياةً في الدنيا، وأعد حياة في الآخرة، فلماذا تستعظمون الحياة الأخرى بعد الحياة الأولى، وقد رأيتم يومًا بعد يوم وفجرًا بعد ليل، وحركة بعد سكون.

سورة الفجر، سورة تتكلم عن العقيدة وخاصة موضوع البعث الذي كذب به كثير من الناس رجاء أن لا يكون، (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) [النبأ: 27]، تلكم العقيدة اهتم بها القرآن كثيرًا، وهذه السورة واحدة من سور كثيرة تناولت هذا الموضوع بالعرض والإيضاح والبيان، وبالتالي فهي سورة مكية، مادام جُلُّ موضوعها هو العقيدة، وتركز على أمر واحد منها وهو البعث يوم القيامة، فإن كفار مكة كانوا هم المكذبين بهذا الاعتقاد وبهذا التصور الذي يعرضه الله عليهم ليؤمنوا به، فالسورة مكية، وخاصة أنها تبدأ بالقسم (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) [الفجر: 1-5] هذا قسم، وإنما يقسم للمكذب، ويحلف للمنكر، وهؤلاء كانوا في مكة، أما المدينة فكل من كان فيها كان يستمع ويقر، يستمع إلى الشرع والرأي ويقر به، قلبًا وقالبًا، وهم المؤمنون الخُلَّص، أو ظاهرًا فقط وقلوبهم منكرة وهم المنافقون، ولكن ما كانوا يعارضون ولا يكذبون تصريحًا، فيحلف للمكذب المصرح بتكذيبه، يحلف له ليصدق، يحلف له لتقام عليه حجة، فما عادت لك حجة، أخبرناك وأقسمنا لك وضربنا لك الأمثال وحاورناك، ماذا تريد بعد ذلك؟! يوم القيامة (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات: 35، 36].

فوجود القَسَم في أول هذه السورة دليل على أنها أيضًا نزلت في مكة قبل الهجرة، حديث من الله تعالى مع الناس في مكة، ويمتد طول العمر إلى كل كافر، تشابه في اعتقاده وتصوره للحياة، تشابه في ذلك مع أهل مكة تكذيبًا وإنكارًا وعنادًا، فهذا القسم له أيضًا، وهذه السورة تخاطبه.

أما المؤمنون المقرون بيوم القيامة، فقد آمنوا وأقروا واعترفوا بيوم القيامة، وها هم هؤلاء يستعدون له بما استطاعوا كما قال ربنا: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]، فهم يصلون ويصومون ويحجون ويؤدون من شعائر الدين ما استطاعوا خوفًا من المقام، والوقوف بين يدي الملك العلام يوم القيامة.

فهذه السورة وغيرها تزيدهم إيمانًا على إيمان، ويقينًا بعد عرفان، أما أصل الخطاب فللكفار.

وهذه السورة -كما يتبين من اسمها ومن أولها وآخرها- تقرر عقيدة البعث يوم القيامة، قال الله تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ)، أيمان وأقسام متتالية، (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) هل هذا القسم يكفي لصاحب عقل ليقتنع ويقر ويؤمن؟! أوَليست هذه الأقسام والأيمان كافية؟! ونقسم لكم من جديد، على ماذا؟! (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) [الفجر: 6]، ليس هذا هو جواب القسم، ليس هذا ما يقسم الله عليه، إنما المقسم عليه محذوف لأنه معروف، وذكر في سور كثيرة قبل ذلك، والتقدير: أقسم بكذا وكذا وكذا لتبعثن يوم القيامة، أليس في هذا القسم كفاية لكم يا من تدعون العقل، إن كان كافيًا فآمنوا، وإلا سنقسم لكم أيضًا من جديد، ونحاوركم ونقدم لكم أدلة أخرى.

وهذا القسم كافٍ جدًا لكل ذي عقل أن يصدق بما أقسم الله عليه من البعث يوم القيامة، فما الذي يجعل الله يقسم، وكلامه الحق وقوله الصدق: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء: 122]، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء: 87]، يعني لا أحد أصدق، إنما الله هو الحق المبين -سبحانه وتعالى-، حق مبين وقوله صدق وحديثه صدق، إذًا لا حاجة في كلام الله لأن يقسم لخلقه، لعباده، لا مناسبة أن يقسم؛ ولذلك قالها أكثر من مرة: لا أقسم، فلا أقسم، ولا أقسم، فالقضية لا تحتاج بقسم لوضوحها، وكلامي حق لا يؤكده قسم، فهو مؤكد بطبيعته، ومع ذلك سأقسم لكم لئلا يأتي الناس يوم القيامة ويقولون: لو أقسمت لنا قسمًا لصدقنا، لو أقسم محمد -عليه الصلاة والسلام- لصدقنا، هنا نحن قد أقسمنا لكم أقسامًا كثيرة وأيمانًا متتالية، فـ(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)، اقتنعتم؟! صدقتم؟! تذكيرًا بالحجة.

فهدف هذه السورة هو تقرير قضية البعث يوم القيامة، فكما أقسم الله عليها أول السورة يذكر بها في آخر السورة: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ...)، إلى أن قال: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)، فأول السورة وآخرها واسمها، هذه الأطراف الثلاثة تدل على هدف السورة وموضوعها.

فالبعث البعث أيها العباد، اتقوا البعث واحذروا البعث، واذكروا البعث، فإنه عقيدة تصلح حال العباد، وتعمر البلاد، لو أن الناس ذكروها وآمنوا بها.

سياق هذه السورة سياق دليل، يبدأها الله بالقسم كما قلنا، والفجر معروف نعيشه، لا نعلمه فقط بل نعيشه ونحياه ونعلم مميزاته، وإشراق النفس التي تشرق في صدر الإنسان وقلبه في بزوغ الفجر قبل أن تشرق الشمس على دنيا الناس، يتفاءل الإنسان وقت الفجر.

(وَلَيَالٍ عَشْرٍ): اختلف المفسرون فيها، فقيل: هي العشر الأول من ذي الحجة، وقيل: العشر الأول من شهر المحرم الذي عاشره عاشوراء، ونصوم عاشوراء سنة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقيل: العشر الأول وقيل: الأخير، من عشر رمضان، كلها أيام ذات فضل، ويترجح لي أنها ليالي رمضان الأخيرة، العشر الليالي الأخيرة، وإن كان هذا الرأي غير مؤيد جدًّا في كتب التفسير، لكن آخذه وأرجحه من قول الله تعالى (وَلَيَالٍ عَشْرٍ).

أما أول ذي الحجة وأول المحرم فإنه أفضل الأيام، أفضل النهار على الإطلاق، لكن أفضل الليالي هي الليالي العشر من شهر رمضان، وأفضلها على الإطلاق ليلة القدر، فما من ليالٍ ولا أيام حوت يومًا ولا ليلةً مثل ليلة القدر في فضلها وشرفها وعظمتها، ولذلك اختصها الله ببداية إنزال القرآن الكريم، فقد أقسم الله بليالٍ عشر يعلمها هو، ويعلم فضلها العظيم، فأقسم بها.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ): الشفع هو العدد الزوجي، والوتر يتبعه في عدد فردي في الصلاة أو في الأيام أو في الخلق، الخلق شفع؛ كل الخلق زوجان: ذكر وأنثى، والله وحده وتر يحب الوتر -سبحانه وتعالى- واحد لا شريك له، فقيل فيها أيضًا أقوال كثيرة لتعم كل شفع وكل وتر، فكل ذلك دال على عظمة الله.

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ): أي يمشي ويمضي ويتحرك ليأتي الفجر، والليل زمان لا يمشي، ليست له قدمان ولا ساقان يمشي بهما، ولكن الناس يمشون فيه، والخلق يتحركون فيه، فمن الخلق من يتحرك بالنهار، ومن الخلق من يتحرك بالليل، فالليل إذا يسر يعني حين يسري فيه الخلق، كما أسرى الله بنبيه وعبده محمد -عليه الصلاة والسلام- ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولما كذب الإسراء والمشي إلى الليل ذاته وليس إلى من يمشي فيه فقال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ)، نسب الفعل إلى غير فاعله، فجاءت الكلمة على غير هيئتها، المعتاد في كلام العرب أن يقال: والليل إذا يسري، بياء في آخرها، ولكن جاءت دون ياء، فسأل عن ذلك أحد العلماء فقال -رحمة الله عليهم جميعًا-: لما نسب الفعل إلى غير فاعله الحقيقي جاءت الكلمة على غير هيئتها الحقيقية، إشارة إلى ذلك حتى لا يظن أحد أن الليل يمشي والنهار يمشي، لا، هو يتحرك فيها ويمشى فيها، هو زمان للحركة.

هذا قسم بأربعة أشياء أو يزيد.

(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) الحِجْر هو العقل، سماه الله حِجْرًا لأنه يحجُر على صاحبه من أن يفعل أمورًا لا تليق به، إن لم يكن متدينًا ذا دين، إن لم يكن متخلقًا بدينه ملتزمًا به، فعلى الأقل خلق الله بعقله يقول له: هذا يصح وهذا لا يصح، فعلى الإنسان أن يستعمل عقله مجسًّا للأمور، وحساسًا يتحسس به الخير والشر.

أولئك الذين ينكرون الدين ويقولون: لا يصلح لهذه الأيام ليحكم حركة حياتنا ولا يريدون الدين، إذا فكروا بالعقل: كيف تحكم نفسك وحياتك كلها باقتراح من البشر، بتجربة جربها غيرك من الناس نجحوا فيها أو فشلوا، هو اقتراح يحتمل الصواب والخطأ، أم تحكم حياتك وحركتك بعلم من يعلم الغيب والشهادة؟! بعلم من لا تخفى عليه خافية؟! تحكم حياتك بقانون من له فيك مطمع ووراءه آمال وطموحات أن يحتلك وأن يحتل بلدك ويأكل خيرك وموارد بلادك، أم تحكم حياتك وحركتك في الدنيا بمن لا شأن له بك إلا أنه يكرمك وينعم عليك؟! يشرع لك ليسعدك ولا حاجة له فيك، فقد خلق السموات: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)، عرشه في العلو سبحانه، وأسفل الكون ماء، يعني لا أرض ولا سماء، وبالتالي لا خلق معه، كما قالها النبي -عليه الصلاة والسلام-: "كان الله ولا شيء معه"، ولم يحتج إلى أحد، ولم ينقصه شيء، أي ملك يكون اسمه ملك وليست عنده مملكة!! لا يوجد أبدًا إلا الله سبحانه وتعالى، هو ملك الملوك كلهم، ومالك كل شيء قبل أن يكون شيء، بأسمائه وصفاته وجلاله وعظمته قبل أن يكون عنده خلق، فخلق الخلق لا لحاجته بل لحكمته -سبحانه وتعالى-، أراد أمرًا فقال له: كن فيكون، دون أن تكون له فيه حاجة.

ستترك حياتك يحكمها من لا طمع له فيك، أو من يطمع فيك في كل شيء: في يدك وحولك، ويتمنى زوالك من هذه الدنيا إلا أن تعود إلى ملته: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120].

(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ): عقل، لو فكر في الصنم الذي يعبده والإله الذي اتخذه من دون الله لعلم أنه ليس إلهًا ولا حق له في الإلوهية، ولو نظر في أحكام الله وأفعال الله وآثار قدرة الله في الكون، وآثار رحمة الله في نفسه وفيما حوله، لأدرك أن الله هو الإله الحق، لكن عليه أن يحكم الحجر، أن يحكم العقل، أن يفكر، لا يكون كالذين قال الله لهم: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) [الأعراف: 179]، له قلب -أي عقل- يعقل ولكن لم يستعمله، لم يفكر به، فهل هذا القَسَم مقنع لأصحاب العقول؟! نعم كافٍ وزيادة، ولكن المنكر منكر، فساق الله لهم من المثال ما يوثق الحقائق، أو ضرب لهم مثلاً بقوم عاد -وما أشدهم-، وقوم ثمود -وما أنتنهم-، وقوم فرعون -وما أطغاهم-، كل هؤلاء أهلكهم الله تعالى بشيء بسيط جدًّا؛ بجند بسيط ضعيف في نظر الإنسان.

إذن المهلك أضعف منه مهما كان قويًّا، ذلكم الإله القادر الذي قضى على كل هؤلاء العظماء في الدنيا، أليس قادرًا أن يبعثه؟! خلقهم وأحياهم وأماتهم، أليس قادرًا على بعثهم؟! قدرته بالغة كما رأيتم، لماذا تكذبون ببعض الخلائق يوم القيامة؟! ولماذا يعظم على الله هذا الأمر وقد فعل أفعالاً عظيمة وأحداثًا جسيمة كما رأت أعينكم.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ)، اسمهم عاد إرم، وإرم هذا جد لهم نُسبوا إليه، جد قديم نسبوا إليه، ومشهورون بأنهم قوم عاد، وهم عاد الأولى؛ لأنهم سبقوا بالزمان، إرم: أي عاد إرم ذات العماد، والعماد هو العمود، والكلمة توحي بطول العمود ورفعته، قالوا: هو عمود الخيمة والبناء، كانوا يعيشون في خيام أو أبنية، وأنهم يرفعون الأعمدة إلى أعلى، دل ذلك على تمكنهم وقوتهم في الأرض، فالذي يقيم هذه العمارة الكبيرة الرفيعة العالية قوي، وقيل: عمود الخيمة، وكذلك البناء، يعني يرفعون أسقف المنازل التي ينزلونها؛ ما يدل على طول أجسامهم، فهم ضخام الأجساد، وهذا يدل على القوة والتمكن.

(الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ): لو كان لها مثيل في القوة لضربه الله لكم، ولكن لم يخلق الله مثلهم، وليست القوة من ذواتهم هم، بل الله هو الذي أعطاهم هذه القوة، لذلك قال: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) ولم يقل: التي لم يكن مثلها في البلاد؛ إذًا قوتها منها، لكن لم يخلق مثل خلقهم بهذه القوة وهذه الإمكانيات العظيمة.

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) جاب يعني قطع، وتحكموا في الصخور، فما بالك بالكثبان الرملية السهلة ماذا فعلوا فيها؟! فكانوا من قدراتهم وإمكاناتهم التي مكنهم الله أنهم ينحتون الجبال بيوتًا، مرة سالمين ومرة آمنين، بيوتًا يأمنون فيها بعيدًا عن العدو، فيكونون أعلى منه، فيتمكنون من التخلص منه، ومرة فاكهين أي للنزهة، ينحتون في الصخرة بيتًا، ليس كهفًا ولا غارًا، بل ينحتون بيتًا، ذا غرف وذا إمكانات تسمح بالحياة فيه، بيت يبيت فيه آمنًا من عدوه، ومترفًا في ساعة نزهته وفسحته، فيطل من خلاله على الموقع كله، والأرض من حوله، فيستمتع بهذا المنظر، هذا من تمكين الله لهم، الله أهلكهم.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ): الأوتاد أيضًا إشارة إلى القوة والعظمة والتمكين في الأرض، ولا تجهلون -يا مصريون- مدى قوة فرعون وتمكنه، فالأهرامات هذه قبور من قبورهم، فما بالك بيوتهم كيف كانت؟!! وآثارهم لا تزال مخبأة إلى الآن يكتشفونها يومًا بعد يوم؛ ما يدل فعلاً على حقيقة قول الله تعالى: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ).

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ): ماذا فعل الله تعالى؟! (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)، (رَبُّكَ) لأنه رب رحيم، لا يريد أن يعذب العباد، ولكن هم الذين يَرِدون مورد الهلاك والعذاب فيعذبهم، هم الذين يطالبون بالعذاب يقولون لرسولهم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأعراف: 70]، أرنا ماذا تفعل فينا، حقق وعيدك فينا إن كنت صادقًا!! كلام مستفز، ولكن الله حكيم لا يستفز -سبحانه وتعالى-، فلا يأتي بالشيء إلا في موعده، والرسل أعقل الناس يقول أحدهم -وهو نوح عليه السلام- ممثلاً لهم: (إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ) [هود: 33]، يعني الله تعالى فقط، لست أنا ولا غيري يأتيكم بالعذاب الذي أتوعدكم به، إنما إن شاء الله أن يعذبكم بالدنيا أتاكم بما توعدكم: (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [العنكبوت: 50]، في آية آخري على لسان رسول آخر: مهمتي الإنذار فقط، أما العذاب والبعث والحساب وما إلى ذلك هذا عند ربي لا يعلمه إلا هو، ولا يجليه لوقته إلا هو -سبحانه وتعالى- ولا يوقعه عليكم إلا هو.

(سَوْطَ عَذَابٍ): كما يقال: سيف عذاب، والسوط هو ما يضرب به من الجلد، أنزل الله عليهم سيلاً من العذاب، كأن واحدًا أمسك سوطًا أو آلة للضرب ونزل ضربًا على من كان تحت يده، ضربًا متلاحقًا متتابعًا حتى أشبعه ضربًا وقتله، وهكذا الله تعالى سلط على عادٍ ريحًا متوالية لمدة أسبوع فقط، هواء من هذا الهواء الذي نتنفسه سخره الله عليهم سبع ليالي وثمانية أيام حسومًا، وبعدها (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ)، لم يبق منهم أحد، ماتوا جميعًا، قوم ثمود أهلكهم الله بالصيحة، وقف مَلَك على باب مدينتهم وصرخ فيهم صرخة صعقوا وماتوا جميعًا، فأي قوة هذه؟! وأي قوة لهم إزاء هذه القوة؟! لا قوة لهم، جابوا الصخر ونحتوا الصخر، لكن لا قوة لهم أمام صرخة ملك، فما بالك بتعذيب الله لهم!! وما هذه القدرة الهائلة التي تصرخ صرخة -وهي شيء مما خلق الله- تصرخ في الناس في أمة بأكملها فتموت، قدرة الله عظيمة لا تتناهى ولا تتشابه.

وأما فرعون فهلاكه مضحك مخزٍ، قال وهو في حياته وطغيانه: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف: 51]، يعني من خيري، هذه الأنهار تنبع من تحت قدمي، أنا صاحب الجميل عليكم، أنا ربكم الأعلى!! فخبأها الله له حتى جاء يومه الأخير فجعل الأنهار تجري من فوقه تكذيبًاً وخزيًا، وأهلكه ببعض الماء، مسألة في غاية السهولة في قدرة الله، وفي غاية العجب حين تقع في الخلق، وينجيه ببدنه هو فقط دون غيره وقد أخذ معه رجال مصر كلهم إلا العبيد والخدم والشيوخ الكبار في السن والأطفال الصغار، هؤلاء هم الذين بقوا من رجال مصر، أخذ معه جميع جيشه وجميع رجاله حتى بقيت مصر بغير رجال، وهلكوا جميعًا، هو من بينهم فقط يخرج الله جثته على الشاطئ عبرة لمن بعده: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً) [يونس: 92].

ماذا تفعلون أنتم يا كفار هذه الأمة وأنتم ضعاف، لستم كعاد ولستم كقوم ثمود، ولا تأتون شيئًا في قوة فرعون وجنده، اتقوا الله وخافوا على أنفسكم واعتبروا، (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)، لم تكن حلقة وانتهت، فهي سلسلة ممتدة وسُنة ماضية.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ): ثم بعد ذلك يكلم هؤلاء الكافرين أو يتكلم عنهم بما يفيد أنهم لا يفهمون ولا يحسنون التقدير، قوم لا يفهمون ولا يحسنون تقدير الأمور، تقنع أن يحكموا حياتك -أيها المسلم- باقتراحات وقوانين يستخرجونها لك؟! أم تسلم نفسك لله الذي خلقك؟!

هذا مشهد من مشاهد حياة الناس وليس كل شيء، ولكنه موقف يدل على جهلهم وغبائهم وعدم حسن تقديرهم: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ)، ابتلاه أي اختبره، (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ): وسّع عليه في الدنيا والرزق، فيفرح بالنعمة ويغتر بها ويظن أن الله يعطيه من رضاه: (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)، هذا فريق من الناس، فريق الأغنياء والأثرياء والمليارات، يظن أن الله يكرمه لفضله، ولأنه إنسان فاضل مثالي، ولذلك ييسر الله له حياته كلها، بينما هي لجنة اختبار، أرأيت عندما يدخل الطالب فيعطيه المراقب ورقة بيضاء يكتب فيها الإجابة، ويعطيه ورقة أسئلة، فيظن في نفسه أنه صاحب فضل، وأن المراقب أعطاه ورقة وأسئلة وأعطاه كرسيًا ليجلس، وهذا ليس من الفضل، وإنما أدخلوه هنا ليمتحن، وأعطوه هذا ليُختبر، هذا جهل عميق.

وعلى الجانب الآخر ترى الفقراء البسطاء أيضًا لم يعفوا من الغباء، حين أساءوا التلقي عن الله، وكفروا بغير عقل، أو حسبوا أمورهم بغير عقل وفكر.

(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ) أي وأما الإنسان، (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ): من معانيها في اللغة العربية: ضيق، فضيق عليه رزقه، رزقه على قدر الكفاف وربما لا يكفي، (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)، ربي غضبان عليّ، وهذا نموذج نراه في البشر كثيرًا، من يجد نعمة ورخاءً يقول: والله ربنا راضي عليا، الحمد لله!! ما أطمع في شيء إلا ويسره الله لي، قد يكون هذا من رضا الله عليه فعلاً، وقد يكون من غضبه عليه، وقد يكون اختبارًا ابتداءً، وابتداء الأمر أن يكون اختبار.

ويقول الآخر حين ضيق الله عليه في الرزق: إن الله يهينني فيمنعني رزقي إهانةً لي وغضبًا عليّ، الله تعالى ينكر هذا وهذا، هذه الورقة مشطوب عليها، وهذه الورقة مشطوب عليها، والاثنان راسبان في الامتحان، (كَلاَّ)، أنت على خطأ، وصاحبك على خطأ.

إذًا ما الذي جعلهم يخطئون، هذا الأمر يحتاج إلى تفسير وإلى علم، نعم تحسن الظن بالله وتفهم عن الله فهمًا صحيحًا، إنما أوقع الناس في هذا الفهم المغلوط في هذه المسألة وفي غيرها في مسائل حياتهم الكثيرة أنهم تركوا الفضائل التي تدعوهم إليها العقيدة، والتي يحبونها لأنفسهم بالعقل، فكيف لا تحبه لغيرك.

(كَلَّا) لم تفكروا فيه!! لكن الحق (بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)، إذًا لم يخرج منهم خير لغيرهم، هذه واحدة (لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)، لا عينًا ولا قولاً، فإكرام اليتيم يكون بالإنفاق عليه، بكفالته، بتربيته، بإعانته وهكذا، والحض على طعام المسكين يكون بكلمة، يا صاحب المال: هناك أسرة فقيرة في المكان الفلاني، ليتك تزورهم مرة وتنظر في مساعدتهم، جزاك الله خيرًا، ذهب أم لم يذهب أخذت ثوابك، حصلت أجرك، الكلمة بخلوا بها، كما بخلوا بما عندهم وشحت أنفسهم.

(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا): هذا في النفس، يأكل التراث: الميراث، ميراث الميت يأخذه واحد ويترك الباقي، لا يعطي كل ذي حقٍّ حقه، وقد قسمه رب العالمين، وحين يخرج هذا من كافر فالأمر متوقع أن يخرج منه مثل ذلك، لكن حين يفعله مسلم ويأكل حق إخوانه أو أخواته، ويأكل حق أمه أو حق أبيه أو حق الضعيف أو حق اليتيم أو كذا... فذلك أمر في غاية الشين وغاية العيب؛ لأنك صاحب منهج وصاحب دين، وتقول: إنك مؤمن بالله، إذًا لابد أن تطبق حق الله في الميراث وتعطي كل ذي حقٍّ حقه، لكن هؤلاء الناس الذين يتكلم الله عنهم في السورة بخلوا بخيرهم عن غيرهم، وأحبوا الخير لأنفسهم وكتموه: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا) دون تمييز، هذا لمن؟! لي أو لغيري؟! لا كله لي.

(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) حبًّا كثيرًا، لا تستغرب -أخي المسلم- أن يحب الإنسان المال حب عبادة حتى يصير المال في حياته واهتماماته في مقام الألوهية، وهو له في مقام العبودية، قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار"، وهذه العملة المستعملة على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، واليوم يترجم الحديث في شرحه بأن نقول: تعس يعني اللهم أتعس، والداعي بذلك نبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي دعوة مستجابة: تعس عبد الجنيه، تعس عبد الدولار، تعس عبد الدينار، تعس عبد الريال، تعس عبد اليورو، تعس عبد الذهب، تعس عبد الفضة"، كل من جمع مالاً واهتم به وكرس حياته لذلك وأخذه بشهوته لا بمنهج ربه، فهذا صار عبدًا للمال، جمع فأوعى، يجمع المال ويكنزه، يعظم المال جدًا (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا).

إذًا الإنسان كثيرًا ما لا يفهم، كثيرًا ما لا يحسن تقدير الأمور، والسبب في ذلك شح نفسه وضيق نفسه، إنسان مثل هذا والذي في السورة كافر، وفي الواقع فإن الذي نأخذ منه القانون كافر أيضًا، تأخذ من هذا الجاهل، من هذا الذي لا يحسن الفهم ولا التقدير، تأخذ منه قانون حياتك؟! كيف؟! تأخذ من هذا البخيل الشحيح على أقرب الناس إليه، على إخوانه وأخواته وأصحابه في حقوقهم، أتأمنه على حياتك أم إنه يقنن لك ما به يمتص دمك، ويأكل به خيرك، ويحتل به أرضك وعقلك، ويأخذ منك حياتك وأنت لا تدري.

في ختام السورة -وهو ختام يعتبر طويلاً لأنه أخذ قرابة نصف السورة- يعرّج الله ويعود للحديث على يوم القيامة: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي معناها حقًّا إذا دكت دكًّا حين تدك (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)، دكت من أعلى فامتدت وصارت عريضة مستوية السطح.

(وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، (وَجَاءَ رَبُّكَ): الله أكبر، عشنا في أيامنا وحياتنا، جاء الناظر، جاء المدرس الذي يوقف الطابور، جاء الضابط في أي وحدة عسكرية أو شرطة بوليسية في الحياة العسكرية، جاء القائد، جاء الأب، الكل يؤوي إلى مكانه، جاء أسد البيت، رب البيت، فإذا جاء الكل يحترمه، كان هذا قديمًا طبعًا، لكنه منظر محفوظ في الأذهان والقلوب، جاء فلان الكل يعظم مجيئه، إلى الآن ينادي منادي المحكمة: محكمة، يدخل القاضي الكل يقوم له، صاحب قضية، متهم، بريء، وآخر رفع القضية وذهب ليطلب حقه، ضيف يتفرج، أو واحد جاء يتابع، كلهم يقومون له، فما بالك: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، عظيمة خطيرة ينبغي أن تهز القلوب، (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، الملائكة نفسها بقوتها، بقربها من الله، بحب الله لها، باصطفائها، واقفة صفًّا منتظمًا لا اعوجاج، فأين أنت أيها الإنسان يومها وساعتها؟! الملائكة العظام واقفة هكذا، (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا). إذًا أولى بالإنسان أن يملكه الرعب ويأخذه الجلال، بمجرد مجيء الملك العلام -سبحانه وتعالى- بالكرم والجلال.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) جهنم تجر، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "يأتي بجهنم يوم القيامة ولها سبعون ألف زمام -يعني كأن الزمام لو تصورناه سلسلة فيها سبعون ألف سلسلة تُجَرُّ منها- مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"، ولعلك تشهد منظر الجر في قول الله تعالى: (وَجِيءَ) بالياء هكذا: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ)، وكان بإمكان الله وحكمته أن يقول: (وَجاءت جهنم)، إنها لا ترفع، لكنها تجر على الأرض ثقيلة عظيمة نازلة إلى أسفل، كيف ترفع أهلها؟! لا يرفعون، فهي كذلك لا ترفع (وَجِيءَ)، وهذا المد في النطق يشير إلى طول المجيء، ومن بعيدًا ترى أنها وقومها تعرفهم: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [الفرقان: 12]، تنفخ عليهم نفخًا من حرها قبل أن يدخلوها، استعجالاً لهم بالعذاب، وتعجيلاً لهم بالعقاب، حتى إذا وصلت إليهم وسوقوا إليها وقدموا في أولهم: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) [الملك: 7].

هكذا تجذبهم إلى داخلها وعمقها بجذبة من نفسها، شهيقًا وهي تفور، (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)، إنها مغتاظة من هذا الإنسان الذي أكل رزق الله وشكر غيره وعبد سواه ووهب حياته وعبوديته لغير من خلقه ورزقه وسوّاه، فهي تغار على حق الإله، وبالتالي تغتاظ، تكاد تتقطع من غيظها، الغيظ يقطعها: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ).

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ) ما فعل، يتذكر الإنسان كل أعماله، وتعرض عليه الصحف ويستلمها كما يشاء الله له، ويقول الله له: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 14]، اقرأ أعمالك واحكم على نفسك، ولذلك كان من طريف المواعظ أن قال شيخ يومًا قولة أعجبني سأكررها، حين اختلف الناس أو نازع الناس في حكم السجائر والتدخين: "حرام، بل مكروه فقط، بل ليس حرامًا... وهكذا" فقال: إذا قيل لك يوم القيامة من قِبل المولى -سبحانه وتعالى-: ضع السجائر بنفسك أنت، إما في كفة الحسنات أو كفة السيئات، فأين تضعها بالله عليك؟! قال قولاً لا يستطيع إنكاره: بل أضعها في كفة السيئات، قال: إذا كلّفك الله بأن تدخل هذه الكفة إما الجنة وإما النار باختيارك أنت، قال: النار، تدخل النار، إذًا: هي حرام أم حلال؟!

فهذا هو عمل العقل يستقبل عن الله استقبالاً صحيحًا بفهم، لو فكر الإنسان لعلم أن حكم الله أولى الأحكام بقيادة الحياة وبتنظيم الحياة.

 

  

الخطبة الثانية:

  

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ) يعني كل ما سعاه وكل ما عمله، ولكن: (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)، (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ)، ولم يذكر له ماذا يتذكر ليعم كل شيء، كل ما سعى إليه وكل ما قدمه، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)، يعني ماذا تنفعه الذكرى، الطالب يوم الامتحان داخل اللجنة تذكر أنه في امتحان، وبالليل ما كان يذكر أن عنده امتحانًا، وحتى لو قيل له: عندك امتحان، سيقول: يا أخي: لها ألف حل، وساعة أن دخل اللجنة فوجئ أنه في امتحان فعلاً، فماذا يفعل هذا التذكُّر؟! يقول: يا ليتني، ويتحسر ويندم.

(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي): يا ليتني قدمت في الدنيا لحياتي الآخرة من أعمال ترفعني وتنفعني وتدخلني الجنة وتبعدني عن النار.

(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ): عذاب الله يومها لم تر الدنيا له مثيلاً ولا شبيهًا ولا نظيرًا، تتحدث الناس بالدنيا بأساليب التعذيب في أمن الدولة في السجون وفي بلد كذا وكذا، ووالله كلها مثل شكة الدبوس بما يفعل الله -عز وجل- بالكافرين، فقد سماه الله في السورة السابقة العذاب الأكبر: (فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ) [الغاشية: 24]، لا كبير مثله ولا شيء معه يشابهه: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ): الوثاق هو الرباط، وفي الدنيا أربطة ما يكتفون به الناس ويربطونه ويغلّونه في رقبته، في يديه، في رجليه، من سلاسل وحبال وغير ذلك، وثاق الله شيء آخر، شيء لا يوصف، ذكر الله لنا شيئًا منه في سورة الحاقة: (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 32]، الله يأمر زبانية النار أن خذوا هذا الكافر واسلكوه في سلسلة، أي أدخلوه في سلسلة، أو أدخلوا السلسلة فيه كما يوضع الخيط في الإبرة، كذلك أدخلوه واسلكوه في سلسلة، أي اجعلوها تسلك من داخله فتدخل من فمه وتخرج من دبره -والعياذ بالله- تسير فيها كالحبة في الحبل، ما طول هذه السلسلة؟! ذرعها أي طولها في الذراع، طول ذراع الإنسان، الله أعلم، أو طول ذراع الملك، الله أعلم، على الأقل بطول ذراعنا تكون سبعين ألف ذراع، ما لا يقل عن خمسين مترًا تقريبًا بلغة العصر، سلسلة لإنسان واحد تدخل من فمه وتخرج من دبره، والله لو كان قدره لكفت، لكن هي خمسون مترًا على الأقل بتقديرنا، وفي خبر الله في القرآن: (سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) أي أدخلوه فيها.

(وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ): هذا من شأنه أن يزلزل القلوب وأن يحركها، فحينما تصطدم بهزة عنيفة لعلها تعود إلى طبيعتها وتفكر وتعقل وتحجر على صاحبها، كيف تعبد هذه الآلهة المزعومة؟! كيف تمضي وراء هواك؟! كيف تريد أن تعيش بتجربة غيرك وعندك شرع محكم، وعندك حق خالقك عليك، أتتركه وقد سبقك إلى ذلك خلق كثيرون، عاشوا بمنهج الله وآمنوا به وسعدوا بالحياة الدنيا ولهم في الآخرة أسعد وأعظم قدرًا وأرفع مقامًا؟! ينادى عليهم في أول أبواب الآخرة ومداخلها عند الموت، تنادي ملائكة قبض الأرواح -اللهم رزقنا وأنت خير الرازقين-: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)، لماذا المطمئنة؟! لأنها حين آمنت بالله أمنها الله وطمأنها، فلا تخشى من شيء، لا خوف عليها في المستقبل ولا هم يحزنون في الماضي، فصارت النفس مطمئنة إلى الله ومطمئنة بالله، أما غيرها فهي نفس خائفة خاسرة خائبة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)، نعم لبيكم: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)، الله أكبر، راضية: أي وأنتِ راضية، راضية سوف يرضيكِ الله أكثر ويعطيكِ ما يزيد به رضاكِ، مرّ في السورة السابقة: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ)، في جنة عالية، ولماذا لا ترضى!! والعيشة نفسها راضية: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)، فالرضا ملأ قلب المؤمن في الدنيا فيملؤه كذلك في الجنة، ويزيده الله رضا حتى يفيض الرضا منه على الحياة من حولها، فيصبغها جميعًا بالرضا، فهو في عيشة راضية.

(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي). اللهم ارزقنا الجنة، لا أظن أن أحد ينادى عليه يوم موته بهذا ويقول: أرجوكم اتركوني لحظة، أنظر فيها نظرة توديع إلى داري، أنظر فيها نظرة إلى أولادي، أنظر فيها إلى كذا، أستمتع فيها بهذا المال، آكل من الطعام الذي في بيتي آخر لقمة، والله لن يقول هذا، لماذا؟! لأنه الله يريه بشريات ساعتها، أمامه خير غطى على الدنيا وما فيها فينسيه كل شيء، فتنشط روحه إلى ذلك وتستجيب الروح بسرعة إلى ذلك، كما قال تعالى عن ملائكة قبض أرواح المسلمين في سورة النازعات: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) [النازعات: 2]، فالنفوس المؤمنة حين ينادى عليها بهذا تنشط لتلبية نداء الله، وتنشط لإجابة الدعاء، وتسعد بالحياة الآخرة التي لا يعادلها في الدنيا شيء.

رأى هذا الإنسان صاحب النفس المطمئنة بالإيمان، رأى في الدنيا بؤسًا وظلمًا وعندًا وحربًا وقهرًا، بلغ ببعض إخواننا أن صلاة الفجر عندهم في المسجد كانت جريمة، والبنت التي ترتدي الحجاب جريمة!! في بعض البلاد التي طغت عليها روسيا والشيوعية من كان معه مصحف جريمة!! ولذلك حينما زالت الشيوعية وقامت الجمهوريات الإسلامية أخبر الأولاد والأحفاد أنهم كانوا أحيانًا يجدون في داخل الجدران مصحفًا، وكأن الناس قديمًا يخبئون المصاحف، لا يتخلصون منها، إنما يخبئونها لعلها تظهر يومًا، كنز عظيم يخبئونه لأحبابهم من خلال الجدران والحوائط، فكانوا يجدونها هكذا.

تخيل يحارَب المسلم لأنه يملك مصحفًا؛ لأنه يطيع ربه، لأن المرأة لبست حجابًا، لأن الشاب ارتاد المساجد وبدأ يصلي وأطلق لحيته اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، لماذا هذا البؤس وهذا الظلم وهذا العنت؟! يذهب الإخوة للتقدم على وظيفة يقولون له: احلق لحيتك أولاً حتى تستطيع العمل، ويحرم الإخوة الملتزمون بالسنة من فرصة عمل، يأخذها غيرهم وان كان يشرب الخمر –ما دام بغير لحية-، تريد المرأة أن تدخل قاعة من قاعات الأفراح -فاليوم عرس ابنتها- ممنوع يا سيدتي، أنا أم العروس، ممنوع، اخلعي النقاب وادخلي!! سبحان الله!! إلى هذا الحد؟! كل هذا البؤس الذي ضيق صدور المؤمنين، يوم القيامة يغمس الله المؤمن غمسه في الجنة ثم يخرجه، يجعله ينظر فيها نظرة لا يأكل ولا يشرب، ثم يسأل على ملأ من الأشهاد: هل رأيت بؤسًا قط؟! يقول: لا والله ما رأيت بؤسًا قط، غمسه في الجنة أنسته كل مشكلة رآها في الدنيا، كل ألم عانى منه في الدنيا.

اللهم ارزقنا الجنة، واجعلنا من المقربين الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا سابقة عذاب ولا كلمة عذاب، يا كريم يا وهاب.