المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | عبده قايد الذريبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لقد انتشرت العنوسة في أوساط الفتيات، وخاصة في بعض المجتمعات، وذلك بسبب إحجام القادرين من الرجال على التعدد، وفي أحيان كثيرة بسبب رفض بعض النساء لأمر الله وأمر رسوله حيث أباحا ذلك، فيرفضن أي خاطب يقدم للزواج وهو متزوج بامرأة من قبل ..
الحمد رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس: اعلموا -رحمكم الله- أن الإسلام جاء بالدعوة والحث على كل خير، والتحذير والتنفير من كل شر، جاء الإسلام بحفظ ورعاية مصالح الناس في أولاهم وأخراهم.
جاء الإسلام بمنع تناول كل خبيث وضار، وإباحة كلما فيه منفعة أو مصلحة تعود على الناس في الدنيا ما لم يكن في هذه المصلحة مخالفات شرعية، ومن هذه الأمور التي أباحها الإسلام: تعدد الزوجات.
عباد الله: لقد انتشرت العنوسة في أوساط الفتيات، وخاصة في بعض المجتمعات، وذلك بسبب إحجام القادرين من الرجال على التعدد، وفي أحيان كثيرة بسبب رفض بعض النساء لأمر الله وأمر رسوله حيث أباحا ذلك، فيرفضن أي خاطب يقدم للزواج وهو متزوج بامرأة من قبل.
حيث إن الله -جل وعلا- أباح تعدد الزوجات، وأسندت ذلك السنة النبوية، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً) [النساء: 3]. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية التي نصت على إباحة تعدد الزوجات: "أي أنه إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه".
ونقل ابن جرير عن ربيعة في معنى هذه الآية: "اتركوهن فقد أحللت لكم أربعًا".
وقال الإمام النسفي في تفسيره: "قيل: كانوا في الجاهلية لا يتحرجون من الزنا، ويتحرجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرمات". وفي هذا رد على الذين ينابذون وينكرون فكرة تعدد الزوجات وقد أباح الله ذلك بضوابط وقيود، وتجدهم لا يتحرجون من الزنا واتخاذ الخدينة والعشيقة، بل يجيز الواحد منهم لنفسه أن يتخذ له امرأة يفعل معها كل شيء دون أن يعقد عليها نكاحًا شرعيًّا.
نعم -عباد الله-، أباح الله تعدد الزوجات بقيود وضوابط، ومن هذه القيود والضوابط ما يلي:
أولاً: أن لا يزيد على أربع زوجات في وقت واحد، ودليل ذلك ما سبق في الحديث الذي أخرجه البخاري أن غيلان الثقفي أسلم وله عشر زوجات، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اختر منهن أربعًا وفارق سائرهن". وكذلك ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن الحارث بن قيس الأسدي قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اختر منهن أربعًا".
بل لقد أجمع علماء أهل السنة من السلف والخلف على أنه لا يجوز لغير النبي -صلى الله عليه وسلم- الزيادة على أربع زوجات.
وقد ردّ العلامة القرطبي على من زعم إباحة أكثر من أربع نسوة في وقت واحد فقال: "قال هذا من بعُد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن "الواو" في الآية جامعة... والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة هم الرافضة... وذهب بعض أهل الظاهر إلى أقبح منها فقالوا بإباحة الجمع بين ثماني عشر زوجة... وهذا كله جهل باللسان -أي اللغة- والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة؛ إذ لم يُسمع عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع".
وقال القرطبي أيضًا: "الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين ثلاثة أربعًا، وكذلك تستقبح من يقول: أعط فلانًا أربعة ستة ثمانية ولا يقول ثمانية عشر. وإنما الواو في الآية الكريمة (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، هي بدل انكحوا ثلاثًا بدلاً من مثنى، ورباعًا بدلاً من ثلاث.
ولم يعطف بـ"أو" ولو جاء بـ"أو" لجاز أن لا يكون لصاحب المثنى ثلاث ولا لصاحب الثلاث رباع". بل إن العقد يبطل فيما إذا عقد بخامسة، بل أوجب عليه بعض العلماء إقامة الحد.
القيد والشرط الثاني من شروط إباحة تعدد الزوجات: أن يكون الرجل الذي يريد التعدد مستطيعًا قادرًا على ذلك، أي قادرًا على النفقة عليها أو عليهن وعلى أولادهن بما يكفيهم جميعًا.
وأن يكون لديه أيضًا القدرة على الجماع، بحيث يكون قادرًا على ممارسة الجماع مع الزوجات؛ لأن من واجب الزوج تجاه زوجته أن يلبى الرغبات الطبيعية للزوجة أو الزوجات حتى يساعدهن على العفة والطهارة، فإذا كان الزوج عاجزًا عن ذلك فإنه لا يجوز له إمساك حتى ولو زوجة واحدة تحته؛ لأنه بإمساكه ذلك يكون ظالمًا لها، فضلاً على أن يمسك تحته أكثر من زوجة.
وشاهد ذلك ما جاء في الحديث المتفق على صحته عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج"، والباءة: مؤنة النكاح.
وكذلك أن يكون قادرًا على إقامة العدل بينهن، وذلك في المبيت والآثاث، وفي السفر والحضر، وما إلى ذلك من الأمور الظاهرة المقدور عليها التي يجب عليه أن يعدل بين الزوجات فيها، قال الله -جل وعلا-: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً) [النساء: 3]. ويقول: (فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) [النساء: 129]. وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل".
بل إن الإسلام منع الزوج من الزواج بثانية إذا اشترطت المرأة الأولى عند عقد زواجها أن لا يتزوج عليها، فوافق الزوج على ذلك، فإن عليه احترام العقد وعدم الاقتران بأخرى إلا برضا الزوجة الأولى وتنازلها عن الشرط، فقد جاء في الحديث المتفق على صحته: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج".
أيها الناس: إن تعدد الزوجات عندنا -نحن المسلمين- ثابت بالكتاب العزيز والسنة النبوية المشرفة، ويقره العقل النظيف، والواقع يؤيده ويسانده.
فقد أثبتت الإحصائيات الحديثة أن نسبة الوفيات من الذكور أكثر منها في النساء، وذلك من ساعة الولادة وحتى أوائل مراحل الشباب، الأمر الذي يسبب زيادة في نسبة الأحياء من الإناث على الذكور، وفي مرحلة الشباب أيضًا تظل النسبة أعلى في الوفيات في الذكور لظروف أخطار الحروب والعمل وغيرها، وهكذا تظل الإناث في زيادة كبيرة عن تعداد الذكور.
كذلك كثيرًا ما تتعرض دولة بعينها لخطر الحرب تفقد معه عددًا كبيرًا من أبنائها، فتطفو أعداد كبيرة من الأرامل على سطح المجتمع، كما تزيد نسبة الإناث كثيرًا في هذه البلدان عن نسبة الذكور، ولقد قرر مؤتمر الشباب العالمي في ميونخ بألمانيا عام 1948م عقب الحرب العالمية الثانية إباحة تعدد الزوجات بعد أن استعرض المجتمعون سائر الحلول، ولم يجدوا حلاً غيره لمشكلة زيادة عدد النساء أضعافًا مضاعفة عن الرجال.
وحتى لو انعدمت الحروب وتضاءلت احتمالات مخاطر العمل وتساوت نسبة الأحياء بين الذكور والإناث، فإن هناك حقيقة مهمة جدًّا تحول أنظارنا رغمًا عن الجميع إلى موضوع التعدد، وهي أن طبيعة كثير من الرجال النفسية والجسمية تجعلهم في حالـة شهوة جنسية مستمرة، خاصة مع وجود فترة دائمة لا تقل عن ربع عمر المرأة لا تتـم فيها المباشرة الزوجية، فهل من الخير أن يبحث مثل هؤلاء عن الاكتفاء والمتعة في الظلام بين الخطيئة والدنس والزنا أم أن هناك حلاً آخر يشرق بالفضيلة ويحفظ الأنساب ويقرر التعامل بصدق وحسن خلق ومودة في وضح النهار؟!
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
أيها الناس: إن الله -جل وعلا- لم يجز تعدد الزوجات إلا لِحِكَم قد ندركها وقد لا ندركها، ولكن حكمة تعدد الزوجات قد بانت وظهرت لنا، فلقد أظهرت آخر الإحصاءات الرسمية لتعداد السكان بالولايات المتحدة الأمريكية تبين أن عدد الإناث يزيد عن عدد الرجال بأكثر من ثمانية ملايين امرأة. وفى بريطانيا تبلغ الزيادة خمسة ملايين امرأة، وفى ألمانيا نسبة النساء إلى الرجال هي 3 : 1. وفي إحصائية نشرتها مؤخرًا جريدة "الميدان" الأسبوعية عدد الثلاثاء 6 مايو 1997م أكدت الأرقام أنه من بين كل عشر فتيات مصريات في سن الزواج -الذي تأخر من 22 إلى 32 سنة- تتزوج واحدة فقط!! والزوج دائمًا يكون قد تخطى سن الخامسة والثلاثين وأشرف على الأربعين، حيث ينتظر الخريج ما بين عشر إلى اثنتي عشرة سنة ليحصل على وظيفة ثم يدخر المهر ثم يبحث عن نصفه الآخر!!
وقالت الإحصائية: إن العلاقات المحرمة تزيد، وكذلك ظاهرة الزواج العرفي في ظل وجود ملايين من النساء بلا زواج، وأكدت الباحثتان غادة محمد إبراهيم وداليا كمال عزام في دراستهما أعدت تحت إشراف أساتذة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية تراجع حالات الزواج بين الشباب بنسبة 90% بسبب الغلاء والبطالة وأزمة المساكن.
وتقول إحصائية رسمية أمريكية: إنه يولد سنويًا في مدينة نيويورك طفل غير شرعي من كل ستة أطفال يولدون هناك.
ولا شك أن العدد على مستوى الولايات المتحدة يبلغ الملايين من مواليد السفاح سنويًا. وقس على ذلك بقية الدول التي تسير على شاكلة الولايات المتحدة الأمريكية.
أيها الناس: لقد أصحبت العنوسة مشكلة منتشرة في أوساط كثير من المجتمعات، ففي تحقيق ساخن عن "انفجار العوانس" تذكر السيدة تهاني البرتقالي مراسلة الأهرام في الكويت ما حدث منذ سنوات عندما انتشرت ظاهرة إرسال مئات الخطابات من فتيات إلى زوجات كويتيات تطالب كل فتاة في رسالتها المرأة المتزوجة بقبول مشاركة امرأة أخرى لها في زوجها لحل مشكلة العنوسة في المجتمع الكويتي والخليجي بصفة عامة. ويقول التحقيق الذي نشرته مجلة الأهرام العربي في عددها الأول: إن عدد عوانس الكويت حوالي أربعين ألف فتاة.
وهو عدد ليس بالقليل بالمقارنة بتعداد الشعب الكويتي ككل، وهو نصف مليون نسمة، أي إن نسبة العوانس في الكويت تبلغ 16% من عدد النساء في الكويت، الذي يزيد على الربع مليون نسمة.
يقول الدكتور محمد هلال الرفاعي اختصاصي أمراض النساء والتوليد: "عدم الزواج أو تأخيره يعرض المرأة لأمراض الثدي أكثر من المتزوجة، وكذلك سرطان الرحم والأورام الليفية، وقد سألت كثيرًا من المترددات على العيادة: هل تفضلين عدم الزواج أم الاشتراك مع أخرى في زوج واحد؟! كانت إجابة الأغلبية الساحقة هي تفضيل الزواج من رجل متزوج بأخرى على العنوسة الكئيبة، بل إن بعضهن فضلت أن تكون حتى زوجة ثالثة أو رابعة على البقاء في أسر العنوسة.
وإذا كان هذا هو رأي العلم، فإن المرأة الطبيبة تكون أقدر على وصف الحال بأصدق مقال؛ تقول طبيبة في رسالة بعثت بها إلى الكاتب الكبير أحمد بهجت: "إنها قرأت إحصائية تقول: إن هناك ما يقرب من عشرة ملايين سيدة وآنسة بمصر يعشن بمفردهن، وهن إما مطلقات أو أرامل لم ينجبن أو أنجبن، ثم كبر الأبناء وتزوجوا أو هاجروا، أو فتيات لم يتزوجن مطلقًا.
وتقول الطبيبة: هل يستطيع أحد أن يتخيل حجم المأساة التي يواجهها عالَم النساء الوحيدات؟! إن نساء هذا العالم لا يستطعن إقامة علاقات متوازنة مع الآخرين، بل يعشن في حالة من التوتر والقلق والرغبة في الانزواء بعيدًا عن العيون والألسنة والاتهامات المسبقة بمحاولات خطف الأزواج من الصديقات أو القريبات أو الجارات، وهذا كله يقود إلى مرض الاكتئاب، ورفض الحياة، وعدم القدرة على التكيف مع نسيج المجتمع.
وتدق الطبيبة ناقوس الخطر محذرة مما يواجه هؤلاء النسوة من أمراض نفسية وعضوية مثل الصداع النصفي وارتفاع ضغط الدم والتهابات المفاصل وقرحة المعدة والاثني عشر والقولون العصبي واضطرابات الدورة الشهرية وسقوط الشعر والانحراف الخلقي، ويضطر الكثير منهن للارتباط برجل متزوج.
والطريف أن بعض الدول الغربية التي تعانى من المشكلة المزعجة، وهى زيادة عدد النساء فيها على عدد الرجال، اضطرت إلى الإقرار بمبدأ تعدد الزوجات؛ لأنه الحل الوحيد أمامها لتفادى وقوع انفجار اجتماعي لا قبل لها بمواجهته، أو علاج آثاره المدمرة، حدث هذا في ذات الوقت الذي يرفع فيه بعض المسلمين -اسمًا فقط- راية الحرب على تعدد الزوجات وشرعيته!!
يحكي الدكتور محمد يوسف موسى ما حدث في مؤتمر الشباب العالمي الذي عقد عام 1948م، بمدينة ميونخ الألمانية، فقد وجهت الدعوة إلى الدكتور محمد يوسف وزميل مصري له للمشاركة في حلقة نقاشية داخل المؤتمر كانت مخصصة لبحث مشكلة زيادة عدد النساء أضعافًا مضاعفة عن عدد الرجال بعد الحرب العالمية الثانية، وناقشت الحلقة كل الحلول المطروحة من المشاركين الغربيين، وانتهت إلى رفضها جميعًا؛ لأنها قاصرة عن معالجة واحتواء المشكلة العويصة.
وهنا تقدم الدكتور محمد موسى وزميله الآخر بالحل الطبيعي الوحيد، وهو ضرورة إباحة تعدد الزوجات.
في البداية قوبل الرأي الإسلامي بالدهشة والنفور، ولكن الدراسة المتأنية المنصفة العاقلة انتهت بالباحثين في المؤتمر إلى إقرار الحل الإسلامي للمشكلة؛ لأنه لا حل آخر سواه، وكانت النتيجة اعتباره توصية من توصيات المؤتمر الدولي.
وبعد ذلك بعام واحد تناقلت الصحف ووكالات الأنباء مطالبة سكان مدينة "بون" العاصمة الألمانية الغربية بإدراج نص في الدستور الألماني يسمح بتعدد الزوجات. وهكذا يتبين الحق ولو كره العلمانيون! ولو كره المعاندون والمنحلون.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.