الوارث
كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...
العربية
المؤلف | حسين بن غنام الفريدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إن تعدد الزوجات ضرورة اجتماعية ورحمة بالمرأة ورعاية لها قبل أن يكون مغنمًا وكسبًا للرجل، وهذه حقيقة مشاهدة مدركة في العيان، يشاهدها كلّ ذي بصر وبصيرة، فإن نسبة النساء في أي مجتمع تفوق نسبة الرجال، فغير خافٍ عليكم كثرة ولادة الإناث وتعرّض الرجال للموت والفناء أكثر من النساء؛ لأنهم يتعرضون للحوادث المختلفة وللحروب الطاحنة وكدح الحياة في الأعمال الشاقة ..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واشكروه إذ هداكم للإسلام وعلمكم الحكمة والقرآن، وتمسكوا بهذا الدين فإنه عصمة أمركم، وإياكم وتحريف الغالين وشُبه المبطلين وانتحال المغرضين، وكونوا على بصيرة مما يخططه لكم أعداء الدين لتعرفوا بذلك خير الخيرين وشرّ الشرين.
عباد الله: تحدّثتُ أمامكم في خطبة مضَت عن تأخير الزواج وخطورة ذلك على الفتيان والفتيات، وإنني اليوم أتحدث عن موضوع يُسهم في معالجة تلك القضية ويقدّم حلاً لمن بلي بهذه البلية.
إن الحديث عن موضوعٍ هو تشريع شرعه الله وسنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسار عليها أصحابه الكرام من بعده، ولقد كان مألوفًا في سلف هذه الأمة، ولكننا في هذا الزمان وحينما انتكست فطرُ بعض الناس وأصبح الزنا خُلقًا وسجية عند بعض الشعوب وواقعةً لا يعاقب عليها القانون في كثير من الحالات. في هذا الزمان أصبح موضوع خطبتنا جريمة لا تغتفَر وهمجية ورجعية يستَحيَا منها أمام الشعوب المتحضرة المتقدمة -زعموا-.
إن موضوعنا إذا أمعنّا فيه النظر دليل كمال هذا الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان، ودليل على شموليته وسعة أحكامه. إن موضوعنا رغم أنه شرع وسنة فقد أصبح في بعض الدول المنتسبة للإسلام جريمة نكراء وداهية دهياء.
إن قوانين تلك الدول لا تمانع أن يتزوّج الرجل بزوجة واحدة ويتّخذ ما شاء غيرها من العشيقات والأخدان، ولكن الويل كلّ الويل لمن يكتَشف وفي عصمته أكثر من زوجة. إن ما شرعه الله وسنة رسول الله جريمة منكرة في قانون القوم!!
عباد الله: موضوع خطبتنا هو تعدّد الزوجات، تلكم السنة التي نفر منها كثير من الناس تقليدًا وتشبّهًا بأعداء الله، وهي قضية محسومة لا جدال فيها ولا مماراة، نصّت عليها الأدلة في هذه الشريعة الغراء، يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) [النساء:3].
ولقد عدَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن الزوجاتِ وفَعله الصحابة -رضي الله عنهم-، واستمرَّ عملُ النّاسِ على هذا في كل عصرٍ ومصر.
يحسِن الرجل إلى المرأة حين يضمّها إليه مع زوجته الأولى؛ لأن بقاءها بدون زوج خطرٌ عليها من كل جانب.
ولم يُعرف عن سلف هذه الأمة ظاهرةُ تأذِّي الزوجة بزواج الرجل من أخرى، وإنما ظهرت هذه البوادر في عصرنا الحاضر بعد أن ضَعُفت العقيدة في النفوس وجهِل الكثير من الناس أحكام الإسلام، بل وتأثروا بمن انحرف عن جادة الصواب.
وظهرت آثار المسلسلات الهابطة والكتابات الماجنة والصيحات الخادعة والنداءات المزوّقة، واستمرت تنخر في أدمغة الناس حتى نجح الأعداء في هدم كثير من المسلمين عن هذا التشريع العادل.
عباد الله: ألسنا مسلمين؟! ألا نؤمن بعلم الله وحكمته وعدله ورحمته؟! سبحانه وتعالى لا يشرع إلا لحكمة، ولا يُرغّب إلا بما هو في صالح العباد، علِموا ذلك أو جهلوا، وديننا دين الفطرة السليمة ينأى بنا عن الرذائل ويوجّهنا نحو الفضائل.
عباد الله: لو أردنا في هذه العجالة أن نستقصي الحكمة من شرعية تعدد الزوجات لطال بنا المقام، ولكن إليكم بعضها على سبيل الإيجاز:
معاشر الأحبة: إن تعدد الزوجات ضرورة اجتماعية ورحمة بالمرأة ورعاية لها قبل أن يكون مغنمًا وكسبًا للرجل، وهذه حقيقة مشاهدة مدركة في العيان، يشاهدها كلّ ذي بصر وبصيرة، فإن نسبة النساء في أي مجتمع تفوق نسبة الرجال، فغير خافٍ عليكم كثرة ولادة الإناث وتعرّض الرجال للموت والفناء أكثر من النساء؛ لأنهم يتعرضون للحوادث المختلفة وللحروب الطاحنة وكدح الحياة في الأعمال الشاقة. إذا كان الحال ما ذُكِرَ فإن اقتصار الرجل على امرأة واحدة سبب في إهمال العدد لكثير من النساء، فيصبحن نهبًا للضياع وأكثر تعرضًا للفتن.
ثم إن مرض أو عقم الزوجة أو توقفها عن الإنجاب والرجل محتاج إلى الذرية بحكم فطرته، فإن ذلك يدعوه إلى الزواج بامرأة أخرى، وعمله هذا خير من طلاقه للأولى وتشرّدها.
ثم إن ما يتمتع به الرجل من قوة جنسية قد لا تسدّ المرأة الواحدة حاجته، مع ملاحظة ما يطرأ عليها من حيض وحمل ونفاس مانع من التمتع بها.
وفي شرعية التعدّد تحقيق لمصلحتهم وسلوكهم طريق الاستقامة والعفة.
وهو كذلك حفاظ على شرف المرأة وتحقيق لرغبتها خاصة لمن فاتهنّ قطار الزواج بسبب الدراسة أو التدريس، فكونها عند زوج يرعاها ويلبي غريزتها ويتحقّق لها معه السكن والمودة، حتى وإن كانت ثانية أو ثالثة، خير لها من أن تبقى عانسًا بدون زواج، فتصبح فريسة للهموم والأفكار، خاصة في زمان تنوعت فيه سبل الإغراء، وراجت فيه أسواق الفساد.
أما مصلحة المجتمع من هذا التشريع فظاهرة في تقوية لحمته وترابطها وتماسك بنيانه وقوته، ويوم أن يكثر سواد الأمة وتتقوى الروابط بين أفرادها فإنه يتحقق لها الشيء الكثير، فلا شك أن العنصر البشري عامل مهم في بناء الحياة في مختلف مناحيها، ولا يخفى ما تحدثه الحروب من أضرار جسيمة، وهي إنما ترفع بعد قدرة الله بسواعد فتية وكثرة كاثرة، وإن هذا التشريع كفيل -بإذن الله- في زيادة وكثرة العنصر البشري.
وهو كذلك أمن -بعد رحمة الله- من كثير من الجرائم الأخلاقية، فسبحان من عَلِم فحكم.
عباد الله: لقد ثبت عند البخاري وغيره أن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟! قلت: لا، قال: فتزوّج؛ فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً.
إن في ذلك ترغيبًا وأيّ ترغيب في اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن قدر عليه، وهو سنة في حقه، والتعدد -يا عباد الله- هو الأصل، فإن تخلّف العدل صار إلى واحدة.
ولكن ليُعلم -يا عباد الله- أنه ليس كلّ إنسانٍ مؤهّلا لذلك، فإن إقدام بعض الناس على التعدد مع عدم توافر الشروط سبب في كثير من المشكلات التي لم تكن في الحسبان. فلا بد من معرفة شروط التعدد قبل العزم عليه، وهي أربعة شروط:
الأول: العدد، فلا يجوز بأيّ حال الزيادة على أربع نسوة كما هو ثابت بنص الكتاب والسنة.
الثاني: القدرة المالية والجنسية، وهذا شامل للوطء وللطعام والشراب والكسوة والمسكن أو ما يلزم من أثاث يناسب المرأة، وهذا متروك للعرف والعادة. ولقد دلت آية التعدد على اشتراط ذلك حيث قال تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا) [النساء:3]، قال الشافعي: "(أَلاَّ تَعُولُوا) أي: أن لا تكثر عيالكم".
الشرط الثالث: العدل بين الزوجات، وقد صرحت به الآية، والعدل المطلوب هو ما كان مستطاعًا عليه مقدورًا على تحقيقه، وهو العدلُ بينهن في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والبيت والمعاملة، أما ما لا يستطاع كالميل القلبي وما يتبعه من الوطء فلا يلزم العدل فيه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك". رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم.
ومن فرّط في هذا الشرط فإنه على خطر عظيم وعقوبة بشعة تنتظره يوم القيامة، روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل". رواه أحمد والترمذي.
فليحذر الذين لا يعدلون بين نسائهم ممن هجروا هجرًا متواصلاً وجعلوها كالمعلقة، فضيعها ولم ينفق عليها، وأهمل أولاده منها لسنوات وسنوات، إن هذا لظلم كبير وأمر لا يقره الشرع المطهر، وربما كان أمثال هؤلاء سببًا لنفرة الناس من التعدد.
أما الشرط الرابع: أن لا يجمع بين من يحرم الجمعُ بينهن، فلا يجمع بين الأختين ولا بين المرأة وعمتها أو خالتها لا من النسب ولا من الرضاعة.
وقال العلماء: وقاعدة ذلك: "أنه لا يجوز الجمع بين امرأتين لو قدِّر أن إحداهما ذكر لم يحلّ له أن يتزوج بالأخرى".
عباد الله: إن التعدد شريعة محسومة لا نملك أمامها إلا التسليم وإن خالفت هوى أنفسنا، فالله -تبارك وتعالى- يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب:36].
وتعدد الزوجات رغم ما فيه من إثارة لغَيرة المرأة من ضرّتها فهو يعالج شرًا عظيمًا وخطرًا مستطيرًا، فعلى المرأة أن تضحّي من أجل بنات جِنسها، وأن تحبّ لأخواتها ما تحبه لنفسها لترضِي بذلك ربها وتساهم في القضاء على الفساد في أمتها.
وعلى الرجل أن يتحمّل ذلك ليشارك في بناء المجتمع، فإننا ندرك المبرّرات الكثيرة للتعدّد والضروريات الاجتماعية التي تلجئ إليه، مع إيماننا بأن المسلم عليه أن يطبق حكم الله سواء ظهرت له الحكمة والمصلحة أم لم تظهر.
معاشر الأولياء، معاشر الأزواج، معاشر من يصلهن حديثنا من الزوجات: لنعلم جميعًا أن المشكلات التي تناط بالتعدد سببها إما غَيرة المرأة المفرطة وإما حماقة بعض الأزواج في سياسته لزوجاته وأولاده، ولو انضبط هذان الأمران غيرة المرأة وسياسة الرجل للبيت لانعدمت تلك المشكلات أو خفّت كثيرًا وأصبحت السعادة ترفرف على كثير من البيوت.
ثم لنعلم -يا عباد الله- أن حلّ هذه المشكلات ليس بمنع التعدّد أو تقييده أو الحيلولة دونه أو النيل منه، بل إنّ الحلّ يكمن في إصلاح النفوس وتهذيبها وتقويم سلوكها والأخذ بأيدي الناس؛ ليكون التعامل بينهم على أساس من العدلِ المطلوب، سواء أكان بين الزوج وزوجاته أم حتى بين الأب وأولاده من زوجاته.
ثم إنني أسأل الله العلي العظيم أن يوفق الجميع لإقامة السنةِ ودَحر البدعة، وأسأله -تبارك وتعالى- أن يعيننا على أمور ديننا ودنيانا، وأن يرزقنا القناعة بأحكام ديننا وتشريعاته، وأن يصرفَ عنا كيد المفسدين وسموم أعداء الدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا) [النساء:3].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن تعدّد الزوجات وسيلة فعالة للقضاء على مشكلة فئتين كبيرتين من النساء وهنّ الأرامل والمطلقات، وهنّ كثيرات.
ولقد بلغ من وفاء السلف بعضهم لبعض أن كان الواحد منهم يبادر بالزواج من زوجةِ أخيه إذا استُشهد في سبيل الله، فقد حدث هذا من أبي بكر -رضي الله عنه-، فقد تزوّج من أسماء بنت عميس بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ثم تزوجها عليّ بعد وفاة أبي بكر -رضي الله عنه-، والدافع لذلك هو الوفاء.
فمن يقول: إن أسماء لم تكن وفيةً لجعفر حينما تزوّجت من بعده، إن هؤلاء هم خير من وطئ على الثرى بعد الأنبياء، واقتفاء أثرهم فيه الهدى والنور.
وإن مما يثلج الصدر أن سمعنا بمن فعل ذلك في زماننا هذا، فشكر الله صنيعهم وأجزل لهم المثوبة.
ثم ليعلم -يا عباد الله- أن للتعامل مع الزوجات إذا تعدّدت أدبًا قلَّ من الناس من يحسنه، ولكي يستطيع الزوج إقامة العدل بين زوجاته فعليه بعد مراقبته الله أن يراعي ما يلي:
أولاً: المساواة التامة بين الزوجات فيما يستطيعه.
ثانيًا: عدم الإفصاح عما يحدث بينه وبين إحدى زوجاته للأخريات.
ثالثًا: أن لا يسمح لإحدى زوجاته أن تنال من غيرها مهما كانت الأسباب.
رابعًا: أن لا يتحدث عن إحدى زوجاته عند الأخريات لا بمدح ولا بذم.
خامسًا: أن لا يعاقب زوجته على خطأ ارتكبته أمام ضرتها، لا بتوبيخ ولا بضرب ونحوها.
سادسًا: معالجة الأخطاء بالحكمة والموعظة الحسنة والروية، وعدم الاستعجال وتصعيد الأمور. والرائد في ذلك سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في معاملته لزوجاته.
سابعًا: التأكيد على أولاده باحترام زوجته الثانية وغرس ذلك في قلوبهم وإشعارهم أنها بمنزلة أمهم.
ولا شك أن تقوى الرجل وحزمه واختيار ذات الدين من النساء مما يهوّن أمر هذه المشكلات المتوقّعَة ويجعل التعدّد يحقّق الحِكم المنشودَة منه، والله خير مسؤول أن يسترَ الجميع بجميل ستره، وأن يؤلّف بين قلوبهم على ما يحبه ويرضاه.
هذا، وصلوا على أفضل من عدّد، وأعدل من حكَم، وأحسن من عاشر وألطف من ولي وأكرم زوج لزوجه، صلوا على خير خلق الله محمد، فقد أمركم بذلك ربكم...