الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
ولما كانت العلاقة بين الآباء والأبناء من الأهمية بمكان؛ ها هو القرآن الكريم يعرض علينا مشهدًا مهيبًا لأب حكيمٍ ومُرَبٍّ عظيم يجلس مع ابنه جلسةً روحيةً ويوصيه فيها بأعظم وصية، بأسلوبٍ بديعٍ، وإشفاقٍ رحيمٍ, إنَّه مرب حكيم، أثنى الله عليه، ونوَّه بفضله، بل جعل الله سورة كاملة باسمه، وهي سورة لقمان ..
ولما كانت العلاقة بين الآباء والأبناء من الأهمية بمكان؛ ها هو القرآن الكريم يعرض علينا مشهدًا مهيبًا لأب حكيمٍ ومُرَبٍّ عظيم يجلس مع ابنه جلسةً روحيةً ويوصيه فيها بأعظم وصية، بأسلوبٍ بديعٍ، وإشفاقٍ رحيمٍ.
إنَّه مرب حكيم، أثنى الله عليه، ونوَّه بفضله، بل جعل الله سورة كاملة باسمه، وهي سورة لقمان, فمن هو هذا الرجل؟.
قال بعض النَّسابين: لقمان بن باعوراء بن ناجور بن تارح -وهو آزر أبو إبراهيم عليه السلام-، وقيل: لقمان بن عنقاء نوبي من أهل أيلة، وقيل: إنه ابن أخت أيوب -عليه السلام-.
وقد روى ابن جرير عن عمر بن قيس قال: كان لقمان عبدًا أسودًا، غليظ الشَّفتين، فكان جالسًا في مجلس مع أناسٍ، فجاءه رجل وهو يحدثهم، فقال له: ألست أنت الذي ترعى الغنم في مكان كذا وكذا؟! قال لقمان: نعم, قال: فما بلغ بك ما عرفت؟ قال: "صِدْقُ الحديث، والصمت عما لا يعنيني", وفي رواية أنه قال: "قَدَرُ الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيك",وفي رواية قال: "غضي بصري، وكفُّ لساني، وعفّتي طُعمتي، وحفظي فرجي، وقولي بصدقٍ، ووفائي بعهدي، وتكرمتي لضيفي، وحفظي لجاري، وتركي ما لا يعني، فذلك الذي صيرني إلى ما ترى".
وقد روي في بعض الآثار الضعيفة: "سادة السُّودان: بلالٌ والنجاشيُّ ولقمانُ من أهل الجنة".
واختلف العلماء في نبوَّة لقمان، فذهب عكرمة والشعبي إلى أنه نبي، وذهب جمهور العلماء -وهو الصحيح- إلى أنّه كان عبدًا صالحًا وليس نبيًا.
إذن، لقمان رجلٌ صالحٌ ووليٌّ من أولياء الله وهبه الله -جلّ وعلا- الحكمة ورفع شأنه، مع أنه مولى أسود يرعى الغنم، لكن الله أكرمه بالتقوى.
من عرف الله فلـم تغنـه
ولننتقل -أيها الأحبة- إلى سورة لقمان، لنقف على خبر هذا الرجل الحكيم ووصاياه لولده.
بدأ سياق الآيات بالثناء على لقمان, وذكر ما وهبه من الحكمة ومنَّ عليه بالبصيرة ووفقه لسديد القول ورشيد العمل، (وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ) [لقمان:12].
أمره تعالى بالشكر على النعم الدينية والدنيوية، الحسِّية والمعنوية، ومن أعظمها الإيمان والعلم والحكمة, وبالشكر تدوم النعم.
إذا كنت في نعمة فارعها
عباد الله: لقد ساق الله تعالى لنا وصايا لقمان العظيمة لابنه، وهي تمثل في الحقيقة أصولاً لمنهج التربية في الإسلام، قُدِّمت بكلماتٍ رقيقةٍ وألفاظٍ عذبة، بأسلوب الواعظ الناصح المربي المشفق.
- (وإذ قال لقمان لابنه وهو يَعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان:13] يعظه: أي يأمره بالخير وينهاه عن الشر ترغيبًا وترهيبًا, ويناديه بنداء الحنان والعطف والشفقة (يا بني) يرددها عليه مرَّات وكرَّات؛ ليفتح بها قلبه ويستدعي بها أحاسيسه ومشاعره، ويهيئه لحسن الاستفادة من الموعظة، بعيدًا عن الغلظة والشدة والعنف و القسوة التي تنفِّر الولد من الوعظ والتوجيه.
(يا بني لا تشرك بالله) إنَّها الوصية العظيمة الكبرى بتحقيق التوحيد وتصحيح العقيدة والخلوص من الشرك، إنَّ أهم ما تُربى عليه الأجيال الناشئة المحافظةُ على عقيدة التوحيد والبعد عن الإشراك بالله تبارك وتعالى، فهذا من أهم المهمات وهو أساس الدين والملة.
(لا تشرك بالله) أي نوع من أنواع الشرك، وأي صورة من صوره، لا في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا أسمائه وصفاته.
- وبعد الوصية بحق الله تعالى، كانت الوصية من الله تعالى بأعظم حقوق الخلق، وهو حق الوالدين، (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير) [لقمان:14].
تأمل كيف انتقل الخطاب من لقمان إلى الخطاب من الله تعالى، ليتولى سبحانه بنفسه الوصية بالوالدين ويقرن حقهما بحقه –سبحانه- وشكرهما بشكره، ثم يخص الله –تعالى- حق الأم بالذكر والتعظيم (حملته أمُّه وهنًا على وهن وفصاله في عامين) , ذكر الله –تعالى- في شأن الأم ثلاث مراتب كلها خاصة بالأم: أولها: الأمومة بكل ما تحمله من معانٍ ودلالات، ثم الحمل وما يلتحق به من مشاق وأوجاع، ثم الرضاعة وما فيها من الضعف والجهد.
وكل هذه المراتب إحسان وجميل من الأم يستوجب من الابن أن يحفظ الجميل, ويرد صنائع المعروف, وأن يجزي الإحسان بالإحسان.
ولقد بين النبي –صلى الله عليه وسلم- عظم حق الأم وأنها أولى الناس بحسن العشرة و المصاحبة, ففي الصحيحين عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال :"أمك، قال ثم من؟ قال أمك, قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أبوك".
إذا أراد الإنسان أن يكون بارًّا بأمه تمام البِّر فعليه أن يتذكر جميلها السابق, و إحسانها المتلاحق, (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا) [الإسراء:24] (أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) [ لقمان:14] أي: إلى الله -جلّ وعلا- المرجع والمآل فيجازي البارَّ المحسن بإحسانه والعاقَّ المسيء بإساءته.
ثم أكد الله تعالى حق الوالدين وإن كانا مشركين معاديين (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) [لقمان:15].
إذن، لا طاعة للوالدين في الأمر بالشرك أو المعصية، لكن مع وجوب البر والإحسان, ولهذا قال: (فلا تطعهما) لم يقل عز وجل فعقهما واشتمهما وحاربهما.
وهنا وقفة تأمُّل: إذا كانت المصاحبة بالمعروف واجبة للأبوين الكافرين، فكيف يا عباد الله بالأبوين المسلمين المصليين، فضلاً عن الصالحين التقيين؟ لا شك أن الأمر أوجب، والمقام أعظم .
- ويعود سياق الآيات على لسان لقمان مع الوصية الثالثة (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) [لقمان:16], يؤكد لقمان على قضية عقدية مهمة وهي الصلة بالله ومراقبة الله -جلّ وعلا- في السِّر والعلن، ويخبر ابنه أن الله -عز وجل- أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأن الخطيئة والمظلمة مهما اجتهد المخطئ الظالم في إخفائها فإن الله -عز وجل- يأتي بها وتكون حاضرة يوم القيامة.
وهذه الوصية فيها لفتة كريمة للآباء والمربين في زرع المراقبة الذاتية في نفوس الأبناء، وأن يكون التخويف بالله، والدعوة لمراقبة الله، واستحضار علمه واطلاعه جل شأنه.
وفي قوله (يأت بها الله) بيان لتمام قدرة الله –تعالى- وإحاطته بخلقه، هذا المعتقد الذي يجب أن يغرس في نفس الطفل، يا بني إن الله تعالى هو القادر على كل شيء، هو صاحب القوة التي لا تقهر، هو الذي يملك هذا الكون، هو الذي لا يخفى عليه خافية من حركة أو سكنة, يا بني (يأت بها الله) وليس سوبرمان الخارق الذي يخترق عقيدة الطفل المسلم ويشككه في قدرة الله، (يأت بها الله) وليس بكرامة الصليب، الذي هو كفر بالله، والله –تعالى- لا يرضى لعباده الكفر فكيف يجري عليه هذه الكرامات.
وأمام هذا الخطر العظيم المتمثل في الغزو الفكري لعقيدة الطفل المسلم، يجب الحذر من بعض القنوات الفضائية الموجههة للأطفال وعلى رأسها إم بي سي للأطفال.
لا يجوز أن يترك الطفل أمام هذه القنوات وهي تبث الغث والسمين، ولا تحتكم لحكم شرعي ولا منهج تربوي، بل هي تفسد الدين والخلق والتربية، وكأنها ممسوخة، ليست من بلادنا ولا من ديننا ولا قيمنا.
والله حرام، ما رأيته في تسجيل فيديو لطفل في إحدى المدارس وقد شق يده بالسكين أو المشرط على شكل صليب، فيقال له: لماذا؟ فيقول: (شفته على الإم بي سي), والله إن ذنب هذا وغيره من الصغار والكبار ممن فسدت عقائدهم، أوانحلت أخلاقهم في رقبة القائمين على أي قناة وأي برنامج يبث مثل هذه السموم الفكرية أو الأخلاقية.
ماذا يريد القائمون على هذه القنوات -هداهم الله وكفى المسلمين شرهم أو أراح المسلمين منهم عاجلًا غير آجل؟- فسادًا عقديًا، تقديسًا للصليب، عرضًا للسحرة، نشرًا للثقافة الأمريكية، إشاعةً للعري والفواحش والشهوات؟ هل ينطلقون في أعمالهم وبرامجهم من حس إسلامي أو وطني؟ لا, هل يريدون إفساد المجتمع المسلم بنشر هذه الخبائث؟ لمصلحة من يعملون؟ هل هو طمع في الريال والدولار؟ أم هو تمالؤ مع أعداء الإسلام من الكفار والفجار؟ نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين وأن يكفيهم شرارهم.
الخطبة الثانية
- نعود إلى وصايا لقمان الحكيم، وإلى الوصية الرابعة، في قوله تعالى: (يا بني أقم الصلاة) [لقمان:17], انتقل بعد العقيدة إلى العبادة فأمر ولده بإقامة عمود الإسلام وهو الصلاة، وإقامة الصلاة تعني المحافظة على أركانها وواجباتها، فحري بالأب والأم أن يهتما بهذا الجانب الهام وهو تعويد الطفل على الصلاة أمرًا من سن السابعة، وضربًا من سن العاشرة كما جاء في الأحاديث.
- وبعد الصلاة التي هي عمود العبادات والسلوك الشخصي، كانت الوصية الخامسة في السلوك الاجتماعي وإصلاح الآخرين بعد إصلاح النفس (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [ لقمان:17] أمره بالإصلاح ودعوة الآخرين، وأوصاه مع هذا كله بملازمة الصبر على ما يناله من أذى، لأن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فلا بد أن يناله أذى الناس، ومن ثمَّ فهو مأمور بالصبر على أذاهم, (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) أي: من الأمور التي أمر الله بها على وجه العزم والتأكيد.
- ثم ختم لقمان وصاياه النافعة لولده بالوصية السادسة الجامعة في باب الآداب والأخلاق، (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [ لقمان:18] نهاه عن الكبر، وعلامة الكبر أن يميل بخده عن الناس تكبرًا عليهم، وأصل الصَعَر: داء يصيب الإبل فتلف أعناقها, قال: (ولا تمش في الأرض مرحاً) [لقمان:18] أي فخرًا وخيلاء, (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [ لقمان:18]، وفي مضمون هذا الأمر الوصية بالتواضع ولين الجانب مع الناس.
ثم أوصاه بالأدب في المشي والكلام، فقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِك) [لقمان:19] أي: وسطًا بين البطء والإسراع، (واغضض من صوتك إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:20] أي: اخفض من صوتك في كلامك مع الناس، ولا ترفعه دون حاجة؛ لأن أبشع الأصوات وأنكرها صوت الحمير التي ترفع أصواتها .
ختامًا، معاشر الآباء والمربين: ما الذي نستفيده من قصة لقمان ووصاياه؟
ليس من مقاصد القرآن أن يذكر لنا قصة لقمان الحكيم ووصاياه لابنه، لمجرد الخبر أو التسلية، وإنما لتكون منهجًا سديدًا ومسلكًا رشيدًا يسلكه الآباء والمعلمون والمربون، ونبراسًا وأنموذجًا يحتذون حذوه ويسيرون على نهجه في تربية الأبناء وتعليم النشء.
إنَّ وصايا لقمان الحكيم لابنه تشير إلى قضية هامة في المجتمع المسلم، وهي قضية القرب من الأبناء ووعظهم وإرشادهم وتوجيههم والجلوس ومعهم والتحدث إليهم.
وإذا لم نقم بهذا الأمر تركنا الطرقات والشوارع تربّي أبناءنا, والقنوات الفضائية تفسد مبادئهم وتهدم أخلاقهم, ورفاق السوء والشلل الفاسدة تنخر في سلوكياتهم وتصرفاتهم, والنتيجة: فساد كبير لا يعلمه إلا الله.