البحث

عبارات مقترحة:

الشهيد

كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

الحي

كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...

الوصايا الجلية للاستفادة من الدروس العلمية

العربية

المؤلف صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
القسم كتب وأبحاث
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات آداب طلب العلم
أصل هذا المؤلف كلمة لمعالي الوزير في افتتاح الدورة السادسة في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية، بحي سلطانة في مدينة الرياض.

التفاصيل

الوصايا الجلية للاستفادة من الدروس العلمية المقدمة الركن الأول: التنظيم المناسب الركن الثاني المعلِّم الركن الثالث المتعلِّم نصائحُ لطالبِ العلمِ النصيحة الأولى الإخلاصُ النصيحة الثانية: إعدادُ العدة كالقلم والورقِ النصيحة الثالثة الطالب الذي لا يستطيعُ حضورَ الدورات جميعا وإنما يريد أن يختار بحسب فراغه النصيحة الرابعة تحضير الدرس تحضيرا جيدا النصيحة الخامسة كتابةُ الفوائدِ من المُعلِّمِ النصيحة السادسة الرحمةُ بين الطلاب الخاتمة   ملحـق الأسئلة والإجابات   ملحـق الأسئلة والإجابات السؤال الأول السؤال الثاني السؤال الثالث السؤال الرابع السؤال الخامس السؤال السادس  الوصايا الجلية للاستفادة من الدروس العلميةصالح بن عبد العزيز آل الشيخ بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، وَفَّقَ مَنْ شاء إلى سُبُل مرضاته. وعلَّم من شاء تعليمًا. وأدَّبَ مَن اختاره تأديبًا. فله الحمد على ما مَنَّ علينا من النعم الجزيلة. والعطايا الكثيرة، لهُ الحمدُ كثيرًا كما أنعم كثيرًا. وله الشكر جزيلاً كما تفضّل علينا - جل جلاله -. وأنعم بكرةً وأصيلاً. أحمد الله وأشكره، وأُثني عليه الخيرَ كلَّهُ. وأشهدُ أن لا إله الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُه. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا. أسألُ الله - جلَّ وعلا - أن يستعملني وإياكم فيما يُحِبُّ ويرضَى، وأن ييسر لنا جميعًا سُبُلَ الخير، وأن يُغْلِقَ عنا سُبُلَ الشرِّ. إنه - سبحانه - جواد كريم. وبعد: فإني في فاتحة هذه الدروس العلمية، وهي الدورة السادسة في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية - بحي سلطانة في مدينة الرياض - لا بدّ لي من التوجه إلى الله ﷻ‬ والدعاء لمن قام في ترتيب هذه الدورات والدروس العلمية. فأسأل الله - جل جلاله - أنْ يجزيهم خيرًا، وأن يزيدهم من نصرة الحق، والدعوة إليه، ومن فتح أبواب الخيرات، والتقرب إلى الله - جلَّ وعلا - بها. وهذا من الحقوق التي ينبغي تعاهُدُها. وهذه الدوراتُ تقام في كل عامٍ، وهي مشتملةٌ على دروسٍ في علوم متعددة، وفنون مختلفة. ومدةُ الدورة ثلاثةُ أسابيعَ، تحوي ثمانيةَ عشرَ درسًا، في فُنُونٍ مختلفةٍ. وإن شاء الله - تعالى - تُحَصِّلونَ علمًا كثيرًا في هذا الوقتِ الوجيزِ. وقد اختار بعض الإخوة أن يكون عنوان هذه المحاضرة التي هي فاتحة هذه الدورة " الوصايا الجلية للاستفادة من الدروس العلمية ". وبحكم تجربتي القصيرةِ في الدورات السابقة، وعلمي بما أعطته الدوراتُ من نتائج فإنني أقول: لا بدّ لكل دورة علمية، أو دروس علمية من أركانٍ يقوم عليها. والأركان أربعةٌ: الأول: التنظيمُ المناسبُ الذي يسبقُ تلكَ الدروسَ العلميةَ. الثاني: وجودُ المعلِّم (الشيخ). الثالث: وجودُ المتعلمينَ الراغبينَ الجادِّينَ. الرابع: وجودُ المكانِ المناسبِ الذي يصلح لإقامةِ الدوراتِ التي يحضرها عددٌ كبير لمدةٍ وجيزةٍ.  الركن الأول: التنظيم المناسب لا شكّ أن عظم الفائدة من هذه الدروس يكون في التنظيم الجيِّدِ، والإعدادِ المبكِّرِ، وبذلك تحصل الفائدةُ من هذه الدوراتِ أو الدروسِ. والتنظيمُ هو ترتيبُ الوضعِ المناسبِ لهذه الدروس. والمنظمون هم: إمامُ المسجد، أو إخوةٌ يعملون في إدارةِ الدعوةِ، أو في مركزِ الدعوة. والمُنظِّمُ لا بدّ له أن ينظر إلى حاجة طلبة العلم، وحاجة الشباب الذين يَرُومون هذه الدروسَ. وهذه الحاجةُ تختلفُ باختلافِ المكانِ والزمانِ، وباختلافِ المعلمين، والمقرراتِ التي يتعلمها الطلبةُ. فينظر في المكان، وهو البلد، والمسجد. وفي الزمان، فدورات الشتاء غيرُ دوراتِ الصيفِ ترتيبًا ووقتًا. فليس كلُّ أحدٍ يريد أن يقيم دورةً أو دروسًا علميةً يناسب أن يقيمها في مسـجده؛ لأنه سيحضر الجمُّ الغفيرُ من الطلبة الذين يريدون الاستفادة. وهذا يدعو إلى ترتيب المكان من جهةِ صلاحيته في نفسه، ومن جهة أن يكون التكييفُ جيدًا، ومن جهة تسهيلِ المداخلِ والمخارجِ.. إلخ. فلا بدّ من رعاية الحال في المكان والزمان. ثم ينبغي على المنظِّمين أن يعتنوا بَدْأةَ ذي بَدْء بالتنظيم والترتيب للدورة قبل قيامها بوقتٍ طويل. فالترتيب مع المشايخ يجب أن يكون قبل ستةِ أشهرٍ، أو خمسةِ أشهرٍ، أو أربعةِ أشهرٍ؛ ليرتبوا أنفسهم. حدث أن بعض الإخوة يريد إقامةَ دروسٍ، ودوراتٍ، ويحاولون إقناعَ بعض الشيوخ في الاشتراك قبل أُسبوعين أو ثلاثة أسابيع أو شهرٍ، فلم تكن الموافقةُ منهم لأنهم ملتزمون ببعض الالتزامات التي تشغلهم عن إجابة الطلبِ. وبخاصةٍ في الإجازات التي يكون لكثير فيها ترتيباتٌ. إذًا يكون الاختيارُ قبل مدةٍ وافية ليتسنى التنسيق له مع الجميع، وليتحققَ اختيارُ الذين سيشاركون من العلماء والمشايخ وطلبة العلم. وأمر مهم في التنظيم: هو أن يرتب المنظمون الدورةَ مع مَنْ سبقوا في فهم ما يُحتاجُ إليه في الدورات. مثلا: اختيار بلدٍ ما لإقامة دورة فيه لأول مرة، سواء كان في داخل المملكة العربية السعودية أو في خارجها، فيحسن أن يستشيروا مَنْ أقام دوراتٍ ناجحةً، ودروسًا علميةً ناجحةً؛ لأن المؤمن يستشير، وما خاب من استشارَ. وفشلت بعضُ الدورات لعدمِ الخبرة، ولعدم الاستشارة. فليس تنظيمُ الدورات ترتيبًا على الورق، فلما حضر الناسُ والزمان والمكان صار هناك نوعٌ من الخلل. فلا بدّ من النظر في حال الدورات التي نجحتْ، كيف نجحتْ؟ والمهم من الدورات أن يعتني المنظمون في إفادة الطلاب. ومعلوم أن المشاركين منهم مَنْ يناسب للمحاضرات، لكن قد لا يجيد فنَّ التعليمِ، ولو أجاد فنّ التعليم فقد لا يجيد فنّ التدريس في هذه الدورات المكثّفة، وأيضًا منهم مَنْ لا يُحْسِنُ مخاطبةَ الطلاب في هذا الوقت الوجيز بالعلم الذي يُحْسِنُهُ. فالمنظمون يحتاجون إلى رعاية المكان وتهيئته، وإلى رعاية الزمان، واختيارِ المدرسِ، واختيارِ الفنون، واختيارِ الموضوعات، واختيارِ الكُتُبِ والمتونِ. كل ذلك بحاجة إلى دِقَّةٍ. وهذه لا يستطيعها كلُّ أحدٍ. ولهذا كان من حسنات الإخوة القائمين على هذه الدروس العلمية في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي مقدمتهم الأخُ: فهدُ الغراب - وفّقه الله للخير، وغيرُه من الإخوة أنهم يستشيرون أهلَ العلمِ فيما يَحْسُنُ اختياره من الموضوعات والفنون والمتون. وأهلُ العلم على خبرة في المناسب وغير المناسب، يعرفون ذلك من الدورات الماضية، فَمَتْنُ كذا لا يصلح لتفرقِ مادَّته، أو ضعفِ أسلوبه، أو عدم اشتماله على كلِّ ما يُحتاجُ إليه في هذا الفن، أو ما أَشْبَهَ ذلك. فالترتيبُ مع مَنْ يُحْسِنُ العلمَ فيمن يُنَظِّم هذه الدورات أمرٌ مهمٌ.  الركن الثاني المعلِّم هو الشيخُ الذي سيلقي الدروس. ولا شكّ أن المشايخ يختلفون في استعداداتهم؛ لأنّ الله - جلَّ وعلا - وَهَبَ الناسَ مواهب، وقد يَهَبُ المتأخِّرَ ما فاتَ على المتقدِّمِ، وقد يَهَبُ الصغيرَ ما لم يدركْه الكبيرُ، وقد يكون المتوسطُ في السنّ أقربَ إلى الشباب من جهة إلقاء الدروس. قد يُعْطَى متنٌ لمدةٍ وجيزةٍ، قد يكون هذا المتنُ يمكن تدريسُه في سنةٍ، على أن يكون في كل أسبوع درسٌ، وينجح مَنْ يُدَرِّسُهُ. فلو كانتِ المدةُ أسبوعًا ربما لم يستطع ذلك الذي يستطيع إنهاءَه في سنة، فيشرح ثلاثَ ورقاتٍ، أو أربعَ ورقاتٍ ثم يتركُ أكثرَ من ثلثيِ المتن بلا شرحٍ. لذا يحسن في المعلِّم أن يقسِّم المتنَ على الزمن. والذي حَصَلَ في دوراتٍ سابقة في هذا المسجد أو في غيره أنّ عِلْمَ المعلمِ (الشيخ) كان أكبرَ من زمن الدورة، فكان يفصِّل تفصيلاتٍ كثيرةً مفيدةً، فضاق عليه الوقتُ فتركَ الطلابَ من دون إتمامِ هذا المتنِ. وفي هذه الحالة تفوت الفائدةُ عمن يحضر هذه الدوراتِ، وقد يبلغ العددُ إلى المئات. أما الذين يستفيدون من الأشرطة المسجَّلة فربما يزيد على مئات الآلاف. وقد حدَّثني بعضُ الإخوة من الدعاةِ ممن زار بعض البلاد في أفريقيا أو أوربا أنه وَجَدَ فيها الدوراتِ التي أقيمتْ في هذا المسجد أو في غيره مسجَّلة على الأشرطة، ولكنَّ الناس ينتفعونَ بالكتاب أو بالمتن الذي يُشْرَحُ كاملاً. فعلى المعلِّم أن يرتّب الزمن، وأن لا ينساقَ وراءَ المعلومة فينقضي الزمنُ، ولم يُنْهِ من الكتابِ إلا صفحةً أو صفحتين. لهذا يتحتمُ على القائمين على الدورات أن ينبِّهوا الشيخَ فيما لو استطرد في البداية بعد مضي درسٍ أو درسين. فيجب المحافظةُ على الزمن، والاهتمامُ به، وأن يكون الشرحُ متواكبًا مع قصر المدة. فإذًا اختيارُ المعلِّمِ مهمٌ، فمنهم من يحسنُ الدروس لكن بتحضيرٍ كبير، فأحيانًا يحتاج المعلمُ إلى تحضيرٍ، وأحيانًا يكون التحضيرُ سببًا في إطالة المادّةِ والموضوعِ والإلقاءِ، فيأتي المعلِّمُ إلى إلقاء الدرس فتتزاحمُ عليه المعلوماتُ فيلقيها ولكنَّ الطالبَ لا يحتاجها في شرح هذا الكتاب؛ لأنّ الإلمامَ في المتن كاملاً هو المهم. فالتفصيلاتُ والنقولاتُ من الكُتُبِ لا تتناسبُ مع الدورات العلمية المكثَّفة. فالمعلِّم في الدورات يهتم بعرض المتن بإيضاح عبارته، وبيان مقصودِ المؤلفِ مع الاستدلالِ عليها والمرورِ على ذلك سريعًا بلا إخلال. وهذا يحتاج إلى دُرْبَةٍ، وعلمٍ حاضرٍ في كلِّ الفنِّ، وتحضيرٍ قليلٍ. كما أن المعلِّم عليه أن يسلك طريقَ التسهيل في إلقاء المعلومات، مع طَرْحِ الفوائدِ؛ لأنّ طلبة العلم لا يستمرون إذا لم يجدوا الفوائد العلمية. ومن متطلبات المعلِّم أن يكون متمكـنًا في المادة العلمية، وأن تكونَ ملكتُه قابلةً، ولغتُه قريبةً واضحةً. وأن يكون مبتعدًا عن التقعُّرِ في الكلام، والتشدُّقِ. ولا ينبغي أن يقاطعَ الطلابُ المعِّلمَ بأسئلةٍ تُخِلُّ بالتسجيل. وفائدةُ الموجودين تتحققُ بشرح الدروس وحفظها. وفائدةُ غير الموجودين تتحقق بسماع الدروس المسجَّلة على أشرطةٍ، كشرح كتاب التوحيد لإمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وشرحِ الواسطية، وتفسير القرآن لشـيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. وشرح الشيخ محمدِ بنِ إبراهيمَ - رحمه الله -، وشرح سماحة الشيخ عبدِ العزيز بنِ باز - رحمه الله ورَفَعَ درجته في الجنة وألحقه بالصدِّيقين - وكذلك شروحُ عددٍ من مشايخنا كالشيخ ابنِ عثيمين - رحمه الله -، والشيخ صالحٍ الفوزانِ - حفظه الله -، وهذه الدروس مسجلة. لذا على المعلِّم أن يَتَنَبَّهَ إلى أن دروسَه محفوظةٌ، وربما سيستفاد منها بعدَ مئة عام. فإذا كان الجميعُ منصتًا واعيًا كان المعلِّم أنشطَ في إلقاء العلم، لهذا كان " سفيانُ " و " مالكٌ " - رحمهما الله - وغيرُهما من أهل العلم يقول: كنا إذا نَشِطْنَا أسندنا - يعني: الحديث - وإذا كَسِلْنَا أرسلْنا - يعني: من دون ذكر إسناد -. إذًا ذلك راجعٌ إلى الوضعِ النفسي للمعلِّم. كما أنه راجعٌ إلى المُتَلَقِّي. فحركةُ الطالبِ واستعدادُه وتلقيه وحسنُ إنصاته، وحسنُ كتابته يُنَشِّطُ المعلِّمَ لطرحِ الفوائدِ العلميةِ. وسلاحُ الطالبِ القلمُ والورقُ. والمهمُّ أن يتعاون المعلِّم والطالبُ في إنجاح الدروس المسجَّلة، وخُصِّصَتْ هذه الدوراتُ العلميةُ للمتوسطين من الطلاب. فالمعلِّمُ يستعملُ أسلوبًا في بيانه لا يرتفعُ عنه الحاذقُ، ولا يتقاصَرُ عنه الريِّضُ المبتدِئُ، بل يكونُ أسلوبُه بينَ بينَ. وهذه صفة الربانِيِّينَ من العلماءِ فيما وَصَفَهُمُ اللهُ - جلَّ وعلا - بقوله: { وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} ([1]). والله - جلَّ وعلا - وَصَفَ الربانيَّ من أهل العلم بأنه الذي يتعلَّمُ ويُدَرِّسُ، أما الذي يتعلّم ويستغني عن التدريس فهذا ليس من الربانِيِّينَ. قال " أبو عبدِ اللهِ البخاريُّ ": (الربانيُّ هو الذي يُعلِّمُ الناسَ صغار العلم قبل كباره) يعني: بحسب الحاجة. والنبيُّ ﷺ‬ أُوتي جوامعَ الكلمِ، فإن كان الكلامُ مختصرًا مفيدًا فَهِمَهُ العاميُّ والذكيُّ والبليدُ والحاضرُ والبادي... فالمعلِّم يفيد طلابه المتوسطينَ التعريفاتِ والضوابطَ والقواعدَ. ويتجنب المعلِّمُ في الدورات الأساليبَ الإنشائية (يعني: الوصفية) والاستطرادات في الوصف. لأن الطالبَ يريد أن يكتب مباشرة الضوابطَ والتقاسيم، كأنْ يقولَ المُعلِّم: ضابطُ الشركِ الأكبرِ كذا، وضابطُ الشركِ الأصغرِ كذا. وما الفرقُ بين الشركِ الأصغرِ والخفيِّ؟ وكأنْ يقولَ مثلاً: تنقسم هذه المسألةُ إلى أربعةِ أقسامٍ.. وغير ذلك. وهذا هو الذي يبقى مع الطالب، وهو الذي يفتح له ما اسْتُغْلِقَ من العلمِ. وأما الأساليبُ الإنشائية فيأخذها الطالبُ من القراءةِ، ولكنَّ المفيدَ هو الفروقُ الدقيقة، والمُعلِّمُ يفتح للطالبِ في الدوراتِ الآفاق الواسعةَ. هذا فائدةُ التلقي من الشيخ، ولولا الفوائدُ والفروقُ في المسائل المتشَابهةِ لما كانت هناك مزيةٌ لهذه الدروس. بل يستوي ذلك مع أخذِ الطالبِ العِلمَ من الكُتُبِ من دون مُعَلِّمٍ. وقد تجد بعضَ كتبِ المتقدمين في الفقه والعقيدة يعرضُ الأنواعَ بطريقةِ العطف بالواو أو بأو. كقولهم: الماءُ طاهرٌ، وطَهُورٌ، ونجسٌ، ومشكوكٌ فيه. وكقولهم: الشرك أكبرُ، وأصغرُ، وخفيٌّ. فعلى المُعلِّم أن يُسَهِّلَ فيقول: القسم الأول، القسم الثاني، القسم الثالث، وهكذا... أو يقول: النوعُ الأولُ، النوعُ الثاني، النوعُ الثالث، وهكذا... ومثل ذلك يفعل في المسائل الخلافية فيذكرُ المسألةَ والأقوالَ فيها مُرَتَّبَةً، كأن يقولَ: القولُ الأولُ، ودليلهُ، ووجهُ الاستدلالِ منه. ثم يذكر القولَ الثاني، وهكذا، ثم يذكر الترجيحَ الذي يظهرُ له، وقد لا يكونُ راجحًا عند غيره. ومن المهم - أيضًا - أن الطالبَ لا ينظرُ للمُعلِّم في الدورات أنه إمامٌ في كل شئ، ولو كان أستاذًا في الجامعة أو غيرها. لأنه سينصرفُ عن المُعلِّم لو وَجَدَ فيه قصورًا، فلا يستفيدُ عندئذٍ من أحدٍ إلا من أُناسٍ كما وصفهم " الذهبي " بقوله: " كدتُ لا أراهم إلا في كتابٍ، أو تحتَ أطباقِ ترابٍ ". لا تشترطْ في المُعلِّم شرطًا صعبًا، فتنتقد هذا، وتنتقد هذا، المهم في المُعلِّم أن يلقي العلمَ وهو متقٍّ لله - تعالى - فيه، لا ينسبُ لله - جلَّ وعلا - ولا لرسوله ﷺ‬ أو لدينِ الإسلامِ أو للعلمِ الشرعيِّ ما لا يَعْرِفُهُ من كلام أهل العلم، ولا يُدْخِلُ اجتهاداتِه الشخصيةَ في العلم؛ لأَنَّ المقصودَ في الدروسِ العلمية نقلُ العلمِ كما نقله العلماءُ. والعلمُ في هذه الأمة هو قالَ اللهُ، وقالَ رسولُه، وقال الصحابةُ، وقالَ أهلُ العلم. فإذًا لا تشترطْ شروطًا صعبةً في المُعلِّم، لئلا تُسيء به الظنَّ فَتُحْرَمَ منه الفائدةَ، ولا تشترطْ فيه أن لا يهفو في مسألةٍ، أو أن لا يخطئ فيها، وبخاصة في الدورات العلمية. فقد تجد عند الطالب معلومةً لا تكون عند المُعلِّمِ فيستفيد المُعلِّمُ من الطالب. كان " ابنُ الخشَّابِ الحنبليُّ " يقول: " أنا تلميذُ تلامذتي ". هذا صحيح لأَنَّ المعلمَ يستفيد، والطالبَ يستفيد، وهكذا. فالمُعلِّم المتخرِّج حديثًا الذي يدرِّسُ في وزارة المعارف في المتوسط أو في المدارس الثانوية أو في الكلية، أولُ ما يدرِّس قد يستفيد من الطلاب كثيرًا، ومع طول المدة تقلّ استفادتُه منهم، ويصبح يفيد أكثر مما يستفيد؛ لأن أمامَه عقولاً تناقشُه فيما يقول فيركِّز ويستعد، لكن قد تأتي مسألةٌ، والذي يحفظه الشيخُ فيها قولٌ مرجوحٌ، أو غيرُ صحيحٍ، أو ليس هو التحقيقَ، وقد يفوته شئ، وقد يغلط في نسبة حديثٍ أو ما أشبه ذلك. والطالبُ قد يعرف الصوابَ في هذه المسألة... إذًا فالعلم يُستفاد في الدورات بين المُعلِّم والمتعلم، فلا يترفع المُعلِّمُ عن أن يأخذَ الفائدةَ من الطالب، ولا يستحي الطالب فيمتنع من أن يفيد المُعلِّم، لكن يراجع الطالبُ مُعَلِّمَهُ بأدبٍ وحياءٍ على سبيل الاستفهام. فإذًا على الطالب أن لا يشترطَ شروطًا يصعبُ وجودُها إلا في الأئمة الأعلام، كأحمدَ بنِ حنبلٍ، أو البخاريِّ، أو ابنِ تيميةَ، وغيرِهم.  الركن الثالث المتعلِّم نصائحُ لطالبِ العلمِ هو طالبُ العلمِ الذي يحضر الدوراتِ، وله صفاتٌ وخصالٌ وسماتٌ.  النصيحة الأولى الإخلاصُبأن يُخْلِصَ الرجاءَ في ربِّه الكريم، فيفتح قلبَه للعلم والاستفادة، والقلبُ تأتيه الشواغلُ والخواطرُ، فبينما هو ينصِتُ إذ يأتيه خاطرٌ يقطعُ عنه الاستفادة يريد أن يجمعَ نفسه فيصعبَ فتختلطَ عليه الفوائدُ فيلغي الأخيرُ الأولَ. فإذًا لا بد من حسن اللجوء إلى الله - جلَّ وعلا - والدعاءِ في أن يمنحك الفِقهَ في الدين، والاستفادةَ والصبرَ على العلم؛ لأن العلم لا بدّ له من صبرٍ، وهذا بحاجةٍ إلى الإخلاص والصدق مع الله - جلَّ وعلا - وحسنِ التوجّه؛ لأن طلب العلم عبادةٌ. { وإنَّ الملائكةَ لَتَضَعُ أجنحَتَها لطالبِ العلمِ رِضىً بما يَصْنَعُ، وإنَّ العالمَ لَيَسْتَغْفِرُ له مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرضِ حتى الحيتانُ في الماءِ } ([2]) ([3]). وهذه فضيلة عظيمة. فَأَحْسِنْ - يا طالبَ العلمِ - الظنَّ باللهِ - جل وعلا - واللجوءَ إليه، بأن يفتح الله - جل وعلا - قلبَك للعلمِ، وأن يرسِّخَ العلمَ في قلبك.  النصيحة الثانية: إعدادُ العدة كالقلم والورقِ فالقلمُ يتعاهدُه قبلَ الدرس. وقد ركّز على ذلك " الخطيبُ " في (جامع الجامع)، و " ابنُ عبد البر " في (الجامع لبيانِ العلمِ وفضله) وغيرهما. ومن القصور أن يحضر الطالبُ، وينسى القلمَ، أو يكون فارغًا من الحبر. وأما الورق فأن يعدَّ لكل فن دفترًا أو دفاترَ، وتكونَ منسقة، مرتبة، وهذا كله يتبع ترتيب الذهن. فإذا كان الطالب مشوشًا في ذهنه ظَهَرَ أثرُ ذلك في علمه ودفاتره. وينبغي على الطالب أن لا يكتبَ عددًا من العلوم في كراسة واحدةٍ، وأن يبتعد عن كتابة الحواشي على الكتاب فتتزاحم الكتابةُ فلا يهتدي إلى الرجوع إليها. لهذا سئل الإمامُ أحمدُ عن الكتابة بالخط الصغير، قال: أكرهُهُ؛ لأنه لا يدري متى يُحتاج إليه، فربما احتاج إليه فلم يستطع استخراجَهُ. وهذا صحيح. والحواشي على الكتب تأتي غير مستقيمة، ونازلة، ومتداخلة مع أسطر الطباعة وقد يكون الخطُّ غيرَ حسن. والورقُ - والحمد لله - في هذه الأيام متوفرٌ، ورخيصٌ. وأما الكتابةُ في الكراريس فلها نظام: يأخذُ المتنَ الذي يدرسه بأن يجعل عليه أرقامًا متسلسلةً، من واحد إلى الأخير. وكلُّ مسألةٍ علَّقَ عليها المُعلِّمُ يجعلها في صفحة مستقلة. ويكتب تعليقًا آخر في صفحة مستقلة. ولو كانت سطرًا واحدًا، ولا يقالُ: الصفحةُ فارغةٌ؛ لأنه قد يحتاج إليها يومًا ما. عندما يريد أن يُفَصِّل في هذه المسألة والشيخ لم يُفَصِّلْ فيها. فيكتب أصلَ المسألة ثم يضيف معلوماته. وتكون هذه الشروح أساسًا لشرح كبير للطالب فيما يستقبل من عمره إن شاء الله تعالى.  النصيحة الثالثة الطالب الذي لا يستطيعُ حضورَ الدورات جميعا وإنما يريد أن يختار بحسب فراغهفعليه أن يختار الفنَّ الذي يحتاجُ إليه في دينه لتكملة ملكته العلمية. فمثلاً قد يكون الطالبُ لم يدرسِ التوحيدَ، أو دَرَسَهُ من مدة ويريد أن يسترجعَه. فتكونُ هذه المادةُ له هي الأساسَ في الاختيار، ويجعلُ بقيةَ الوقت للموضوعات والفنون الأخرى. فإذًا لا بدَّ من اختيار الوقت والفنِّ الذي يناسب طالبَ العلم.  النصيحة الرابعة تحضير الدرس تحضيرا جيداكيف يحضِّر والدروسُ متواليةٌ ومتتابعةٌ؟ يكون تحضيرُه بحفظ المتنِ قبلَ سماع الشرحِ من الشيخ، وبذلك يتكوّن تكوينًا علميًا صحيحًا. - ويكون تحضيره بالنظر في المسائل التي يحتاج إليها، بأن يقرأ أسطرًا أو صفحةً فيلحظ المسائل الغريبةَ فيستعد لفهمها من المُعلِّم، ولا يُشْتَرَطُ أن يكون تحضيرُ الطالب كتحضير المُعلِّم. - وليس المقصود من هذا الاستعدادِ أنه يتعلّم فقط، وإنما المقصودُ منه أن يقارنَ ملكتَه بما يعطيه المُعلِّمُ. وبهذه الطريقة تَنْمُو ملكةُ الطالبِ مع طولِ الزمن. يحضّر وينظُرُ كيفَ تعامَلَ الشيخُ مع الكتاب، وكيف هو تَعَامَلَ معه. فمثلاً: الكتابُ المقررُ (بلوغُ المرامِ) والموضوع فيه (كتابُ الصلاة) حضّر حديثًا منه بالرجوع إلى (سُبُل السلامِ) و (فتح الباري) وغيرهما، فينظر الطالب: ما الحصيلةُ التي وَصَلَ إليها. ثم يقارنُ: كيف تعاملَ الشيخُ مع هذا الحديث. لا شك أنه سيخرج بفوائد ربما تكون غائبةً عنه. والذي ينبغي أن يختار المُعلِّمُ من طلابه من يحسن التدريسَ، ويزيدَه عنايةً، ويبيِّنَ له كيف يعلِّمُ، وكيف يدرِّسُ، وكيف يرتبُ المسائلَ. قد يأتي طالبٌ إلى معلِّمه قائلاً له: أنا حضرتُ عندك في الدورة في العام الماضي، وسمعتُ منك شرحَ (بلوغ المرام) أو شرحَ (الأربعين النووية)... فالمُعلِّمُ قد ينسى لكثرة الطلاب، وقد يذكر. ولكنه لا ينسى الطالبَ المجدَّ؛ لأنه يكوِّنُ عنه فكرةً في تعامله الحسن مع المتنِ، ومع فهمِ الحديثِ، وفي أدبهِ مع معلِّميه.  النصيحة الخامسة كتابةُ الفوائدِ من المُعلِّمِ ولا يتَّكِلُ الطالبُ على ما سُجِّلَ في الدورات السابقة. وعلى الطالب أن لا يقولَ: لا داعي إلى الكتابة، والتسجيلُ موجود. وهذا غَلَطٌ كبير يقع فيه بعضُ الطلاب، وكتابةُ الطالب مع الشيخِ مؤثرةٌ في استعداداته العلمية، وفي سلوكه العلمي كما ينبغي، فلا بدَّ للعلم من مشقةٍ ومكابدةٍ ومجاهدةٍ. وفي الكتابةِ تتكون ملكةٌ في تلخيصِ العلمِ؛ لأنه لا يستطيع أن يكتب حرفيًا ما يقوله المُعلِّمُ، ولهذا ينبغي التفريقُ بين ما نَقَلَهُ الطالبُ إملاءً وبين ما سَمِعَهُ. فقد يكون في كتابة تلخيصِ ما سَمِعَهُ نقصٌ كبيرٌ عما قاله المُعلِّم. إذًا ما المقصود من الكتابة؟ المقصود أن يتدربَ الطالبُ على ملكة التلخيص، فيسمع ثم يلخص، يُلاحظُ في أول الأمر أن الشيخَ يسرعُ ولم يستطع الطالبُ أن يكتبَ. وفي المرة الثانية يستطيع الطالبُ أن يكتبَ، ولكن فاتَتْهُ أشياءُ، وهكذا يأتيه وقتٌ يكتبُ باستيعابٍ ويستطيعُ الاختصارَ على أروع مثالٍ؛ لأن الملكةَ ترتبت عنده. وهذا ما يكون إلا بِدُرْبَةٍ. وكيف تكون الدُّرْبةُ؟ تكون الدُّربةُ بالإضافة إلى ما ذُكِرَ بأنْ لا يعتمدَ على التسجيل.  النصيحة السادسة الرحمةُ بين الطلاب قد يكون في هذه الدوراتِ العلميةِ طبقاتٌ مختلفةٌ من الحاضرين: (1) فمنهم من يَحْضُرُ للعلم. (2) ومنهم من يَحْضُرُ مبتدئًا. (3) ومنهم من يَحْضُرُ لمجلس الذكر ويستمع (وبخاصة إن كان بعد الفجر أو في أوقات الإجابة). (4) ومنهم من يَحْضُرُ لفائدةٍ ما، ويكتفي بأيِّ شيءٍ يُحَصِّلُهُ. والذي ينبغي في الحقيقة أن يتعاهدَ طلابُ العلم بعضَهم بعضًا، فيعلِّمَ الطالبُ أخاه المبتدئَ الطريقةَ، ويُسْدي إليه النصيحةَ. ولهذا ينبغـي أن يرحمَ بعضُنا بعـضًا في الدروس العلمية، وفي العلم جميعًا. وربما ابتدأ العلماء متونَهم بالوصية لطالب العلم بالرحمة. ولهذا تجد في إجازات الحديث أولَ ما ينقلون حديثَ: { الراحمونَ يرحمُهم الرحمنُ، ارحموا من في الارض يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السماء } ([4]) ([5]) هذا الحديث هو المعروف عند العلماء بالمسلسل بالأوَّلِيَّةِ؛ لأن كلَّ شيخٍ يقول عن شيخه: حدثنا شيخُنا فلانٌ، وهو أولُ حديث سمعته منه. قال: حدثني شيخي فلانٌ، وهو أولُ حديثٍ سمعته منه. إلى أن يصل إلى طبقة أتباعِ التابعين كلها أول. سؤال: لماذا يتعلمون حديث { الراحمون يرحمهم الرحمن... } ([6]) ؟ الجواب: اعلم - رحمك الله - أن من خصال طالب العلم التي يبارك اللهُ ﷻ‬ بها ويرحمُهُ اللهُ - جلَّ وعلا - أن يكون رحيمًا بمَنْ حولَه يرشدهم، ويعلمهم، ويعينهم.. الخ. فإذا كنت في طلبك للعلم رحيمًا بالخَلْقِ وبزملائك وبأصدقائك وبالحضور في التعاون والخير فأبشرْ برحمةِ اللهِ - جلَّ وعلا - لك بوعده الصادق بقولِ نبيه - عليه الصلاة والسلام -: { الراحمونَ يرحمهم الرحمنُ.. } ([7]).  الخاتمة وأسالُ اللهَ - جلَّ وعلا - أن يجعلكم مباركين، وأن ينفع بكم. ومعنى أن يجعلَ اللهُ فلانًا مباركًا، كما في قول اللهِ - تعالى - في سورة مريم ([8]) حكايةً عن قول عيسى - عليه السلام -: {  وجعلني مباركا أين ما كنت  }([9]) هو بأن تكون معلِّمًا للعلم. قال العلماءُ في تفسيرها: المباركُ من عبادِ الله هو الذي يعلِّمُ الناسَ الخيرَ ([10]). فأسألُ اللهَ أن يجعلكم مباركين، وأن ينفع بكم، وأن تكونَ هذه الدروسُ العلميةُ مفيدةً لملقيها، ومفيدةً للمتلقي، وأن يباركَ في الجميع، وأن يلهمكم الرشدَ والسدادَ، وأن يمنحنا وإياكم الفِقْهَ في الدين، والتزامَ السنة، وأن لا يكلنا لأنفسنا طرفةَ عينٍ. إنه سبحانه جواد كريم. اللهم اغفر لنا جميعًا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.    ملحـق  الأسئلة والإجابات   ملحـق الأسئلة والإجابات  السؤال الأول  (1) سألَ سائلٌ فقال: نحن في مكانٍ بعيد عن هذه الدورة، ولا يوجدُ طلابُ علمٍ، ولكن نستطيعُ الحصولَ على أشرطة الدورة. فإلى أيِّ مدًى نستطيع الاستفادةَ منها؟. كأنه يعني: هل يحضِّر منها ويدرِّس هناك. فكانَ الجوابُ: لا بأس أن تُعَلِّم، وليس من شرط التعليم أن تكون عالـمًا متمكنًا، أو مدرِّسًا في جامعة، أو متخصصًا في فنٍّ. ولكن عليك بتقوى الله - جلَّ وعلا - فيما تقول، واعلمْ أنك ستحاسبُ على ما تقول. لا تَنْسِبْ لعالمٍ قولاً لم يقلْه (تخلصًا من موقفٍ). لا تقلْ على الله ما لا تعلمْ. قل ما تتيقنُه بدليله الواضحِ مما تَعَلَّمْتَهُ من الأشرطة أو من غيرها دونَ زيادةٍ. وليس مهمًا أن تكون كلمتُك لمدةِ نصفِ ساعةٍ، بل يكفي عشرُ دقائقَ، والمهمُّ أن تُجْزَى عليه من الله - جلَّ وعلا - الجزاءَ الأوفى - إن شاء الله تعالى. أنا ألاحظُ بعضَ الذين كانتْ لديهم رغبةٌ في تعليم الناس في المساجد أنهم لم يستمروا؛ لأنهم أَتوا من جهة أنهم أَتوا بأشياء غير يقينية لم يعلموها من العلم حقًّا بسبب الإطالة. أُحرجوا في الكلام أو استطردوا ودخلوا في أشياءَ واجتهاداتٍ عقليةٍ خاصَّةٍ به، والعلمُ خلافُ ما قال، وكلامُه غَلَطٌ. وربَّما نَسَبَ إلى أهل العلم ما لم يقولوه، فيقول: أنا سمعتُ هذا من الشيخ فلان. والشيخُ بريءٌ مما قال. والنتيجةُ أن يتفرّق الناسُ من حوله. فإذًا التعليم الصحيح ممن تعلَّم مشافهةً، وحَضَرَ هذه الدوراتِ، وارتحل إلى بلده وعَلَّمَ. فجزاه الله - جلَّ وعلا - خيرًا. وأن يكتبَ الله خطواتِه، وأن يجعلَه من طلبةِ العلم، وأن يَقِرَّ العلمُ في صدره، وأن ينفعَ به من شاء الله من عباده. والخلاصة: لا بأس أن يسمعَ من الأشرطة، وينقل ما فهمه بيقينٍ باختصارٍ من دون إطالة، وأن لا يكذبَ على الله وعلى رسوله ﷺ‬ وعلى العلماء. وانْقُلْ ما تعلمتَه وسمعتَه من المشايخ أو قرأته بيقينٍ وفهمتَه دون لَبْسٍ أو غُمُوضٍ، ولا تقلْ شيئًا تستنتجه استنتاجًا. فإنه يباركُ الله - جلَّ وعلا - فيه. فقد تسمع في القرى من بعض المشايخ متنًا ويشرحُه بكلماتٍ قليلةٍ ولكنها صحيحةٌ، فيكون فيها بركة؛ لأنها ليست غَلَطًا في نفسِها. انقُلِ العلمَ لأهلك ولأولادِك ولأصدقائك، ولمن يحتاجُ إليه مع اليقين لما تنقلُ، واخشَ الحسابَ عند الله - جلَّ وعلا - لأن الله - سبحانه وتعالى - يحاسبُ العالِمَ إذا كَذَبَ في علمِه؛ لأنه يكذبُ على الشريعة، والكذبُ على الشريعة له أَثَرُهُ الفاسدُ. وهؤلاءِ هم علماءُ السوء، والعياذُ بالله تعالى.  السؤال الثاني (2) سألَ سائلٌ فقال: كيف أقاومُ الفتورَ وضعفَ الهمةِ في طلب العلم؟ فكانَ الجوابُ: تقاومُ الفتورَ بالالتجاءِ إلى الله - جلَّ وعلا - أولاً، ثم تقرأُ وتسمعُ فضلَ العلمِ وأهلِه، ومنازلَ العلماء، وعظمَ أجْرِ أهل العلم، وعظمَ أجرِ طالبِ العلم، وأخلاقَ طالبِ العلم. وأخلاقَ الدعاةِ. وفضلَ الدعوة، وفضلَ نَقْلِ الخيرِ والهُدَى. فتقرأ الآياتِ الواردةَ في ذلك، بل وتفسيرَ أهلِ العلمِ لها، والأحاديثَ في ذلك. فَيَمُنُّ الله ﷻ‬ عليك بالهمةِ العاليةِ في طلبِ العلم.  السؤال الثالث (3) سألَ سائلٌ فقال: طلبتُ العلمَ عدة سنواتٍ ومع ذلك لا تثبتُ لديَّ المعلوماتُ ولا أشعرُ بالفائدة، فبماذا تنصحونني؟ جزاكم الله خيرًا. فكانَ الجوابُ: لا تقلْ: لم أشعر بالفائدةِ؛ لأن طالبَ العلم في عبادةٍ. والمقصودُ من طلب العلمِ رضاءُ اللهِ - جلَّ وعلا - على العبدِ. وتعلمون الرجلَ الذي جاء تائبًا وقد { أتاهُ مَلَكُ الموتِ فاختصمتْ فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذابِ، فقالت ملائكةُ الرحمة: جاء تائـبًا مُقْبِلاً بقلبه إلى الله تعالـى، وقالت ملائكةُ العذابِ: إنه لم يعملْ خيرًا قطُّ. فأتاهم مَلَكٌ في صورة آدَمِيٍّ فجعلوه بينهم - أي: حكمًا - فقال: قيسوا ما بين الأرضَيْنِ فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوَجدوه أدنى إلى الأرضِ التي أراد، فقبضَتْهُ ملائكةُ الرحمة } ([11]) ([12]). غُفر لهذا الرجلِ التائبِ؛ لأن حركته حُسبت له، فحركةُ طالب العلم في العلم عبادةٌ، كحركةِ التائبِ المهاجر إلى أرضِ الخير. وطلبُ العلم خيرٌ لك من نوافل الصلاة، أو من بعض نوافل العبادات. ولا بدّ من النية الصادقة.. ثم الفائدةُ متبعِّضَةٌ، وليس المقصودُ إما أن تكونَ عالمًا، وإما أن لا تكونَ طالبَ علمٍ أصلاً. إنما المقصودُ من طلبك للعلم أن ترفعَ الجهلَ عن نفسِك، وأن تعبدَ الله - جلَّ وعلا - بعباداتٍ صحيحةٍ، وأن تكون عقيدتُك صالحةً، وأن تُقْبِلَ على الله - جلَّ وعلا - وأنت سليمٌ من الشبهة، سليمٌ من حبِّ الشهرة. قال الله - جلَّ وعلا -:  يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89) } ([13]). وقال - جل جلاله -: {  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30} ([14]). ولو لم تنفعْ إلاَّ نفسَك وعيالَك لكان في هذا خيرٌ كبير.  السؤال الرابع (4) سألَ سائلٌ فقال: لن أستطيع أن أكون شيخًا ربانـيًّا؛ لأني لستُ على ذكاءٍ قويّ، أو غير ذلك من الأعذار، فبماذا تنصحونني؟. فكانَ الجوابُ: أنصحُك بما نصحتُ به أخاك من قبلُ. ليس من شرطِ طَلَبِ العلمِ أن تكون عالمًا ربانـيًّا، وسلْ ربَّك التوفيقَ، ولا تدري هل إذا تصدرتَ للعلم وصرتَ عالمًا مشارًا إليه هل تبرأُ ذِمَّتُكَ أم لا تبرأُ؟. وهل هو خيرٌ فيك أم ابتلاءٌ لك؟ والمقصودُ من طلبك للعلم: (1) أن تنويَ رفعَ الجهل عن نفسك. (2) وأن يرضى الله - جلَّ وعلا - عنكَ بأنَّك سلكتَ طريقًا تلتمسُ فيه علمًا. (3) أن تنوي صلاحَ قلبِك وجوارِحِكَ. واطلبِ العلمَ فإنْ أقامكَ الله - جلَّ وعلا - في مقام العالم الرباني فهذا فضلٌ من الله ونعمةٌ، وهذا علمُهُ عند ربِّ العالمين، وإلاَّ فأنت طالبُ علمٍ. قال الله - جلَّ وعلا -: {  وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (68} ([15]). أسألُ الله ﷻ‬ التوفيقَ لك ولإخوانك جميعًا، ولكل من رام خيرًا ولم يدرك مبتغاه، قال الشنقيطي: لا تُسِئْ بالعِلْمِ ظنًّا يا فَتى إنَّ سُوءَ الظنِّ بالعلمِ عَطَب  السؤال الخامس (5) سألَ سائلٌ فقال: ما توجيهُكُم لمن يشاركُ في بلادٍ تكثرُ فيها البدعُ والشركيّاتُ؟. فكانَ الجوابُ: نَشْرُ العلمِ عبادةٌ وجهادٌ. والله - جلَّ وعلا - أمرَ نبيَّه وهو في مكةَ بأن يجاهدَ المشركينَ بالعلمِ. فقال - تعالى: { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) } ([16]). يعني بالعلمِ، وبالقرآن. فأعظمُ ما يكون جهادُ الأعداء بالعلم، وبه يبقى الخيرُ ويبقى التأثيرُ، فطالبُ العلم يُؤَثِّرُ، وينشرُ الخيرَ وتتوسعُ الدائرةُ مع الزمن، وهكذا. ولهذا جاء في الحديث { فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم } ([17]) ([18]). أما الصالحُ في نفسه فلا يُؤَثِّر إلا على نفسه. ولا شكَّ أنَّ فضيلةَ العلم عظيمةٌ. فإذا تهيأَ له أن يُعَلِّمَ في بلاده فهذا طيبٌ، وإذا تهيأ له أن يرحلَ ويُعَلِّمَ مَنْ هو محتاجٌ فهذا - أيضًا - طيبٌ. وفي العادة الناسُ يصيرونَ إلى العلماء الذين يُشارُ إليهم بالبنان، وينصرفون عن طلابِ العلم الذين هم دونهم. أقول: هذا أمرٌ طبيعيٌّ. ودَوْرُ طلابِ العلمِ الذين حضروا بعضَ المتونِ الصغيرةِ وعندهم ملكةٌ في التوحيد أو في السيرةِ، أن يرتحلوا إلى بلدٍ أخرى، ويقيموا دورةً علميةً في أفريقيا أو إندونيسيا، ويبذلوا فيها المالَ والعلمَ في العقيدة مع تقوى الله - جلَّ وعلا - فيما يقولون. وأعظمُ العلمِ في بلدٍ انتشرتْ فيه البدعُ والشركياتُ هو ما جاءت به الرسلُ - عليهم الصلاة والسلام - ودعتْ إليه، وهو توحيدُ الله - جلَّ وعلا - الذي هو حقُّ اللهِ على العبادِ. فهذا أعظمُ ما تورّثه وتبقيه في أيِّ مكان. ثم تُعَلِّمُهُمْ كلامَ الله - جلَّ وعلا - وتُعَلِّمُهُمْ السنةَ؛ لأنها هي التي تبقى، والقبول لها. وتُعَلِّمُهُمْ " الأربعينَ النوويةَ "، أو ما أشبه ذلك. ولا تعبأْ بنقدِ علماءِ تلك البلادِ وإنكارهِم عليك، فهم يتخيَّلونَ ما يَتَخَيَّلُونَ بوسوسةِ الشيطانِ، وعداوةِ الشيطانِ لأوليائه الصالحين. لهذا أعظمُ ما تجاهدُ به أعداءَ الله - جلَّ وعلا - والشيطانَ نشرُ العلمِ، فانْشُرْهُ في كلِّ مكانٍ بحسبِ ما تستطيعُ، واتّقِ الله - جلَّ وعلا - في ذلك. {  وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} ([19]).  السؤال السادس (6) سألَ سائلٌ فقال: ما نصيبُ أصحابِ التخصصات العلمية، كالهندسة، والكيمياء، وغيرها من هذه الدروسِ والدوراتِ، وهم كُثُرٌ، ويريدون الفائدةَ؟. فكانَ الجوابُ: من الواجب على كلِّ مسلمٍ أن يتعلمَ ما تصحُّ به عقيدتُه وما تصح به عبادتُه. وهذا واجبٌ على المهندسِ والطبيبِ والمتخصصِ في الرياضيات والكيمياء والمهندس المعماري والكمبيوتر وغيرها من الفنون. وهؤلاء يتعلمونَ ما تصحُّ به عقيدتُهم وعبادتُهم، وهذه الدوراتُ فرصةٌ لهم يستفيدونَ علـمًا كثيرًا في وقتٍ وجيزٍ. فإن تخرّجوا وتوظَّفوا فيأخذونَ من كلِّ علمٍ ما يحتاجون إليه. ولا شكَّ أن أمثالَ هؤلاء لديهم استعداداتٌ فطريةٌ لِفَهْمِ العلومِ الشرعيةِ، لهذا قال بعضُ الحكماء: " مَنْ لم يكنْ مهندسًا فلا يدخلُ داري " قالها لطائفةٍ؛ لأن عقولَ أصحابِ هذا الفنِّ مرتبةٌ تصلحُ للعلومِ الشرعية. وهناك علمان: علم الهندسة، والطب، أقرب ما يكون للعلوم الشرعية. ولهذا قال " الشافعيُّ " - رحمه الله -: " نظرتُ في العلوم فإذا أفضلُ العلومِ علمان: (1) علمُ الأديانِ. (2) علمُ الأبدانِ. فتأملتُ فإذا علمُ الأبدانِ الذي هو الطب يُنْجِي في الدنيا؛ لأنه يُصْلِحُ أمر البدن فيها. وإذا بعلمِ الأديانِ يصلحُ البدنَ والروحَ في الدنيا والآخرة. فآثرتُ علمَ الأديانِ على علمِ الأبدانِ ". وكان " الشافعيُّ " - رحمه الله - متوجهًا للطبِّ، وكان عنده علمٌ بالطبِّ والفراسةِ، حتى كان موتُه بسببِ تعاطيه بعضَ العلاجاتِ الطبيةِ لقوةِ الحافظةِ. و " الشافعيُّ " كان مولده سنة خمسين ومائة، ووفاتُه سنة أربعٍ ومائتين، يعني عاش أربعًا وخمسين سنة، فلم يُعَمَّرْ. وسببُ موته أنه تَعَاطَى بعضَ الأدويةِ؛ لأنه يُحْسِنُ الطبَّ، فَأَثَّرَتْ في دمه، فأصابه نزيفٌ، يعني: أصابَهُ انفجارٌ فماتَ. وهذا الإمامُ " ابنُ القيِّمِ " - رحمه الله - كان يعتني بالطب والفلك. وقد شَرَّحَ في كتابه " مفتاح دار السعادة " جِسْمَ الإنسانِ تشريحًا عجيبًا، ذكر الكبدَ ووصْفَها وتشريحها، وطبقاتِ الجلد. لكن لا يصلح للعالم أن يُشْهِرَ هذه الأشياءَ. كما ذَكَرَ فيه صورةً للخسوفِ والكسوفِ، وعمليةً حسابيةً هندسيةً من جهةِ الأشكالِ المخروطيَّةِ، وحسابَ القطرِ والزوايا، والزمنِ، حيث إنَّك لو أخذتَ بها تستطيعُ أن تحسبَ وقتَ الكسوفِ والخسوفِ. فإذًا العلماءُ الربانيونَ الذين هم علماءُ الأمة كان لهم اشتغالٌ ببعضِ هذه العلومِ؛ لأن هذه العلومَ تُورِثُ قُوَّةً في العقلِ. فمَنْ كان طبيبًا أو مهندسًا أو ما أشبه ذلك، ووُفِّقَ لدراسةِ العلمِ الشرعيِّ فهو من أصحاب الهمم العالية. على فمَنْ كان طبيبًا أو مهندسًا أو ما أشبه ذلك، ووُفِّقَ لدراسةِ العلمِ الشرعيِّ فهو من أصحاب الهمم العالية. على عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُوَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ ([20]) ومن عجائب " الشافعيِّ " - رحمه الله - أنه كان يتعاطى علمَ الفراسةِ. والفراسةُ - كما هو معلومٌ - ثلاثةُ أقسامٍ: (1) فراسةٌ إيمانيةٌ. (2) وفراسةٌ رياضيةٌ. (3) وفراسةٌ طبيعيةٌ. تَعْلَمُونَها في العقيدة ([21]). والمقصودُ منها الفراسةُ الطبيعيةُ، التي يستدل بها من الشكل، كشكل الوجه، على بعض ما خَفِيَ من الصفات. يقول مثلاً: هذا عيناه حادتانِ، وهو دليلٌ على قوة الذكاء. وهذا عيناه باردتانِ، وهو دليلٌ على الغباء. وهذا مِشْيَتُهُ تدلُّ على أنه مستعجلٌ في أموره. وهذا شكل جبهته تدلُّ على كذا. يقول هذا عن طريقِ الفراسةِ من دونِ أن يكون قد خالط هؤلاء. وهذا العلمُ موجودٌ قديمًا في الناس، ومنه ما هو صوابٌ ومنه ما هو غَلَطٌ. و " الشافعيُّ " - رحمه الله - تعاطاه. قال: " خَرَجْتُ إلى اليَمَنِ في طلب كتُبِ الفراسةِ، حتى كَتَبْتُها وجَمَعْتُها، ثم لَمَّا حَانَ انْصِرافي، مررتُ على رجلٍ في طريقي، وهو مُحْتَبٍ بِفِنَاءِ دارِه، أزرقُ العينينِ، ناتِئُ الجبهةِ، سِنَاطٌ ([22]).. فقلت له: هلْ من مَنْزِلٍ؟ فقال: نعم. (قال الشافعيُّ): وهذا النعتُ أَخْبَثُ ما يكونُ في الفِراسةِ، فأنْزَلني فرأيْتُ أكْرَمَ رجلٍ. بَعَثَ إليَّ بِعَشَاءٍ وطِيبٍ، وعَلَفٍ لدابَّتِي، وفِراشٍ ولِحافٍ، فجعَلْتُ أَتَقَلَّبُ الليلَ أجمعَ، ما أصْنَعُ بهذه الكُتُبِ؟ إذْ رأيْتُ هذا النعتَ في هذا الرجلِ، فرأيتُ أكرَمَ رجلٍ، فقلت: أَرْمي بهذه الكتبِ. فلما أَصْبحْتُ قلتُ للغلام: أسْرِجْ، فأسْرَجَ، فَرَكِبْتُ ومررتُ عليه وقلتُ له: إذا قَدِمْتَ مكةَ، ومررتَ بذِي طُوًى ([23]) فسلْ عن منْزلِ محمدِ بنِ إدريسَ الشافعيِّ. فقال لي الرجلُ: أَمَوْلًى لأبيكَ أنا؟! قلتُ: لا. قالَ: فهلْ كانتْ لك عندي نِعْمَةٌ؟! فقلتُ: لا. فقال: أينَ ما تَكَلَّفْتُ لك البارحةَ؟. قلت: وما هُوَ؟ قال: اشتريتُ لك طعامًا بدِرْهَمَيْنِ، وإدامًا بكذا، وعِطْرًا بثلاثةِ دراهِمَ وعَلَفًا لدابَّتِكَ. وكِراءُ الفِرَاشِ واللِّحافِ دِرهمانِ. قال: قلتُ: يا غُلامُ، أعطِهِ. فَهَلْ بقي من شيءٍ؟ قال: كِراءُ المنْزلِ، فإنِّي وسَّعْتُ عليك وضَيَّقْتُ على نفسي. (قال الشافعيُّ) فَغَبَطْتُ نفسي بتلكَ الكُتُبِ. فقلتُ له بعد ذلك: هل بَقِيَ من شيءٍ؟ قال: امْضِ، أخْزَاكَ الله، فما رأيتُ قطُّ شرًّا منكَ " ([24]). هذا أثّر في " الشافعيِّ " - رحمه الله تعالى - حتى إنه كان يسأل إذا أتى له خادمه بطعام: ممن اشتريتَه؟ صِفْه لي. فيقول: صِفَتُه كذا وكذا. فقال: لن آكلَه، هذه أبشع صفة. اذهبْ به، كلوه أنتم، أو ردُّوه. فأثَّرت فيه مع أن ذلك غَلَطٌ. وفي إيراد مثل هذه القصة فوائد: (1) ينبغي لك - أيُّها الطالبُ - أن تحرص على قراءة التراجم؛ لأنها تجمعُ العقولَ، وتطردُ المللَ والكسلَ، وهذا في طبيعة الإنسان. فقراءةُ تراجم العلماء، وسِيَرِ الأولينَ تنشِّطُ الطالبَ وتجعلُه منسجمًا في العلمِ؛ لأن العلمَ منه مُلَحٌ، ومنه معقد وصعب. لهذا كان " الزهريُّ " وغيرُه إذا انتهى الدرسُ، قال: " هاتوا لنا من أخبارِكم، هاتوا لنا من أشعارِنا، فإنَّ للقلب أحماضًا ". أو كما قال. (2) عليك - أيُّها الطالبُ - أن تستفيدَ من العلماءِ القدامى، مع علمك أنهم غيرُ معصومين عن الخطأ. فقد ترى في ترجمة العالم أشياءَ غريبةً؛ لأنهم بشرٌ والله - جلَّ وعلا - جعلَ بقدرته وحكمته في بعض العلماء من صفاتِ الكمال؛ ليبقى الكمالُ والاقتداءُ بالنبي ﷺ‬. ولكن لا يصح أن تُنْزِلَ العالِمَ منْزلةَ النبيِّ ﷺ‬ بأن لا يخطئ أبدًا، ويكون فعلُه كفعلِ النبي ﷺ‬ تمـامًا؛ وذلك لحكمةٍ من الله - جلَّ وعلا -، ولأمرٍ كونيٍّ فيه مصلحةٌ، وهي أن لا يُغاليَ الناسُ في مدحِ أحدٍ من العلماء فلا بدّ من هفوةٍ عندَه. والكاملُ والمقتدى به هو العالِمُ الربانيُّ الذي يعلِّمُ الناسَ الخيرَ وينشرَ في الناس الهدى، ويعلِّمُهُم السنةَ. أما الأشياءُ التي تكونُ في حياتِهِ بما يعابُ عليها فلا تلتفتْ إليها؛ لأنه ما من أحدٍ إلا وعنده ما يُعَابُ عليه. لو قرأتَ ترجمة (مالكٍ) - رحمه الله - لوجدتَ فيها ما يُعَابُ عليه، وهكذا في ترجمة (أحمدَ) - رحمه الله - وهكذا في ترجمة (أبي حنيفة) - رحمه الله - وهكذا في ترجمة (الشافعيِّ) - رحمه الله -. لكن الناسَ الآنَ مجمعون على الثناء على هؤلاء الأئمةِ الأربعةِ. ولو نظرتَ في ترجمة الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - لرأيت مَنْ كان في عصره يلعنُه لبعضِ المسائل. لكن استقرَّ الأمرُ على الثناء عليه، وعلى أنه من العلماءِ المجتهدين في الفِقْهِ. فإذا قرأتَ تراجمَ العلماءِ في الأزمنةِ جميعها وجدتَ أنهم لم يكونوا كاملينَ، بل لا بدَّ من نقصٍ، وهذا النقصُ لا تنسبْه إليهم فقط، بل هو ابتلاءٌ من الله - جلَّ وعلا - ليظهرَ كمال الكامِلِ، وتظهرَ نصيحةُ الناصِح، ولتتيقنَ أن الاقتداءَ التامَّ في الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وعلى الخصوص نَبِيُّنا محمدٌ - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه - فكلُّ واحدٍ من العلماءِ يقول: هكذا ظهرَ لي. والله أعلم. وربما يقول ذلك وهو يخالف الكتابَ والسنةَ. (3) يحسنُ في دروس العلماء إيرادُ القصص الماتعة، لقطفِ الثمارِ الحسنةِ منها، وطرحِ الفوائد في التربية والتوجيه الحسن. وذلك أوقع في القلب، وأكثرُ أثرًا في الإقبالِ على الله - جل جلاله - والرغبةِ بالعلمِ. وفي هذا القدر كفايةٌ. وأسألُ الله - جلَّ وعلا - أن يثيبَكم على حسنِ إنصاتِكم وعلى حضورِكم، وأن يباركَ فيكم، وأنْ ينفعنا وإيَّاكم بهذه الدروس نفعًا عظيمًا، وأن يجزل للجميع خيرَ الجزاءِ وأن يوفّقَ ولاة الأمرِ لما فيه رضاه، وأن يمنَّ عليهم بالهدى والتوفيقِ للصالحات، إنه سبحانه جواد كريم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه. ([1]) آل عمران: 79. ([2]) الترمذي العلم (2682)،أبو داود العلم (3641)،ابن ماجه المقدمة (223)،أحمد (5/196). ([3]) قطعة من حديث أخرجه أبو داود 3641، والترمذي 2683، وابن ماجه 223 من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. ([4]) أحمد (2/160). ([5]) أخرجه أحمد في " مسنده " برقم 6494 (11: 33)، والترمذي برقم 1924، والحاكم في " المستدرك " (4: 159). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. ([6]) أحمد (2/160). ([7]) الترمذي البر والصلة (1924)،أبو داود الأدب (4941). ([8]) الآية: 31. ([9]) سورة مريم آية: 31. ([10]) انظر تفسير ابن كثير (3: 120). ([11]) البخاري أحاديث الأنبياء (3283)،مسلم التوبة (2766)،ابن ماجه الديات (2626)،أحمد (3/20). ([12]) انظر الحديث كاملاً في " صحيح البخاري " (6: 373)، و " صحيح مسلم " برقم (7008). من حديث " أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ([13]) الشعراء: 88، 89. ([14]) الكهف: 30.([15]) القصص: 68. ([16]) الفرقان: 52. ([17]) الترمذي العلم (2685)،الدارمي المقدمة (289). ([18]) رواه الترمذي برقم (2686) وقال: حديث حسن. من حديث " أبي أمامة " رضي الله عنه. ([19]) طه: 114. ([20]) قاله "المتنبي" في مدح "سيف الدولة". ([21]) انظر: " شرح العقيدة الطحاوية " 753. ([22]) سِنَاط: هو الكوسج الذي لا لحية له أصلاً. كما في " مختار الصحاح ". ([23]) قال في " المصباح المنير ": " هو وادٍ بقرب مكة.. ويعرف في وقتنا بالزاهر.. ". ([24]) انظر " آداب الشافعي ومناقبه " لابن أبي حاتم الرازي ص129.

المرفقات

2

الوصايا الجلية للاستفادة من الدروس العلمية
الوصايا الجلية للاستفادة من الدروس العلمية