القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهنا |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
فإن الله تعالى قد كتب على ابن آدم نصيبه من الخطأ والعصيان، فهو مُواقِعٌ ذلك لا محالة، وليس الشأن في وقوع المعصية فحسب، إنما الشأن كل الشأن في إلفها، والإقبال عليها، والتهاون بأمرها، والمداومة عليها، وعدم الاستغفار منها. فإلى من ابتُلِي بذلك من المسلمين أقدِّم هذه التذكرات؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين ..
أما بعد: فإن الله تعالى قد كتب على ابن آدم نصيبه من الخطأ والعصيان، فهو مُواقِعٌ ذلك لا محالة، وليس الشأن في وقوع المعصية فحسب، إنما الشأن كل الشأن في إلفها، والإقبال عليها، والتهاون بأمرها، والمداومة عليها، وعدم الاستغفار منها. فإلى من ابتُلِي بذلك من المسلمين أقدِّم هذه التذكرات؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
تذكر -أيها العاصي- أن الله تعالى يراك، وأنه يعلم سرك ونجواك: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة:78]،)، فتذكَّر أن الله يراك، فاجعل لـه في قلبك وقاراً؛ وإذا حدَّثَتْكَ نفسك بالمعصية، وهمَّت بالخطيئة، فقل لها: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق:14].
إياك أن تراقب العباد وتنسى رب العباد! وإياك أن تخشى الناس وتنسى رب الناس! فإن الله ذم أقواماً يحسبون للناس الحساب، وينسون سريع الحساب، فقال: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء:108].
ثم تذكَّرْ -ثانياً- عظيم نِعَم الله عليك، تذكَّر أن الله خلقك ضعيفاً، فلولا فضل الله عليك ورحمته لاعْتَوَرَتْكَ الأمراض والأسقام، وحلّت بك أنواع المحن والرزايا؛ ولكن الله عطَّف عليك قلبَيْ والديك فأطعمك بهما بعد جوع، وكساك بهما بعد عري، وأسبع عليك وافر النعم؛ حتى غدوت في أبهى حُلة، وأحسن حال.
تذكر أن الله وهبك الصحة مع أنَّ مِن الناس مَن حُرمها، وأعطاك الأموال مع أن الكثير قد عَدِمها، فكيف تبدل نعمة الله كفراً وأنت تعلم أن ما بك من نعمة فمن الله؟كيف تقابل الإحسان بالنكران؟ وكيف تقابل العطايا بالخطايا؟ (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة:211].
وا عجباً لك يوم أن وهبك ربك البصر فنظرت بمنحته ما حرَّم عليك! وأعطاك السمع فاستمعت به الحرام وما عليك! ومتَّعك بلسان ناطق فصيح فأطلقته في كل وادٍ يهيم؛ حتى جعلك في زمرة كل همّازٍ مشَّاءٍ بنميم!.
بأي وجه تلقى ربك وقد أكرمك فاستعملت نعمه فيما يغضبه؟ أما تخاف من عقابه؟ أما تفرَقُ من عذابه؟ أليس قادراً -سبحانه وبحمده- على أن يسلبها منك متى شاء، وكيف شاء؟ فالنعمة نعمته، والأمر إليه، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
فإذا حدَّثَتْكَ نفسُك بالمعصية، وهمَّتْ بالخطيئة، فقل لها: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف:23].
ثم تذكَّر يا أخي -ثالثاً- أن كل صغير وكبير مُسْتَطَر، تذكَّرْ أنَّ كلَّ فعل وكل قول مُسَجَّل عليك، وستراه يوم القيامة أمام ناظريك، فعندها يذوب القلب كمداً، ويحترق لوعة وأسفاً؛ لأن الصحف المطوية نشرت أعمالك الخفية، تراها بعينك بعدما تناسيتها وألقيتها خلف ظهرك، والله لا ينسى، (أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة:6]، )وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]. فإذا حدثتك نفسك بالمعصية وهمت بالخطيئة فذكرها بقوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) [النبأ:29].
ثم تذكر يا أخي -رابعاً- أن العاصي على خطر من سوء الخاتمة، فليس أحدٌ منا يدري متى يموت، فيا أسفى إن هجم عليك الموت وأنت مُواقِع للذنوب، منتهك لما حرم الله عليك! وكما أن أهل الطاعة والإيمان يوفقون لحسن الخاتمة فإن أهل الغفلة والعصيان يستحوذ عليهم الشيطان ويجمع لهم العدة والعتاد عند الموت ليضلهم عن الخاتمة الحسنة، وكم سمعنا من قصص أولئك ما تدمع منه العيون، يوم أن ذُكِّروا بالله فردُّوا ذكر الله ورَّدَدوا مالا يرضي الله!.
قال ابن القيم -رحمه الله- وهو يعدد آثار الذنوب والمعاصي: وثمَّ أمر أخوف من ذلك وأدهى منه وأمَرّ، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة، حتى قيل لبعضهم قل: لا إله إلا الله. فقال: آهٍ آهٍ! لا أستطيع أن أقولها! وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله. فقال: كلما أردت أن أقولها فإن لساني يمسك عنها. وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله. فجعل يهذي بالغناء حتى مات. وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله. فقال: ما ينفعني ما أقول، ولم أدع معصية إلا ركبتها؟ قضى ولم يقلها.
ويُذكر أن أحد الشباب المعاصرين حصل لـه حادث بسيارته فجاءه أحد المسلمين ليلقنه الشهادة فلم يقلها، فلما ألحّ عليه قال ذلك الشاب: أنا في سقر. أنا في سقر. ثم مات! فسأل الرجلُ أهلَه عن حاله فأخبروه أنه كان متهاوناً بالصلاة، وصدق الله وهو القائل: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر:42-43].
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها العاصي تذكر حالك وملك الموت يقبض روحك من بين جنبيك، تذكر حالك وقد حملوك على أكتافهم ليدفنوك، تذكر يوم أن سدّوا عليك فُرَجَ القبر فأظلم، ثم أهالوا عليك التراب، فأحبهم إليك أكثرهم اجتهاداً في دفنك!.
تذكر أول ليلة تمضيها في قبرك، وتذكر أن هذا حالك ستبقى فيه وحيداً فريداً إلى يوم البعث والنشور، ثم تذكر يوم الحشر وما فيه من الأحوال وعظيم الأهوال، وتذكر أنك آخذ كتابك، فهل ستأخذه باليمين أم بالشمال؟.
تذكر النار، تذكر سلاسلها وأغلالها، وحميمها وزقومها، ثم اضرع إلى ربك بدعاء عباد الرحمن: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان:65-66].
اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربنا ونحن عبادك، ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا ذنوبنا جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت...