الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | خالد بن محمد الشارخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إني أخاف الله كلمة قالها أو يقولها رجل تدعوه امرأة ذات منصب وجمال، ذات منصب فهي تحميه من الأذى وتحفظه من الفضيحة، وذات جمال فالنفوس تتطلع إلى الجمال بحكم الجبلة التي خلق الله عليها البشر، وليس هذا فحسب، بل تدعوه هي ودون كلفة منه، فيصرخ في وجهها ويعلنها كلمة الحق، فيستحق بسببها أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ..
أما بعد:
أيها المسلمون: إن في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عبر ودروس كفيلة بأن تنشئ جيلاً صالحًا ومجتمعًا فاضلاً، لا يعرف للرذيلة طريقًا، ولا للخيانة سبيلاً، ولا للفاحشة داعيًا، ولذلك ذكر الله لنا في كتابه أخبارهم وسيرهم وما ابتلوا به وكيف صبروا عليه، وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وكذلك ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من صبر الأنبياء والصالحين.
وما أحوجنا -أيها الإخوة- أن نعرف سير الأنبياء والصالحين، وأن نستلهم دروسها ونعقل معناها: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43].
ونعرف كيف صبروا في ذات الله، وتغلبوا على أنفسهم وعلى شهواتهم، وانتصروا عليها مع وجود دواعي المعصية، لكن رددوا بلسان حالهم ومقالهم: إني أخاف الله، ما أعظمها من كلمة، وما أوقعها في النفوس!!
إني أخاف الله كلمة قالها أو يقولها رجل تدعوه امرأة ذات منصب وجمال، ذات منصب فهي تحميه من الأذى وتحفظه من الفضيحة، وذات جمال فالنفوس تتطلع إلى الجمال بحكم الجبلة التي خلق الله عليها البشر، وليس هذا فحسب، بل تدعوه هي ودون كلفة منه، فيصرخ في وجهها ويعلنها كلمة الحق، فيستحق بسببها أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. فيقول لها: إني أخاف الله.
"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله".
فما أحوج شبابنا اليوم لهذه الكلمة، وأن يتعلموها في حياتهم، ولكنها غلبة الشهوة، وفقدان الوازع الديني، وذاهب الخوف من الله، ونسيان الآخرة.
أيها الإخوة: كم من شاب باع دينه من أجل شهوة عابرة، وكم من شاب دنّس عرض عائلته وسمعتها من أجل لذة ساعة، وكم من شاب أرخى ستره بينه وبين الناس فحارب الله بالمعاصي، وكأن الله أهون الناظرين إليه، قال وهب بن منبه: "جاء في الكتب المتقدمة يقول الله تعالى: "إذا أرخى العبد ستره وعاقر بالله بالمعاصي ناداه الله من فوق سبع سموات: يا عبدي: أجعلتني أهون الناظرين إليك".
لئن غابت عنك عيون الناس فلن تغيب عنك عين الله.
روى ابن ماجه بإسناد جيد عن ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي أناس من أمتي بحسنات بيض كجبال تهامة، يجعلها الله هباءً منثورًا"، قالوا: يا رسول الله: ولم؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".
وفي رواية قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هؤلاء: "يأخذون من القرآن ما تأخذون ولهم حظ من الليل، ولكنهم كانوا إذا خلو بمحارم الله انتهكوها".
وإنها الشهوة التي من حفظها وحفظ لسانه معها فله الجنة التي عرضها السموات والأرض.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من ضمن لي ما بين لحييه -أي لسانه-، وما بين فخذيه -أي فرجه- ضمنت له الجنة".
واعلم -أيها المسلم- أنك إذا حفظت الله في جميع أعمالك، وتركت الحرام خوفًا من الله، وعملت العمل الحسن رجاء ثواب الله، فإنه لن يضيعك الله، وسوف يجعل لك رقيبًا من نفسك، ويصرفك عن كل سوء، ويثبتك إذا ضاقت بك الضوائق، أو عظمت عليك ظلمات الفتن.
فهذا يوسف -عليه الصلاة والسلام-، شاب أوتي من الجمال ما تحار الألسن عن وصفه، وقد جاء في الأثر: أن الله لما خلق الجمال، جعل نصفه في يوسف، والنصف الثاني فرقه بين بني آدم.
شاب قوي ذكي فتي، شاب في ريعان الشباب، يمتلئ جسمه حيوية وقوة، تدعوه امرأة العزيز بعد أن أغلقت الأبواب، ووضعت الحراس على الأبواب، وتزينت له وتعرضت بين يديه، وهو في حال غربة وعزبة، وأسباب الفاحشة ودواعيها متهيئة له، فالمرأة الداعية، وقد تزينت بكل ما تملك، والدعوة في بيت آمن حيث منزل عزيز مصر، والأبواب مغلقة، ولكن يبقى باب السماء مفتوحًا، فيتذكر يوسف من خلاله عظمة الله، ويتصور رقابته فيرى برهان ربه، فيقال: إنه رأى أباه يعقوب عاضًا على أصبعيه، وقيل: إنه رأى صورة الملك. وقيل: رأى مكتوبًا في سقف الحجرة: لا تفعل.
وهكذا يرى برهان ربه فيلوذ بحماه، وينتصر على الإغراء والشهوة، ويمتنع من مقارفة الفحشاء، ويستحق أن يكون من عباد الله المخلصين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى...
وهكذا يكون المتهم يوسف -عليه السلام- فيحكم عليه بالسجن بعد أن دعا الله فقال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [يوسف: 33].
فسجن -عليه السلام-، وما جريمته إلا لأنه حصّن فرجه عن الحرام، وحمى نفسه عن الوقوع في وحل المعصية وفي سياج الرذيلة.
فأبدل يوسف -عليه السلام- من رغد العيش وطراوته في مقر العزيز إلى شظف العيش وضيقه في السجن، مع ما في السجن من غربة وعزلة ووحدة، فآلام السجين تشتد حين يكون السجن ظلمًا وعدوانًا، ومحنة السجين تتضاعف حين يكون الطهر والعفاف جريمة وتهمة يؤاخذ بها، وتزاد الحيرة حين نعلم أن الذين سجنوا يوسف -عليه السلام- قد تبين لهم من الآيات والبراهين القاطعة ما يبرئ ساحته، ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين.
فقدُّ القميص من دبر، وشهادة الشاهد، وحزّ أيدي النساء، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف، كلها أدلة للبراءة.
ومع ذلك يسجن يوسف -عليه السلام- حتى لا تنشر فضيحة امرأة العزيز بمراودتها يوسف عن نفسه عند عامة الناس. وهكذا حين يغيب العدل بين الناس ويسود الظلم.
أرأيتم يا إخوة اليمان: يوسف -عليه الصلاة والسلام- يسجن ويترك في السجن سبع سنين لأنه تعفف عن الحرام وقال: (مَعَاذَ اللَّهِ) [يوسف: 23]، فأين هؤلاء الذين يبحثون عن الفاحشة بأنفسهم أو يهيئون أسبابها ومقدماتها دون وازع من دين أو رادع من خلق؟!
فسفر للخارج ومعاكسات في الأسواق ومكالمات بالهاتف، يغررون بذلك السذج من نساء المسلمين.
نعم سجن يوسف سبع سنين لأنه قال: معاذ بالله. من الذي ثبت يوسف في ذلك الموقف الرهيب؟! إنها عناية الله، حفظ الله في الرخاء فحفظه في الشدة.
أيها الإخوة: لكن الله أعقب هذا السجن وهذا الذل الذي يلوح للناظرين لأول وهلة، لكنها أقدار الله تسير على الناس وتحكم عليهم من حيث يشاؤون ولا يشاؤون.
أجل إخوة الإيمان: لقد أصبح يوسف بعد ذلك وزير المالية على بلاد مصر، سبحان الله أيها الإخوة!! إن المسافة هائلة بين غياهب الجب التي ألقي فيها يوسف -عليه السلام- وبين علو الشأن في ملك مصر.
والفرق كبير في عرف الناس بين يوسف وهو في غياهب السجن، وبين كونه من خلصاء ومستشاري عزيز مصر، وليس أقل من الفرق بين يوسف وهو بمثابة السلعة تباع وتشترى بأزهد الأثمان ويتنقل في الرق من سيد إلى سيد، وهو لا يملك من أمره شيئًا، وبين يوسف -عليه السلام- وهو على خزائن الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، يعطي الكيل لفئة ويمنعه أخرى، ويمنع الميرة والطعام عن وفد ويهبه لآخرين.
إنها عاقبة الصبر عن معصية الله، فيا أخي المسلم: هل حفظت فرجك عن الحرام؟! وهل حفظت لسانك عن الحرام؟! وهل حفظت نظرك عن الحرام؟!
إنها حماية الله وعنايته بعبده يوم أن يكون العبد ملتجئًا إلى الله، لم يخن الله في فرجه ولا في لسانه ولا في جوارحه: "احفظ الله يحفظك".
نعم، احفظ الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، احفظ الله فلا يراك إلا حيث يحب، ولا يراك حيث يكره، واعلم أنك بقدر ما تحفظ حق الله عليك، بقدر ما يحفظ الله عليك دينك ودنياك وسمعتك ومكانتك، ولا أدل على ذلك من قصة جاءت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: قال الإمام البخاري -رحمه الله-: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: ثنا جرير عن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له: جريج كان يصلي فجاءته أمه فدعته فقال: أجيبها أو أصلي"، وفي رواية: "فصادفته يصلي فوضعت يدها على حاجبها، فقالت: يا جريج: فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت ثم أتته فصادفته يصلي"، وفي حديث عمران بن حصين: "أنها جاءته ثلاث مرات تناديه في كل مرة ثلاث مرات، فقالت -أي أمه-: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، أي وجوه الزانيات، فتعرضت له امرأة فكلمته فأبى، فأتت راعيًا فأمكنته من نفسها"، وفي رواية: عند الإمام أحمد: "فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج فقالت بغي منهم: إن شئتم لأفتننه، قالوا: قد شئنا، فأتته فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راعٍ كأن يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج، فولدت غلامًا فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه". وفي رواية: "فأقبلوا بفؤوسهم ومساجهم إلى ديره فنادوه فلم يكلمهم، فأقبلوا يهدمون ديره". وفي رواية قال له الملك: "ويحك -يا جريج-، كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه!! اذهبوا به فاصلبوه، فلما أمروا به نحو بيت الزواني خرجن ينظرن فتبسم، فقال: لم يضحك حتى مر بالزواني، وهو إنما يضحك تذكر دعوة أمه: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات".
"فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟! قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟! قال: لا إلا من طين".
وهكذا يكون حفظ الله لعبده، فأنطق الصبي الذي ما زال في المهد لتبرئة عبده وعدم فضيحته وانتشار التهمة عليه.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
لم ترد.