الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | عويض بن حمود العطوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
الفراغ بحد ذاته يمكن أن يكون نعمة على صاحبه، ويمكن أن يكون نقمة قاتلة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رواه البخاري. ومما يدل على خطورة الوقت وعظم شأنه، كون الإنسان سيسأل عنه في موقف صعب يوم القيامة، قال...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فما أن خرجنا من أزمة الاختبارات وضغوطها، وأيام الامتحانات وهمومها، حتى وجدنا أنفسنا أمام مسألة الفراغ القاتل، الذي يعد بحق مشكلةً يجب التنبه لها.
عباد الله: الإجازة عند كثير منا فراغ كبير ليس له ما يسده ولا ما يشغله، وستكون المشكلة أعظم وأكبر، على فئة الشباب؛ الذين يضيقون ذرعًا بالقيود، فإذا جاءت الإجازة رأوا فيها انفراجًا مما كانوا فيه، وخروجًا عما ألفوه، ولكن هل تساءلنا بماذا يقضي شبابنا وقتَه؟! وبماذا يزجي فراغَه؟!
معاشر المؤمنين: إن شبابنا سيشعرون بعد الدراسة والانتظام بكثير من الملل والسأم، لذا سينامون كثيرًا؛ ويلعبون كثيرًا، سيخرجون كثيرًا؛ ثم ماذا؟! لا شيء؛ ملل بعد ملل، سيكون لديهم تشبع كبير من أمور كثيرة؛ لأنها معادة مكررة، لذا لابد من العناية بالتنوع، ولابد من التربية على الجدية، ولو في بعض الجوانب، حتى يخرج الأولاد بشيء من الفائدة والنفع.
معاشر المؤمنين: الفراغ بحد ذاته يمكن أن يكون نعمة على صاحبه، ويمكن أن يكون نقمة قاتلة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رواه البخاري.
ومما يدل على خطورة الوقت وعظم شأنه، كون الإنسان سيسأل عنه في موقف صعب يوم القيامة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟! وعن شبابه فيم أبلاه؟! وماله من أين اكتسبه؟! وفيم أنفقه؟! وماذا عمل فيما علم!!". قال الألباني في السلسلة: صحيح.
اثنان من هذه الخمسة -يا كرام- عن الزمن بماذا قضيته؟! وبماذا أزجيته؟! ولوقت الشباب خصوصية خاصة؛ لذا نص عليها المعصوم -صلى الله عليه وسلم- فقال: "وعن شبابه فيم أبلاه"، رغم أنه داخل في العمر، فهلا تنبهتم لهذا يا شباب الأمة.
أنا لا أقول: لا تروّحوا عن أنفسكم، فهذا حق لكم، ولكن ليس من المعقول أن تذهب الإجازة بين نوم وسهر ولعب، لا فائدة، لا علم، لا صنعة، لا تدريب، لا رفعَ لمستوى.
معاشر الآباء: فكروا في الأمر مليًّا، وخططوا له باهتمام، وأنفقوا من أوقاتكم وأموالكم في سبيل إيجاد ما ينفع أبناءكم، ويعود عليهم بالخير، ويبعدهم عن سبل الشر بإذن الله، ولعل من ذلك ما يأتي:
أولاً: الحرص على مشاركة الأبناء برامجهم وإجازتهم جسديًّا ووجدانيًّا.
يا أيها الآباء: لابد أن نعترف أننا في زحمة الحياة نعيش في غياب كبير عن أبنائنا، نحن دائمًا في إجازة عنهم، فهلا كنا في إجازة معهم ولهم، نجلس معهم، نلعب معهم، نسافر معهم، نخرج معهم، وهكذا نشاركهم حياتهم ونشاطهم وأنسهم، ومن خلال ذلك كله يكون توجيهًا لطيفًا، ونصحًا مناسبًا، وكلمة طيبة، وقدوة حسنة، فذلك والله له تأثيره العظيم، وصداه الكبير.
معاشر الكرام: كفانا انشغالاً عن أبنائنا، كفانا هروبًا عنهم، كفانا تضييعًا لحقوقهم، الإجازة فرصتك السانحة -أيها الفاضل- لمدّ الجسور مع أبنائك وبناتك، ومحاولة القرب منهم، فهلا فعلت؟!
ثانيًا: تسجيلهم في المراكز الصيفية والبرامج المفيدة.
معاشر الآباء: تقيم بعض الجهات مشكورةً بعض المراكز الصيفية، والبرامج الهادفة، وتوجد بعض الدورات والبرامج، فعلينا أن نستفيد منها، وأن نحث الأبناء على الالتحاق بها، وعلينا أن نكافئهم على ذلك، ونحببهم فيه، فذلك خير لهم من صحبة سوء؛ تستحوذ على ولدك، لا تدري إلى أين يذهبون، ولا ماذا يفعلون؟!
كما أن علينا -يا كرام- دعمَ هذه المناشط، ومؤازرتها، وتشجيعَها بكل ما نستطيع، لتقوم بواجبها، وتؤديَ رسالتها، ما ضرك -أيها الفاضل- لو قمت بجولة على هذه المراكز، وتلك البرامج بصحبة ابنك لتتعرف عليها عن كثب، وتختار لابنك ما يناسبه ويحقق طموحه!
ثالثًا: التخطيط لبرامج بيتيه.
معاشر الآباء: يمكن للأسرة ممثلة في الوالدين والأولاد، بنين وبنات، أن يجتمعوا ويخططوا لبعض ما يمكن عمله في هذه الإجازة خلال وجودهم في البيت، علينا أن لا نستسلم للفراغ، وأن لا ننساق وراء دوافع الملل فنسير بغير هدى؛ ونفاجأ بانتهاء الإجازة، وما حصلنا فيها شيئًا، ولا فعلنا فيها خيرًا.
أيها الأب الكريم: لا تقل: أنا لا قدرة لي على ذلك، هذا أمر يصعب عليّ، الأولاد لا يتقبلون، كلا بل عليك مع زوجتك بالتشاور والتحاور في هذا الأمر، والاهتمام به غاية الاهتمام، وإشراك الأولاد فيما تصِلون إليه.
جرّب -أيها المبارك- أن تجعلهم يخططون لإجازتهم، اجعل لهم مسابقة فردية أو جماعية لأحسن تخطيط يقدمه أحدهم لإجازة مدتها أسبوع أو شهر؛ حسبما تريد، ثم ناقشوا جماعيًا الاقتراحات المقدمة، واتفقوا على ما يتناسب مع الجميع، واشرعوا في تنفيذه.
معاشر الآباء: فكروا في أشياء كثيرة كهذه، سيجدْ كل واحد منا ما يتناسب معه، ويتفق مع ميوله، ويتلاءم مع ظروفه، نسأل الله أن يأخذ بأيدينا لكل خير، وأن يلهمنا وإياكم الحق والصواب.
رابعًا: صلة الأقارب.
لعل من المناسب -أيها الفاضل- في هذه الإجازة العنايةَ بأمر الأقارب، وزيارتَهم، والتوددَ إليهم، ولو نظمت لذلك برنامجًا واضحًا حتى تشعر بتحقيق أكبر قدر مما هدفت إليه لكان ذلك أفضل، ومع ما في ذلك من الأجر العظيم، فيه تسلية وترويح، وتربية وترفيه.
خامسًا: السفر والتنزه.
للسفر فوائد جمّة، منها كسر الروتين، ومشاهدة الجديد، والسياحة في أرض الله الواسعة، وبلادنا والحمد لله مترامية الأطراف، متنوعة التضاريس، فيها ما لا يوجد في غيرها، من الأماكن المقدسة، والأمن والخير، والحشمة والمحافظة، وهذه مقومات مهمة لراحة الإنسان، فأين نحن من ذلك؟!
لابد أن يكون لك -أيها الأب الفاضل- من سفر جماعي مع أسرتك، ترفّه عنهم فيه، وتعايشهم أمورهم، بعيدًا عن هموم العمل وضغوطه، وروتين البيت وظروفه، تعلمهم بالمواقف الواقعية، والتجارب الحياتية، الاعتماد على أنفسهم، وتحمّل المسؤولية والتبعة.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فلعلك -أيها الأب المبارك- تأملت فيما سمعت، وأدركت ضرورة الحفاظ على هذه اللبنات التي اؤتمنت عليها، وستسأل أمام الله عنها كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". قال الشيخ الألباني: صحيح.
وقال -صلى الله عليه وسلم- كما عند ابن حبان في صحيحه: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؟! حتى يسأل الرجل عن أهل بيته". قال الألباني في السلسلة: صحيح.
فهل أدركنا -أيها الآباء- عظم هذه التبعة، وثقل هذه المسؤولية؟! وهل شعرنا بالأخطار المحدقة بأبنائنا في هذه الإجازة التي من أعظمها الفراغ والممل وما يقود إليه، وصحبة السوء وما تجرّه من بلاء؟!
معاشر الآباء: إن الفراغ وما يتبعه من ملل وسأم، قد يقود إلى ممارسات غير محمودة، لذا علينا أن نبحث عما يملأ هذا الفراغ بالنافع المفيد، الذي يحقق المتعة والفائدة معًا، وهنا يأتي دور الأب الحريص على أولاده، يهتم بالأمر، ويخطط له، وينفق عليه، ويستشير فيه، وكل ذلك سيثمر خيرًا بإذن الله، أو على الأقل سيقلل الخطر، ويحجّم الضرر.
وإن مما يؤسف له أنه لا يوجد لفلذات الأكباد ما يكفيهم من البرامج والمحاضن التربوية في الصيف، فكثير من الجهات المعنية تغلق أبوابها، وتتخلى عن كثير من مسؤولياتها، ليظل الأبناء والبنات دون رعاية أو تربية، وهذا خلل يجب أن يعالج، ونحن نتساءل: لماذا تتعطل مدارسنا في الصيف؟! لماذا تُغلَق أبوابها؟! وأين المؤسسات التربوية الأخرى من تقديم ما ينبغي تقديمه، حتى يتنوع العرض، ويجد الأب والأولاد ما يأملون ويتناسب مع ميولهم وقدراتهم؟! أسئلة نطرحها على كل من له أثر في قرار، أو يد في تغيير.
أما أصحاب السوء فإنهم يقتنصون في هذه الإجازات فرائسهم، ويتلقفون من قتله السأم، أو ضاق به الأمر، فيزينون له طريق الخلاص من الملل الذي يعيشه، والكدر الذي يحيط به، إما بحبة أو سيجارة، وإما بجريمة أو رذيلة، والواقع يشهد بكثير من هذا، فكن -أيها المبارك- على قدر المسؤولية في هذا الشأن.
اللهم احفظ علينا أبناءنا وبناتنا من كل سوء، وأرشدنا وإياهم لكل خير، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].