العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الصيام |
إن حال الأمة اليوم مهين ومع هذا فلا للذل ولا لليأس، إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت، ونسأل الله أن يردنا ويرد أمتنا إليه ردًّا جميلاً، ليتحقق الميثاق المؤكّد والوعد المبرم، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "تقاتلون اليهود فتسلَّطون عليهم، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر: يا عبدَ الله، يا مسلم: هذا يهوديّ خلفي، تعال فاقتله" اللهم اجعله قريبًا، اللهم اجعله قريبًا ..
أما بعد:
عباد الله: في هذا اليوم نتفيأ ظلال يوم عظيم من أيام الله، نتذكر فيه قوة الحق وإن ضعفت قوة أتباعه، وانهزام الباطل وإن قويت شوكة أصحابه
في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" فقالوا: هذا يوم عظيم نجّى الله فيه موسى وقومه، وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرًا.
نتذكر في هذا اليوم فرعون الذي طغى وعلا في الأرض، ويرى في المنام أن ملكه يزول على يد موسى، فيسرف في تقتيل بني إسرائيل، ويأبى الله إلا أن يتربى موسى في قصر فرعون الحقير، ويكرم الله موسى بالنبوة، فيقابله فرعون بالعناد والتكذيب، وأتجاوز العديد من أحداث هذه القصة لأقف بكم في عاشوراء، حيث يخرج موسى بقومه مهاجرين بدينهم تارِكين ديارَهم، ولكنَّ فرعون ككلِّ الطغاة لم يترك هذا الشعبَ المقهور ليحيا كما يُريد، مع أنهم فارقوا بلدتَه إلى بلادٍ أخرى وتركوه وشأنَه، وهو يأبى إلا أن يطاردُهم حتى البحر.
وعلى ساحل البحر يشتد الكرب وعظم الخطب ويتراءى الجمعان، وينكشف الفريقان ويُبتلى الإيمان ويطيش الطغيان, وتصل الجنود الغاشمة بقيادة فرعون الطاغية مع شروق الشمس (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء:60-61].
البحر من أمامهم، وفرعون الطاغية من خلفهم، والجبال عن أيمانهم وشمائلهم، وفي تلك الساعة الرهيبة يقبل موسى -عليه السلام- على ربه متسلحًا بالعبودية الحقه، ويطلق كلمة التوحيد واليقين التي تقطع كل الأسباب، دون رب الأرباب (كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62].
نظر موسى إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه، وسرعان ما أمره الله: (أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ) [الشعراء:63] هذه العصا تقلب الأمور -بإذن الله- وتعصف بالتحديات، وتدمر الظالمين (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو) [المدثر:31] انفلق البحر -بإذن الله تعالى وقدرته- وصار اثني عشر طريقًا، (كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ) [الشعراء:63] أصبح ماء البحر قائمًا مثل الجبال، مكفوفًا بقدرة الكبير المتعال, فيأمر الله –تعالى- موسى أن يجوز ببني إسرائيل البحر، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، فلما جاوز آخرُهم، أراد موسى -عليه السلام- أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان، فأمره ربه القدير أن يدعه على حاله (وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ)[الدخان:24] وعلى الطرف الآخر ينظر فرعون إلى هذا المنظر العظيم، فيحجم ويصيبه التردد، ثم تحمله نفسه الكافرة وسجيته الفاجرة على اللحاق بموسى.
وقد روي أن جبريل -عليه السلام- هيَّج فرسه فاضطره للبحر، فتبعه قومه عن آخرهم فلما استكملوا فيه، أمر الله كليمه موسى فضرب بعصاه البحر فارتفع عليهم وعاد بحرًا هائجًا فسحقهم وابتلعهم، ولم ينج منهم إنسان (وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء:65-68].
لقد أكثر الله ذكر قصة موسى في القرآن؛ لأنها من أعجب القصص -كما ذكر المفسرون- قصة عظيمة مليئة بالدروس والعبر، نقف اليوم مع بعضها:
1/ ففي القصة أولاً إشارة إلى مصارع الظالمين، وعواقب الطغاة المجرمين، هكذا كانت نهاية فرعون الذي علا في الأرض واستعبد الناس، وطغى في البلاد وأكثر فيها الفساد، وقال أنا ربكم الأعلى, لا أحد فوقي اليوم، لا أحد أقوى مني.
إن العلوَّ في الأرض بالفَسادِ وقهرَ العباد مِتلافُ الممالِك، وسبَبُ المهالك.
إن هذا الطغيان والاستكبار، ليذكّرنا بطغيان وعلوِّ بعض الدول الكبرى اليوم وعدائها للإسلام، وتلطخها بدماء المسلمين في كل مكان, وقد قال قائلهم: من لم يكن معنا فهو ضدنا، كما قال فرعون من قبل: (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29] وهو في الحقيقة لا رأي له ولا خير، بل هو ضالٌّ مُضِلٌّ لشعبه (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) [طه:79] (فَتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيد) [هود:97].
ومع الخداع والتدليس على الدهماء تقلب الحقائق، ويتهم الأبرياء حينما يقول فرعون عن المؤمنين الصادقين (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) [الشعراء:54].
ويقول عن موسى (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26].
وعندما قال الملأ (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف:127] قال ابن كثير: "يا لَله العجب! صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه, ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون". اهـ
ليس كل من ادعى النزاهة والعدالة محقا صادقًا وفعله يخالف قوله.
لقد قال الله عن فرعون الأمس (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) [القصص:4] (وَسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ) [العنكبوت:39] وفرعون اليوم استكبر واستعلى وتجبر وطغى، وأفسد في الأرض هو وأعوانه، وحادّ الله ورسوله والمؤمنين، ووقف مع المغتصبين، وحال دون الحق في قضايا المسلمين, فلعنة الله على الظالمين، وإن غدًا لناظره قريب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وفي غمرة الشعور باليأس والإحباط مما يصيب المسلمين اليوم من نكبات، يأتي يوم عاشوراء ليذكر الأمة أن العاقبة للمتقين وأن الدائرة على الظالمين، وأن امتداد الباطل يسير، مهما طغى وتجبر وساد وتكبر, وأنه لا تقف أي قوة أمام قوة الله، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82].
2/ أن الجزاء من جنس العمل: فانظر كيف أهلك الله هذا الجبار العنيد الذي كان يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته، فأهلك بالماء من فوقه, وكان يقول: أنا ربكم الأعلى، فكان عاقبته أن ينحط إلى قعر البحر.
ثم انظر كيف كان هلاكُه وجنودِه على مرأى من المؤمنين، لتحصل مع نعمةِ إهلاك العدو نعمةٌ أخرى، وهي النظر إلى هلاكه؛ ليشفي صدور المؤمنين.
نسأل الله أن يهلك طواغيت هذا العصر بأسلحتهم، وأن يشفي صدور قوم مؤمنين.
3/ وفيها: أن الابتلاء سنة الله في عباده؛ ليمحصهم ويطهرهم (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ) [العنكبوت:11] ونحن نرى في هذا العصر، كيف يتسلط اليهود على المسلمين في فلسطين يسومونهم سوء العذاب، ولا زالت وسائل الإعلام المختلفة تنقل لنا هذه الأيام صور الحصار الغاشم الآثم، بل أقول حرب الإبادة الجماعية لإخوتنا في غزة، والغارات الأخيرة على القطاع، وسط تفرج فاضح وتخاذل مهين من دول العالم كله, نحن لا نلوم حكوماتنا العربية فقط، ولا دول الجوار فحسب، ولا القوى الفلسطينية الفاسدة في رام الله، بل –والله- نلوم أنفسنا أولاً ببعدنا عن ديننا واشتغالنا بدنيانا، وعدم اهتمامنا بمواساة إخواننا ولو بالدعاء، ولو بالتوجع وهو أقل درجات النصرة الواجبة كما ذكر ابن القيم، والله المستعان.
هل من فلسطينَ مكتوبٌ يطمئنني | عمن كتبت إليه وهو ما كتبا |
وعن بساتينَ ليمونٍ وعن حُلمٍ | يزداد عني ابتعادًا كلما اقتربا |
فيا فلسطيْنُ من يهديكِ أفئدةً | ومن يعيد لك البيت الذي خربا |
تلفّتي تجدينا في مباذلنا | من يعبد اللهو أو من يعبد الذهبا |
إن حال الأمة اليوم مهين ومع هذا فلا للذل ولا لليأس، إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت، ونسأل الله أن يردنا ويرد أمتنا إليه ردًّا جميلاً، ليتحقق الميثاق المؤكّد والوعد المبرم، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "تقاتلون اليهود فتسلَّطون عليهم، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر: يا عبدَ الله، يا مسلم: هذا يهوديّ خلفي، تعال فاقتله" اللهم اجعله قريبًا، اللهم اجعله قريبًا.
فصبرا -يا أهل فلسطين- فإن أمم الكفر، ولو وقفت ضدّكم بمكرها وكيدها فإن معكم الفئة التي لا تُغلب, والمُعين الذي يَخذُل, والمَلك الذي لا تنفد خزائنه.
صبرا -يا أهل غزة- فإنْ منعوا عنكم الدواء والغذاء والماء؛ فإنهم لا يستطيعون أبدا أن يمنعوا عنكم مدد السماء (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ * جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ) [ص:9-11].
4/ وفي القصة فضل التوحيد في الملمات وتفويض الأمر إلى الله وحده (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62].
فيا أيها المسلم, أيها الفلسطيني المحاصر: إنه مهما ضعفت قوتك، ومهما حمل عليك العدو بدباباته وقاصفاته ومدمراته، تذكر أن الله معك يسمع ويرى, ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، (فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًا) [مريم:84].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه:
5/ وقع هذا النصر المبين لموسى -عليه السلام- ومن معه، في اليوم العاشر من شهر الله المحرم، ولهذا صامه النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحرَّى صيامه، وأمر الأمة بصيامه, وعند مسلم سئل صلى الله عليه وسلم عن صيامه فقال: "يكفر السنة الماضية" أي: الصغائر.
والسنة في عاشوراء أن يصام يومٌ قبله أو يومٌ بعده مخالفةً لأهل الكتاب، فقد روى مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حين صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع" رواه مسلم.
واستحب بعض العلماء صيام الأيام الثلاثة، وبه يستكمل أجر صيام شهر المحرم كله؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.
ولا يكره صيام يوم عاشوراء فقط، وإن وافق يوم الجمعة أو السبت؛ لأن النهي عن إفراد الجمعة بالصيام، أو السبت عند من يرى النهي فيه، إنما هو لمن صام من أجل أنه الجمعة أو السبت، أما إذا كان للصيام في أحدهما سبب شرعي يقتضيه كأن يوافق يوم عاشوراء أو يوم عرفة فلا حرج في الصيام حينئذ.
6/ في مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل الكتاب في إفراد عاشوراء بالصوم مع أن صوم عاشوراء مشروع في الشريعتين، درس في تميز المسلمين في سلوكهم ومظاهرهم وفي عباداتهم، وأن تكون لهم الشخصية المتميزة المبنية على الشعور بالعزة الإيمانية.
7/ إن صيام المسلمين ليوم عاشوراء لا علاقة له بمقتل الحسين, كما يدعي ذلك الرافضة، ولا شك أن كل مسلم يحزنه مقتل غير الحسين من عامة المسلمين فكيف بمقتل سيد من سادات المسلمين وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا الحزن لا يبيح إقامة المآتم في يوم قتله أو لطم الخدود أو شق الثياب؛ كما يفعله الرافضة.
والعجيب من أمر الرافضة: أن أبا الحسن والحسين عليًّا -رضي الله عنه- كان أفضل منهما وقتل شهيدًا، ولم يتخذوا مقتله مأتمًا، وكذلك عثمان وعمر وهما أفضل من علي، ولم يتخذ الناس يوم قتلهم مأتمًا؛ كما يفعل هؤلاء الجهلة في مقتل الحسين.
قال ابن رجب رحمه الله: "وأما اتخاذه مأتمًا كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- فيه فهو من عملِ من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا، ولم يأمر الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتمًا فكيف بمن دونهم" اهـ.
ويضاف إلى هذا ما في هذه الأعمال البدعية من حماقةٍ وسفاهةٍ وتشويهٍ لصورة الإسلام، وتنفيرٍ لغير المسلمين من الدخول فيه، كما تحرص عليه بعض وسائل الإعلام العالمية المعادية، وأشنعُ من هذا ما يفعله بعض هؤلاء المبتدعة من لعن للصحابة الأبرار وإعلان للبراءة منهم.
8/ نحن أحق بموسى منكم:
إن الأولوية ليست بالدعوى ولا المظاهر، بل هي بحسب تمام المتابعة والتزام المنهج، ورابطة المنهج والإيمان تتخطى حواجز الزمان والمكان كما قال سبحانه: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:68].
إنّ دينَ الأنبياء وصراطهم واحد (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران:19] بينما شرائعُهم متعدّدة، اتفاقٌ على الأصول وتنوّع في الشرائع، ولم يخرج نبيّ قطّ عن دعوةِ التوحيد، وهي عبادةُ الله وحدَه لا شريك له، كما قال الله تعالى لنبيّه محمّد: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25] وجاءت شريعةُ محمّد امتداد تكميلِ للشرائع السماويّة السابقة، وهي الدين الذي ارتضاه الله للخَلق جميعًا من زمَن النبيّ محمّد إلى قيام الساعة، وهي الدين الوحيد في الدنيا الذي جعل الإيمانَ بجميع الكتبِ السماوية والتصديقَ بجميع أنبياء الله ورسله ركنًا من أركانه؛ ولهذا قرَّر -صلى الله عليه وسلم- أنه هو وأتباعه أولَى بالأنبياء السابقين ممّن يدَّعي تبعيتَهم حينما قال لليهود: "نحن أحقّ بموسى منكم" ليبيّنَ أنّ الإسلام هو المحضن الوحيد لأتباع الرسالات السابقة، وهو الطريقُ الوحيد الموصِل إلى الله، وصدق رسول الله، فخلال خمسةَ عشَر قرنًا لم يسجّل التاريخُ دخولَ عالمٍ مسلم واحدٍ لليهودية أو النصرانية، في حين سجّل التاريخ وبمدادٍ من نور مواكبَ من أحبارٍ ورهبان دانوا بشريعة الإسلام، بعد أن عرفوا الإسلام على حقيقته، أولئك يؤتون أجرهم مرتين.
وإنّ الواجبَ على المسلمين أن يزدادوا يقينًا بدينهم، وأنه آخر الأديان، وأن رسوله محمّدًا -صلى الله عليه وسلم- آخر الرسل وخاتمهم، وشريعته ناسخةٌ لشرائعهم، وأنّ الله لا يقبل دينًا سواه، ولا يجوز التنازلُ عن شيء من ذلك ولو ذهبت الأنفس.
نقول هذا في وقتٍ تضعضَع فيه بعض المنهزِمين فنادَوا بالخَلط بين الشرائع المنسوخة والمحرّفة وبين دين الإسلام بدعوى التقريبِ بين الأديان، وفي وقتٍ أيضًا ضعُف الإيمان لدى آخرين فرأوا أن الصوابَ قد يشمَل الجميع، كأنّهم لم يسمَعوا قولَ الله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85] بل كأنهم لم يقرؤوا الفاتحة والبقرة وآل عمران، والله المستعان.