العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
يا من تُعِدُّ الطعام والشراب لسفر الدنيا تذكر السفر إلى الدار الآخرة الذي لا تدري أي لحظة يحين موعده.
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً. يجري على عباده فيهما أنواعاً من الابتلاء والامتحان فمنهم من يستيقظ ويستدرك ما فرط منه بالتوبة والاستغفار. فيكون ما جرى عليه سبب خير له. ومنهم من لا يستيقظ ولا يتدبر ما يجري عليه فيكون كالبهيمة تحبس وتطلق ولا تدري لماذا حبست ولماذا أطلقت. أحمده على نعمه الظاهرة والباطنة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله واعتبروا بما جرى ويجري حولكم من تغير الأحوال. أيها المسلمون إن للناس فيما يجري في معترك الحياة لعبرة وذكرى لمن يعتبر. كما جعل الله نار الدنيا وآلامها وغمومها وأحزانها تذكرة بنار جهنم. قال تعالى في هذه النار: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) [الواقعة:73] أي تذكرة النار الكبرى وعن أبي هريرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد" رواه الإمام أحمد في مسنده.
وأخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أن شدة الحر والبر من أنفاس جهنم. ولما قال المنافقون: لا تنفروا في الحر، قال الله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81] كما أن الله سبحانه يري عباده في هذه الدار آثاراً من آثار الجنة وأنموذجاً منها كالرائحة الطيبة واللذات المشتهاة والمناظر البهية والفاكهة الحسنة والنعيم والسرور وقرة العين, قال –صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله عز وجل للجنة: طيبي لأهلك فتزداد طيباً فذلك البرد الذي يجده الناس بالسحر من ذلك" رواه أبو نعيم.
كل ما في الدنيا من المسرات والملذات النافعة وأصناف النعيم فإنه يذكر بما في الجنة, فالله سبحانه يذكر الإنسان بالأحوال التي تمر عليه في هذه الدنيا بنظيرها مما سيجري عليه في الدار ليتذكر ويتعظ ويستيقظ لنفسه.
فقد ذكر الإنسان حينما يركب على الفلك والأنعام للسفر الدنيوي ركوبه على النعش للسفر إلى الآخرة، فقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ* لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ *وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف:12-14] أي: لصائرون إليه بعد مماتنا, وإليه سيرنا الأكبر, وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة,كما نبه سبحانه بأخذ الزاد الدنيوي لسفر الدنيا على أخذ الزاد الأخروي لسفر الآخرة في قوله سبحانه (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:97]
فالتقوى هي زاد السفر إلى الآخرة ليس له زاد غيرها والتقوى فعل أوامر الله وترك مناهيه كما نبه سبحانه باللباس الدنيوي على اللباس الأخروي في قوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف:26] فهناك تلازم بين أمر الله باللباس الحسي لستر العورات وللزينة وبين أمر الله بالتقوى كلاهما لباس هذا يستر عورات الجسم ويزينه وهذا يستر عورات القلب ويزينه.
فيا من تُعِدُّ الطعام والشراب لسفر الدنيا تذكر السفر إلى الدار الآخرة الذي لا تدري أي لحظة يحين موعده فأعد له زاداً يكفي إن زاده ليس الطعام والشراب ولكنه التقوى، فاتق الله وأكثر من الأعمال الصالحة وتجنب ما يفسدها أو يتلفها من الظلم والمعاصي. يا من تركب المراكب الفاخرة المريحة تذكر نعمة الله عليك حيث سخرها لك فلا تعصه وتذكر نعمة الله عليك حيث سخرها لك فلا تعصه وتذكر ركوب النعش إلى القبور الذي لا تدري في أي ساعة تحمل عليه، فأعد لذلك عدته واحسب له حسابه ولا يغب عن بالك يا من يلبس اللباس الجميل من الثبات تذكر أن هناك لباساً أجمل منه وأنت أحوج إليه وما لم تلبسه فأنت عريان ذلك هو لباس التقوى فاحرص على تحصيل هذا اللباس وهو يسير الحصول لمن يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتجتنب ما نهاك عنه.
أيها الإخوة: إن كثيراً من الناس ينتظرون الاختبار الدراسي الذي شغل أفكارهم واستغرق الاستعداد له كثيراً من أوقاتهم فالطلاب يستذكرون دروسهم ويستعرضونها بدقة، ويتحرون مواقع الأسئلة فيها ويقدرون الإجابة المطابقة عليها حتى استغرق ذلك كثيراً من أوقاتهم بل ربما حال بينهم وبين النوم والتلذذ بالطعام والشراب وتجاوز الأمر إلى آبائهم فحملوا لهم خوفاً عليهم من الرسوب، وصاروا يستحثونهم على المذاكرة و الاستعداد كل هذا يجري خوفاً من اختبار الدنيا الذي لا يترتب عليه سعادة أو شقاوة ولا موت ولا حياة ولا رزق ولا حرمان كيف لا نتذكر به اختبار الآخرة الذي تكون نتيجته إما سعادة الأبد أو شقاوة الأبد؟! كيف لا نتذكر به سؤال الملكين في القبر والجواب عليه، وما ينتج عن ذلك من عذاب القبر أو نعيمه؟ كيف لا نتذكر بنتيجته تطاير الصحف وأخذها باليمين أو الشمال وما يترتب على ذلك من سرور أو حزن؟ قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً* وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً* وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ* فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً* وَيَصْلَى سَعِيراً) [الانشقاق:7-12]
كيف لا نتذكر به وزن الأعمال وما يترتب عليه من فلاح أو خسار؟ والله تعالى يقول: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ) [الأعراف:8] لماذا لا نتذكر بما يعقب هذا الامتحان الدنيوي من فرح وسرور أو غم وحزن، وما يعقب الحساب يوم القيامة من انقسام الناس إلى قسمين: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ *تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) [عبس:38-41]
نحن علمنا أن امتحان الدنيا يحتاج إلى استعداد فجندنا إمكانياتنا له. فلماذا ننسى امتحان الآخرة؟ إن الله تعالى يخبرنا عن حال قوم استعدوا لهذا اليوم وتأهبوا له ماذا يصير إليه حالهم، فيقول سبحانه: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات:15-19] ويخبرنا سبحانه عن قوم غفلوا عن هذا اليوم فلم يستعدوا له ماذا يصير إليه حالهم فيقول سبحانه: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ* وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنعام:31-32] .
عباد الله: إن السلف الصالح يتذكرون بما يجري بين أيديهم في هذه الدنيا أحوال الآخرة فيكسبهم ذلك رغبة ورهبة: دخل ابن وهب الحمام فسمع تالياً يتلو: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ) [غافر:47] فغشي عليه.
وتزوج صلة بن أشيم فدخل الحمام ثم دخل على زوجته فقام يصلي حتى أصبح وقال دخلت بالأمس بيتاً أذكرني النار ودخلت الليلة بيتاً ذكرت به الجنة فلم يزل فكري فيهما حتى أصبحت.
صب بعض الصالحين على رأسه ماء فوجده حاراً فبكى، وقال: ذكرت قوله تعالى: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج:19] وخرج الطبراني بإسناده أن رجلاً في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- نزع ثيابه ثم تمرغ في الرمضاء وهو يقول لنفسه: ذوقي نار جهنم أشد حراً جيفة بالليل وبطالة بالنهار فرآه النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: النبي –صلى الله عليه وسلم- "لقد فتحت لك أبواب السماء وباهى الله بك الملائكة".
مر ابن مسعود بالحدادين وقد أخرجوا حديداً من النار فوقف ينظر إليه ويبكي.
وقال الحسن كان عمر رضي الله عنه ربما توقد له النار، ثم يدني يده منها ثم يقول: "يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر".
كان الأحنف بن قيس يجيء على المصباح فيضع أصبعيه فيه ويقول:حسن، ثم يعاتب نفسه على ذنوبه.
وكان ابن عمر وغيره من السلف إذا شربوا ماء بارداً بكوا وذكروا أمنية أهل النار وأنهم يشتهون الماء البارد وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون ويقولون لأهل الجنة: (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) [الأعراف:50] فيقولون لهم: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50].
أيها المؤمنون استمعوا لنداء ربكم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر:18] الآيات. إلى آخر السورة.