السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | ناصر بن محمد الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
اللين والرفق واليسر والسماحة من الخصال الحميدة، والصفات النبيلة التي جاء الإسلام بالحث عليها، والدعوة إلى التحلي بها، والثناء على أهلها، والقائمين بها؛ إنها أساس المحبة والتعاطف بين الناس، وجالبة السماحة والمودة في التعاملات، ودليل كمال الإيمان وحسن الإسلام، وعنوان فلاح العبد وسعادته ..
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، واعلموا أنكم ملاقوه، فمجزيون على إحسانكم، ومحاسبون على تفريطكم (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].
أيها المسلمون: اللين والرفق واليسر والسماحة من الخصال الحميدة، والصفات النبيلة التي جاء الإسلام بالحث عليها، والدعوة إلى التحلي بها، والثناء على أهلها، والقائمين بها؛ إنها أساس المحبة والتعاطف بين الناس، وجالبة السماحة والمودة في التعاملات، ودليل كمال الإيمان وحسن الإسلام، وعنوان فلاح العبد وسعادته في الدارين، وصلاحه وحسن خلقه مع الآخرين، وسبب من أعظم أسباب رحمة الله تعالى للعباد، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
والإسلام -عباد الله- هو دين اليسر والرفق والين والرحمة، شريعة الله الخالدة، وشرعته الخاتمة، وفطرته السابقة، وملته الناسخة التي لا يقبل من أحد سواها.
وَالإسلامُ -عباد الله- هُوَ دينُ اليُسرِ والرِّفقِ والِّينِ والرَّحمةِ، شريعةُ اللهِ الخالدةُ، وشِرْعَتُه الخاتمةُ، وفطرتُه السابقةُ، وملَّتُه الناسخةُ التي لا يقبلُ من أحدٍ سواها.
جمعَ اللهُ -تعالى- في هذه الشريعةِ الإسلاميةِ بين كونها حنيفيَّةً خالصةً وبين كونِها سمحةً سهلةً؛ فهي حنيفيَّةٌ في التوحيدِ والقصدِ، سمحةٌ في العملِ والعبادةِ؛ قال اللهُ -عزَّ وجلَّ- في صفةِ نبيِّ الأمَّةِ -صلى الله عليه وسلم-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157].
فهذه الآيةُ الكريمةُ من أقوى الأدلَّةِ على أنَّ شريعةَ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أسهلُ الشرائع، وأنَّه وضعَ عن أمَّتِه كلَّ ثقيلٍ كان في الأمَمِ السابقةِ، فكانت هذه الأمَّةُ أمَّةً وسَطًا، أُريدَ بها اليُسرُ. قال ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-: إنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- جاءَ بالتيسيرِ والسماحةِ والرِّفقِ، وقد كانت الأممُ التي قبلنا في شرائعِهم ضيقٌ عليهم، فوسَّعَ اللهُ على هذه الأمَّةِ أمورَها وسهَّلَها لهم. كلُّ ذلك -عباد الله- رِفقٌ بالمسلمين ورحمةٌ بهم، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185].
إِنَّ التيسيرَ والرِّفقَ في الإسلامِ سمَةٌ عَظِيمَةٌ ظاهرةٌ، تتجلَّى في عقائدِه وعباداتِه ومعاملاتِه وأخلاقِه، وفي الصَّحِيحِ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- مَا خُيِّرَ بينَ أمرينِ إلاَّ اختارَ أيسرَهما ما لم يكن إثمًا. وَعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ" رواه البخاريُّ.
والمعنى -عباد الله- النَّهيُ عن التشديدِ في الدينِ بأن يُحمِّلَ الإنسانُ نفسَه من العبادةِ ما لا يحتملُهُ إلاَّ بكُلْفَةٍ شديدةٍ؛ فالدينُ لا يؤخذُ بالمُغَالبَةِ، وقد قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" متفقٌ عليه.
وروى عبدُ اللهِ بنُ عمرو بن العاصِ مرفوعًا: "إنَّ هذا الدينَ متينٌ، فأوْغِلْ فيهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُبغِّضْ إلى نفسكِ عبادةَ اللهِ، فإنَّ المُنْبَتَّ لا سفَرًا قطعَ وَلا ظهرًا أبقى" رواه ابنُ المباركِ في الزهدِ والبيهقيُّ. والمُنبَتُّ هو المنقطعُ في سفرِه قبلَ وصولِه.
الإسلامُ -عباد الله- شريعةٌ وَسَطٌ، وحنيفيَّةٌ سهلةٌ، مبناها على التيسيرِ، ورفعِ الحرَجِ، والبُعدِ عن المشقَّةِ والتكلُّفِ والتَّنَطُعِ والتَّشدُّدِ والتَّعَمُّقِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى اليُسْرِ وَالسُّهُولَةِ.
وَلَقَدْ كَانَ المُصْطَفَى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا- إِذَا أَرْسَلَ رَسُولاً أَوْ بَعَثَ بَعْثًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ أَوْصَاهُمْ بِقَوْلِهِ: "بَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا، وَسَكِّنُوا -أَوْ قَالَ: يَسِّرُوا- وَلاَ تُعَسِّرُوا؛ فَإِنَّمَا بُعُثْتُمْ مُيُسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ".
والتيسيرُ ورفعُ الحَرَجِ في الإٍسلام مبناهُ على الرِّفقِ بالخلقِ، والرَّحمَةِ بهم، وعدمِ العُنْفِ والمشقَّةِ معهم؛ فالرِّفقُ هو التوسُّطُ والتَّلَطُّفُ في الأمرِ كلِّه؛ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ البَرَرَةِ، وَخِصَالِ المُتَّقِينَ العَظِيمَةِ، التي تُبَاعِدُهُم عَنِ النَّارِ، وَتُورِثُهُم الدَّرَجَاتِ العُلَى مِنَ الجَنَّةِ، وَتَعْطِفُ قُلُوبَ النَّاسِ، وَتَجْمَعُهُم حَوْلَهُمْ.
نعم -عباد الله- إنَّ الرِّفقَ واللِّينَ فِي التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ والأنَاةَ والتُؤَدَةَ فِي جَمِيعِ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ من الصفاتِ المحمودةِ في حياةِ البشرِ؛ تَدُلُّ عَلَى الفَهْمِ والفِقْهِ، وَتَنُمُّ عَنِ الإِيمَانِ وَالسَّمَاحَةِ وَالقُرْبِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم كَمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ- أَنَّهُ قال: "التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ".
وَالقَوْلُ اللَّيِّنُ وَالتَّصَرُّفُ الرَّفِيقُ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ، وَأَبْلَغُ فِي تَحْقِيقِ المَطْلُوبِ، وَأَدْعَى إِلَى الإِجَابَةِ وَالقَبُولِ، سِيَّمَا فِي مَجَالِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ البَارِي -جَلَّ وَعَلاَ- لِنَبِيَّيْهِ مُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ حِينَمَا بَعَثَهُمَا إِلَى طَاغِيَةِ الأَرْضِ فِرْعَوْنَ-: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44]. وَأَوْصَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: (وَقُولُوا للنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83].
وَعِنْدَ أَحْمَدَ -بِسَنَدٍ صَحِيحٍ- أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى بُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا وَظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى لِمَنْ أَطَابَ الْكَلاَمَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَصَلَّى للهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
إِنَّ الرِّفْقَ -عباد الله- سببٌ للخيرِ كُلِّهِ؛ إذْ يتأتَّى معه من الأمورِ ما لا يتأتَّى مع غيرِه، ويُثيبُ اللهُ تعالى عليه ما لا يُثيبُ على ما سواه، وهو من أقوى الأسبابِ الموصلَةِ إلى محبَّةِ اللهِ -سبحانه وتعالى- ومرضاتِه، وسببٌ عظيمٌ للنجاةِ وَالفَلاَحِ في الدُّنيا والآخرةِ. عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ" رواه مسلمٌ. وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بن عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ" رواه مسلم.
ولقد كَانَ مِنَ الصِّفَاتِ العَظِيمَةِ، والشَّمَائِلِ الكَرِيمَةِ، التي امتنَّ اللهُ -تعالى- على رَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ جَعَلَهُ رَقيقًا رحيمًا بالعبادِ، رَفِيقًا هَيِّنًا، سَهْلاً لَيِّنًا، قريبًا مِنَ النَّاسِ، حَرِيصًا عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ، بَعِيدًا عَنِ التَّكَلُّفِ مَعَهُمْ، وَالفَظَاظَةِ بِهِمْ؛ وَيَكْفِيهِ نَعْتُ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ- لَهُ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ بِقَوْلِهِ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]. قال قتادةُ: إي واللهِ! طهَّرَه اللهُ من الفظاظَةِ والغِلْظَةِ، وجعلَه قريبًا رحيمًا رؤوفًا بالمؤمنين. وَصَدَقَ اللهُ العَزِيزُ حِينَ قَالَ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:128].
عن عائشةَ -رضي اللهُ عنها- أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. يعني: الموتُ عليكم. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللهُ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: "مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ"، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ: "أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟! رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رجلاً أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يتقاضاه، فأغلَظَ، فهمَّ به أصحابُه، فقال رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: "دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً"، ثُمَّ قَالَ: "أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِلاَّ أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ: "أَعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً" رواه البخاريُّ.
لقد تمثَّلَ خُلُقُ الرِّفقِ واللينِ في المصطفى -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه- حَتَّى بلغَ مبلغًا عظيمًا مُنقطعَ النظيرِ، وكان يُعالجُ به أمَّتَه وسائرَ خلقِ اللهِ -تعالى- حتَّى ملكَ نواصيَهم، واجتمعَت قلوبُهم على محبَّتِه وتقديمِه على النَّفسِ والمالِ والأهلِ والولدِ، وَأَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ، وَالمُؤْمِنُ وَالكَافِرُ.
فالرِّفقُ -عباد الله- في الأمورِ كلِّها، والرِّفقُ مع الناسِ واللِّينُ مَعَهُمْ والتيسيرُ عليهم من أعظمِ أبوابِ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ، بل من أَعْظَمِ صفاتِ الكمالِ التي يسودُ بها العُظَماءُ من البشرِ، يُحبُّها اللهُ -سبحانه وتعالى-، ويُعطي عليها من الأجرِ والثوابِ ما لا يُعطي على غيرِها، وصاحبُ الرِّفقِ قريبٌ من الناسِ، هيِّنٌ سهلٌ رقيقٌ رحيمٌ، مُحرَّمٌ على النارِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ" رواه أحمدُ وسندُه صحيحٌ.
وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ".
وعلى الضدِّ من ذلك -أيها المسلمون- مَن خلتْ تَصَرُّفَاتُهُ وَأَقْوَالُهُ مِنَ اللِّينِ وَالرِّفْقِ، واتَّصفَ بالغِلْظَةِ وَالعُنْفِ في قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، بَعُدَ عنه الناسُ، ونفروا منه؛ فالعُنْفُ ظاهرةٌ خُلُقيَّةٌ قَبِيحَةٌ، يُبغضُها اللهُ سبحانه ويمقتُها، وهي سببٌ للهلاكِ في الدُّنيا، والعذابِ في الآخرةِ، تنبئ عن سوءِ النيَّةِ، وخُبثِ الطويَّةِ، مع ما فيها من القسوةِ وَالجَفْوَةِ، وَمُجَانَبَةِ الإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ.
إِنَّ الرِّفْقَ وَاللِّينَ -عباد الله- مِنَ المَطَالِبِ الحَيَاتِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ التِي لاَ تَسْتَقِيمُ الحَيَاةُ السَّوِيَّةُ إِلاَّ بِهَا، يَتَأَلَّفُ بِهِ المَرْءُ القُلُوبَ، وَتَنْقَادُ لَهُ النُّفُوسُ، وَيَمْلكُ المودَّةَ والمَحَبَّةَ وَالإِجْلاَلَ، ولاَ غِنَى للمَرْءِ أَبَدًا مِنَ التَّحَلِّي بِهِ فِي مَعَامَلَةِ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ المُسْلِمِينَ؛ وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أَرَادَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ" رواه أحمدُ.
نَعَمْ -عباد الله-؛ إِنَّ العُنْفَ وَالفَظَاظَةَ مَا فَشَتَا فِي مُجْتَمَعٍ مِنَ المُجْتَمَعَاتِ، أَوْ أُسْرَةٍ مِنَ الأُسَرِ إلاَّ تقطَّعتْ بَيْنَهُمْ حبالُ الصِّلَةِ، وفسدتْ علائقُ المحبَّةِ والأُخوَّةِ، وَسَادَتِ البَغْضَاءُ وَالوَحْشَةُ؛ فَالرِّفقُ بالمسلمين -لا سيَّما الجاهلُ ومن في حُكْمِه- بابٌ عظيمٌ من أبوابٍ التأليفِ بين القلوبِ في الإسلامِ؛ رَوَى أَبُو هريرةَ -رضي الله عنه- أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ-صلى الله عليه وسلم-: "دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ -أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ- فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ" متفقٌ عليه.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ في القُرْآنِ العَظِيمِ، ونَفَعَنَا بِمَا فِيه مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَبِهَدْي سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي ولَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمِ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ؛ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ والتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسْلِمُونَ-، وَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
ثُمَّ اعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ الرِّفقَ واللِّينَ والتيسيرَ في الإسلامِ من أجَلِّ ما دعا إليهِ الشرعُ الحنيفُ، وأمرَ به اللهُ -عزَّ وجلَّ- ورسولُه -صلى الله عليه وسلم-، وإنَّ أولى الناسِ بالرِّفقِ الدُّعاةُ إلى اللهِ تعالى والمعلِّمون والمربونَ؛ فإنَّ هؤلاءِ جميعًا لا يملكونَ التأثيرَ في الناسِ ما لم يتحلَّوا بخُلُقِ الرِّفقِ الذي يستولي على القلوبِ ويملكُها، فمتى كان الداعيَةُ إلى الله -تعالى- والمعلِّمُ والمربي -أبًا كان أو غيرَه- رفيقًا في تعاملِه، حليمًا في تصرُّفاتِه، ليِّنًا مَعَ مَنْ حَوْلَهُ، سهلاً فِي تَعَامُلِهِ مَعَهُمْ، ذا أناةٍ وحكمةٍ - ملكَ القلوبَ، وانقادت له النفوسُ، وتأثَّرت به في أخلاقِها وأفكارِها، ومتى فقد ذلك وكان على الضدِّ منه نفرت عنه النفوسُ، واستوحشت منه القلوبُ، وكره الناسُ ما هو عليه، ومَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
ورفقُ الولاةِ والمسؤولين بمن تحت أيديِهم والشفَقَةُ عليهم حكمةٌ رفيعةٌ من السياسةِ الناجحةِ، وسببٌ للامتثالِ والطاعَةِ؛ فإنَّ العُنْفَ من هؤلاءِ يورثُ الكراهيَةَ والتذمُّرَ والتضجُّرَ، والخروجَ عن الطاعةِ وفسادَ أمرِ الجماعةِ؛ وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ أمرَهُمُ المصطفى-صلى الله عليه وسلم- بالرِّفقِ بمَنْ مَعَهُمْ، وحذَّرَهُمْ من العُنفِ وَالغِلْظَةِ والتشديدِ على من تحتَ أيديِهم، وكان يبتهلُ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- كما روت عائشةُ -رضي اللهُ عنها- فيقول: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ" رواه مسلمٌ.
وعن عائذِ بن عمروٍ أنَّه دخلَ على عُبيدِ اللهِ بن زيادٍ فقال: أيْ بُنيَّ، إنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ!". رواه مسلمٌ وأحمدُ. والرِّعاءُ: جمعُ الراعي، والحُطَمَةُ: هو الذي يشتدُّ على رعيَّتِه؛ فيسوقُها سوقًا عنيفًا بلا رحمةٍ ولا حكمة، بل بالعسفِ والضربِ، حتَّى يحطِمَ بعضُها بعضًا، ويقتلَ بعضُها بعضًا.
وهذا الحديثُ العظيمُ مثَلٌ بَلِيغٌ من جوامعِ كَلِمِ المصطفى-صلى الله عليه وسلم-، ضرَبَه لكلِّ راعٍ عنيفٍ قاسٍ على رعيَّتِه، شديدٍ لا رحمةَ في قلبِه بِهِمْ، ولا شفقَةَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِمْ، سواء أكان وليَّ أُسرَةٍ أو صاحبَ منصبٍ أو ذا سلطانٍ؛ صَغُرت دائرتُه أم كَبُرَت.
وهذا الدُّعاءُ منه -صلى الله عليه وسلم- مُستجابٌ، وهو تأكيدٌ لسنَّةِ اللهِ في عبادِه القاضيَةِ بأنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ؛ فَمَا أَحْسَنَ الإِيمَانَ يَزِينُهُ العِلْمُ! وَمَا أَحْسَنَ العِلْمَ يَزِينُهُ العَمَلُ! وَمَا أَحْسَنَ العَمَلَ يَزِينُهُ الرِّفْقُ!.
ثُمَّ اعْلَمُوا -رَعَاكُمُ اللهُ- أَنَّهُ لَيْسَ المرادُ من الرِّفقِ وَاللِّينِ الذي نادى به الإسلامُ وحثَّ على التَّمَسُّكِ بِهِ الشرعُ الحنيفُ السُّكُوتَ عَنِ المُنْكَرَاتِ، وَالرِّضَا بِالمَعَاصِي، وَالذُّلّ وَالهَوَان؛ فَإِنَّ هَذَا ضَعْفٌ وَجُبْنٌ وَخَوَرٌ يَنْهَى عَنْهُ الإِسْلاَمُ بِكُلِّ شِدَّةٍ، وَيُحَذِّرُ مِنْهُ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ؛ وليسَ المرادُ به كذلك اللِّينَ في المواقِفِ كلِّها التي قد يتطلَّبُ بعضُها من الشدَّةِ والقسوةِ ما يُحقِّقُ المصالحَ، وتُحفَظُ به الكرامةُ والدِّيانَةُ والشريعةُ.
وَإِنَّمَا الرِّفْقُ الحَقِيقيُّ هُوَ وَضْعُ الأُمُورِ فِي مَوَاضِعِهَا التي تَتَطَلَّبُهَا بِعِزَّةٍ وَكَرَامَةٍ، وَحُسْنِ سِيَاسَةٍ وَرِعَايَةٍ؛ عَلَى حَدِّ قَوْلِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفيانَ -رضي الله عنه-: إنَّ بيني وبينَ الناسِ خيطًا، إن أمهلوه شددتُ، وإن شدُّوه أمهلتُ.
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلاَ | مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى |
ولَقَدْ كَانَ المُصْطَفَى -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه- من أرفقِ الناسِ وأليَنِهم وأرحمِهم بِعِبَادِ اللهِ، لكنَّه كَانَ إذا انتُهِكَتْ حُرماتُ اللهِ أو اعتُدِيَ عليها لم يَقُمْ لغَضَبه قائمةٌ، كما صحَّ بذلك الحديثُ عن عائشةَ رضي الله عنه فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
عِبَادَ اللهِ، صَلُّوا وَسَلِّمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- عَلَى المَبْعُوثِ رَحْمَةً للعَالَمِينَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.