الوهاب
كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...
العربية
المؤلف | هشام عبد القادر آل عقدة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن هذا الكلام يدعونا جميعًا أن نتفقد أنفسنا، وأن يراجع كل منا حقيقة حاله حتى لا يكون ظاهره صلاحًا وداخله خرابًا، وحتى لا نتشبه بالعلماء والصديقين والمخلصين نوهم أننا منهم ولسنا منهم، نحمل صورتهم ونفتقد حقيقتهم، وشتان بين الصورة والحقيقة.
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
إخوة الإسلام: قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: كما أن خير الناس الأنبياء، فشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم، فخير الناس بعدهم العلماء والشهداء والصديقون والمخلصون، وشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم.
تأملوا تلك الكلمات التي قالها شيخ الإسلام وتفكروا فيها جيدًا, فكما أن خير الناس الأنبياء, فشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم. فخير الناس بعدهم -أي بعد الأنبياء- العلماء والشهداء والصديقون والمخلصون، وشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم.
ما الدليل على هذا الكلام إخوة الإسلام؟!
الدليل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يقضى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. فقال: ما عملت فيها؟! قال: قاتلت فيك حتى قتلت. قال: كذبت، ولكن قاتلت ليقال: هو جريء, فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟! قال: تعلمت فيك العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. فقال: كذبت, ولكنك تعلمت ليقال: هو عالم، فقد قيل، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟! فقال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار". وفي لفظ: "فهؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة".
من هنا إخوة الإسلام نفهم لماذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: كما أن خير الناس الأنبياء، فشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم، فخير الناس بعدهم العلماء والشهداء والصديقون والمخلصون، وشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم.
إن هذا الكلام -أيها المسلمون- يدعونا جميعًا أن نتفقد أنفسنا، وأن يراجع كل منا حقيقة حاله حتى لا يكون ظاهره صلاحًا وداخله خرابًا، وحتى لا نتشبه بالعلماء والصديقين والمخلصين نوهم أننا منهم ولسنا منهم، نحمل صورتهم ونفتقد حقيقتهم، وشتان بين الصورة والحقيقة، ولكن هناك أمورًا ينكشف عندها الزيف وتتميز عندها الصورة من الحقيقة، نعم هناك أمور كثيرة هي المحك الذي يظهر صدق دعوى العلم والصدق والإخلاص، مثل الحرص على التقرب إلى الله، وتحري الأكل من الحلال، وحفظ اللسان، وغض البصر وحفظ الفرج، وقلّ من ينجو من المخالفة في هذه الأمور، قلّ من ينجح في هذا الامتحان ويثبت حقيقة العلم؛ فإن حقيقته خشية الله، ويثبت حقيقة الصدق، فإن حقيقته مطابقة العمل للقول، ويثبت حقيقة الإخلاص؛ فإن حقيقته مراقبة الله في السر.
أي تديُّنٍ يوصف به العبد إذا كان لسانه يفري في أعراض الناس قدحًا وغمزًا، أو انتقاصًا واحتقارًا، أو غيبةً واستهزاءً، وإذا كان لسانه يمطر لغوًا وكذبًا، وباطلاً وفحشًا، ألم يقرأ هؤلاء قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36]، وقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]؟!
أي تديُّن يوصف به العبد إذا كان لا يحفظ فرجه، ولا يكف بصره عن محاسن الوجوه والصور؟!
أي تديُّن يوصف به العبد إذا ما فوجئْتَ به في المعاملات المالية كليث هائج لا يبالي من الحرام أَكَلَ أم من الحلال؟! إذا ما هاج وماج وتنازع وغضب للدرهم والدينار حتى خرج عن التزام أدب الشرع، ولم يبالِِ أن يترك كل التزام بالدين من أجل درهم، إذا ما وجدت تعاملاته كلها مشبوهة، كلها التواء وانحراف، ومطل وظلم، وغش وخداع (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 4-6]، ألا يخشى هؤلاء أن يقال لهم يوم القيامة: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف: 20].
أخا الإسلام: ألم تقرأ قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا -يعني جهنم- شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت: 20-24].
في هذا اليوم العظيم ترى من نفسك ما لم يره الناس منك، تكون الفضائح، وتميز الصور عن الحقائق، إن من أقبح القبائح أن يظهر طالب الجاه والمكانة في صورة المتدين، وأن يظهر طالب الدنيا في صورة المتدين، وأن يتمسح كل صاحب منفعة في التدين والمتدينين، ولذا كان بشر الحافي يقول: لأن أطلب الدنيا بمزمار أحب إليّ من أن أطلب الدنيا بالدين.
وسئل ابن المبارك: من الناس؟! قال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟! قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة؟! قال: الذي يأكل بدينه.
فالإخلاصَ الإخلاصَ -إخوة الإسلام- والنجاة إنما تكون لمن طابق عمله قوله، ولمن صلح باطنه وظاهره، ولذلك كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي: يا أبا الدرداء: قد علمت, فكيف عملت فيما علمت؟!
وروى البخاري ومسلم وأحمد -واللفظ لأحمد- عن أسامة -رضي الله عنه- قال: والله لا أقول لرجل: إنك خير الناس وإن كان عليَّ أميرًا بعد أن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول. قالوا: وما سمعته يقول؟! قال: سمعته يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه, فيطيف به أهل النار، فيقولون: يا فلان: ما أصابك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه".
يا واعظ الناس قد أصبحت متهمًا | إذا عبت فيهم أمورًا أنت تأتيها |
أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدًا | والموبقات لعمري أنت جانيها |
تعـيب دنـيا وناسـًا راغبين لها | وأنت أكثر منهم رغبة فيـها |
يا أيـها الرجل المعلم غيره | هلا لنفسك كان ذا التعليم |
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها | فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم |
أخا الإسلام: إني وإياك مدعوان لمحاسبة أنفسنا، والحذر من الذنوب والمعاصي؛ فهي وراء كل شر وكرب وبؤس وضيق وعسر ووحشة يجدها العبد بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس -لاسيما أهل الخير منهم- فضلاً عن الوحشة العظيمة التي يجدها بينه وبين ربه، ولا تحسبنّ أن المعصية ينتهي أمرها بمجرد الفراغ منها؛ فإن المعصية لا تنحصر آثارها السيئة على العبد وفي المجتمع, ولا يتسع المقام لذكرها, فاقرؤوا في ذلك -إن شئتم- كتاب الداء والدواء لابن القيم رحمه الله؛ ففيه ما يكفي ويشفي في بيان آثار المعاصي والذنوب وعقوباتها.
ولا يقتصر ما يلقاه العبد من آثار المعاصي على ما يجده في الدنيا، وإنما تبدأ رحلة أخرى من العذاب بعد أن يُدفن العبد بعد موته، فيقام ليلاقي عمله السيئ، وينهر ويزجر ويسأل، ثم فضيحة الموقف وعذاب النار في الآخرة: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الزمر: 48].
فإياكم والذنوب -إخوة الإسلام-، فالذين تضيع منهم الصلاة في الجماعة تلو الصلاة: أما آن لهم أن يحافظوا على الجماعة؟! والذين ألفوا النوم عن صلاة الفجر: أما آن لهم أن يستيقظوا؟! والذين طاب لهم الكلام في الناس وطاب لهم اللغو واللهو: أما آن لهم أن يحفظوا ألسنتهم؟! والذين اتبعوا شهوات فروجهم وخاضوا فيما حرم الله بطشًا أو نظرًا: أما آن لهم أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وجوارحهم؟! والذين تخبطوا في المعاملات المالية المحرمة والمشبوهة، وتجاوزوا عن كثير من الدِّين من أجل الطمع والحرص على الدنيا والدرهم: أما آن لهم أن يتقوا الله ويتفكروا ما يدخل في بطونهم أمن الحلال أم من الحرام؟! وكل صاحب معصية هو أدرى بها: أما آن له أن يكف عنها؟!
وتوبوا إلى الله جميعًا -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء: 110]. وأحسب أن لا أحد يقول: أنا لم أعمل سوءًا ولم أظلم نفسي، ومن ادعى ذلك فلا أظنه إلا مغرورًا، فهذه الصديقة عائشة -رضي الله عنها- روي عنها أنها قالت في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) [فاطر: 32]، قالت: أما هؤلاء: المقتصد والسابق بالخيرات فقد مضوا، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم. الصديقة بنت الصديق تقول ذلك عن نفسها وعن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- فماذا نقول نحن عن أنفسنا، أينا لم يعمل سوءًا، وأينا لم يظلم نفسه؟!
أنا العبد الذي كسب الذنوبا | وصدته الأماني أن يتوبا |
أنا العبد الذي أضحى حزينًا | على زلاته قلقًا كئيبًا |
أنا العبد المسيء عصيت سرًّا | فما لي الآن لا أبدي النحيبا |
أنا العبد المفرط ضاع عمري | فلم أرع الشبيبة والمشيبا |
أنا العبد الغريق بلج بحر | أصيح لربما ألقى مجيبًا |
أنا العبد السقيم من الخطايا | وقد أقبلت ألتمس الطبيبا |
أنا العبد المخلف عن أناس | حووا من كل معروف نصيبًا |
أنا العبد الشريد ظلمت نفسي | وقد وافيت بابكمُ منيبًا |
أنا العبد الفقير مددت كفي | إليكم فادفعوا عني الخطوبا |
أنا الغدار كم عاهدت عهدًا | وكنت على الوفاء به كذوبًا |
أنا المقطوع فارحمني وصلني | وهيئ منك لي فرجًا قريبًا |
أنا المضطر أرجو منك عفوًا | ومن يرجو رضاك فلن يخيبا |
فيا أسفًا على عمر تقضّى | ولم أكسب به إلا الذنوبا |
وأحذر أن يعاجلني مماتٌ | يحيِّر هولُ مطلعه اللبيبا |
ويا حزناه من حشري ونشري | بيوم يجعل الولدان شيبًا |
تفطرت السماء به ومارت | وأصبحت الجبال به كثيبًا |
إذا ما قمت حيرانًا ظميئًا | حسير الطرف عريانًا سليبًا |
ويا خجلاه من قبح اكتسابي | إذا ما أبدت الصحف العيوبا |
وذلة موقفي وحساب عدل | أكون به على نفسي حسيبًا |
ويا حذراه من نار تلظى | إذا زفرت وأقلقت القلوبا |
تكاد إذا بدت تنشق غيظًا | على من كان ظلامًا مريبًا |
فيا من مد في كسب الخطايا | خطاه أما بدا لك أن تتوبا |
ألا فارجع وتب واجهد فإنا | وجدنا كل مجتهد مصيبًا |
وأقبل صادقًا في العزم واقصد | جنابًا للمنيب له رحيبًا |
وكن للصالحين أخًا وخلاً | وكن في هذه الدنيا غريبًا |
وكن عن كل فاحشة جبانًا | وكن في الخير مقدامًا مجيبًا |
وقابل زينة الدنيا ببغض | تكن عبدًا إلى المولى حبيبًا |
فمن يخبر زخارفها يجدها | مخالفة لطالبها خلوبًا |
وغض عن المحارم منك طرفًا | طموحًا يفتن الرجل الأريبا |
فخائنة العيون كأسد غاب | إذا ما أهملت وثبت وثوبًا |
ومن يغضض فضول الطرف عنها | يجد في قلبه روحًا وطيبًا |
ولا تطلق لسانك في كلام | يجر عليك أحقادًا وحوبًا |
ولا يبرح لسانك كل وقت | بذكر الله ريانًا رطيبًا |
وصل إذا الدجى أرخى سدولاً | ولا تضجر به وتكن هيوبًا |
تجد أنسًا إذا أودعت قبرًا | وفارقت المعاشر والنسيبا |
وصم ما تستطيع تجده ريًا | إذا ما قمت ظمآنًا سغيبًا |
وكن متصدقًا سرًّا وجهرًا | ولا تبخل وكن سمحًا وهوبًا |
تجد ما قدَّمَتْه يداك ظلاً | إذا ما اشتد بالناس الكروبا |
وكن حسن السجايا ذا حياء | طليق الوجه لا شكسًا غروبًا |
لابد إخوة الإسلام من توبة صادقة، يظهر منها الندم، ويتحقق أثرها في السلوك والعمل، كما كان السلف الصالح يتوبون، فهذان الخيران أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2], فندم الرجلان الصالحان على رفعهما أصواتها، وتابا توبة نصوحًا ظهرت أثرها في سلوكهما؛ حيث كان أحدهما لا يكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا كأخي السرار، أي كمن يحدث بسّر, والآخر لا يكاد يسمعه حتى يستفهمه، أما ثابت بن قيس فإنه ظنّ الآية نزلت فيه -وكان رجلاً رفيع الصوت- فلزم بيته يبكي وافتقده الناس, فما كفت عينه, وما هدأت نفسه حتى أخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة.
وهذا أبو لبابة -رضي الله عنه- لما تاب ربط نفسه في سارية المسجد، وحلف ألا يفك نفسه حتى يكون الذي يفكه هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك وتاب، قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله تعالى وإلى رسوله، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: "أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك"، قال: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وانخلع من بقية ماله كله صدقة لله تعالى تصديقًا وتحقيقًا لتوبته.
وقال أيضًا: يا رسول الله: إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما علمت أحدًا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني الله تعالى.
وهذا أبو طلحة لما شغله طائر أعجب به وهو يصلي في بستانه، تصدق ببستانه لله تعالى كفارة أن شغله عن صلاته.
وعمر -رضي الله عنه- فاتته الجماعة ذات مرة -وكان قد تأخر في حائط له- فجعله صدقة لله تعالى.
وهكذا كانت توبتهم الصادقة لا كقول أحدنا اليوم: أستغفر الله، ثم لا يلبث حزينًا إلا يسيرًا, ثم يمضي وشأنه دون كبير عمل يتحقق به الندم، وتصدق به التوبة.
أخا الإسلام: إن من صدق التوبة أن تبدل عمل السيئات إلى عمل الحسنات، فقابل ما أكلته من الحرام بالصدقة الكثيرة والورع، وقابل سوء الظن بالمسلمين بإحسان الظن، وقابل اللغو والفحش بعفة اللسان وذكر الله, وقابل الإنفاق في الشر بالإنفاق في الخير، وقابل قدحك وتطاولك على الخلق بحمدك لهم حيثما قدحت فيهم، وقابل سهرك في اللهو والمعاصي بسهرك في الذكر والعبادة والاستغفار والصلاة: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
ومما يجدر ذكره هنا أن سلفنا الصالح كان قيام الليل عندهم هو الأصل المألوف وليس حدثًا في المناسبات: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17]، ومن الحكايات الطريفة في هذا الشأن أن الإمام الشافعي -رحمه الله- زار أحمد بن حنبل في بيته وبات عنده، وأعدت ابنة الإمام أحمد طعامًا وماءً للوضوء ودفعته إلى حيث يبيت الشافعي، وفي الصباح وجدت ابنة الإمام أحمد أن الشافعي أكل الطعام كله، وأن ماء الوضوء لم ينقص منه شيء، فأنكرت ذلك وشكت إلى الإمام أحمد من الشافعي كيف أنه أكل الطعام كله، ولم يقم الليل، وخرج إلى صلاة الفجر ولم يتوضأ في المنزل، فاستفسر الإمام أحمد من الشافعي عن ذلك فأجاب: أما طعامك فأكلته كله لأني لا أعلم أحدًا أكثر منك تحريًا للحلال، وأما: لِمَ لمْ أقم الليل ولمَ لمْ أتوضأ في المنزل؟! فلأني لم أنم، وذلك أني فكرت في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا عمير: ما فعل النغير"، فاستخرجت منه خمسين فائدة إلى الفجر، وكان ذلك أفضل من قيام تلك الليلة.
فتأملوا حال هذا المجتمع الصالح، وما اعتادته ابنة الإمام أحمد من أن قيام الليل هو شأن الصالحين والعلماء؛ ما دعاها لاستنكار أن يكون الشافعي نام إلى الفجر ولم يقم من الليل.
اللهم ألحقنا بهؤلاء الصالحين، واعفُ عنا وتجاوز عما سلف منا من التقصير القبيح والتفريط.
اللهم تبْ على التائبين، واعف عن العصاة المذنبين، واجعل مجتمعنا هذا مجتمعًا مرحومًا، واجعل تفرقنا بعده تفرقًا معصومًا، ولا تجعل فينا شقيًّا ولا محرومًا، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، واجعل خير أيامنا يوم لقائك، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.