البحث

عبارات مقترحة:

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

الوارث

كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

بالإيمان تحفظ الحقوق وتؤدى الأمانات

العربية

المؤلف حسان أحمد العماري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. قصة تبين دور الإيمان في أداء الأمانة .
  2. أمر الشرع بمراعاة أحكامه الحافظة للحقوق .
  3. ثواب أداء الأمانة .
  4. منزلتها .
  5. ما يدخل فيها .
  6. الهدي النبوي في أدائها .
  7. نتائج ضعف الإيمان في قلوبنا .
  8. الخروج من وضعنا بإيقاظ الوازع الديني .
  9. دور المجتمع في إشاعة ثقافة الحقوق .
  10. خيرية الأمة في حفظها للأمانة. .

اقتباس

إن قيام المسلم بأداء الحقوق وحفظ الأمانات يعتبر ثمرة من ثمار الإيمان، وأثراً من آثاره في حياتنا، فالمسلم يعتقد أنه محاسب بين يدي الله على كل عمل يقوم به من خير أو شر، فلا يجوز له الاعتداء على حقوق الآخَرين، ولا ينبغي له أن يخون عهودهم ومواثيقهم معه، قال -صلى الله عليه وسلم-: " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" رواه أحمد والبيهقي.

الحمدُ لله العظيم الشأن، الكبير السلطان، خلق آدمَ من طين ثم قال له كن فكان، أحسن كل شيء خَلْقه وأبدع الإحسان والإتقان، أحمده سبحانه وحمدُه واجبٌ على كل إنسان، وأشكره على ما أسداه من الإنعام والتوفيق للإيمان، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب، مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب.

سهرتْ أعينٌ ونامت عُيُـونُ

في شؤونٍ تكونُ أو لا تكونُ
فاطْرَحِ الهـمَّ مـا اسْتَطَعْتَ فحمـلانُكَ الهُمَـومَ جُنُـونُ
إنَّ ربَّاً كفاك ما كان بالأمْـــ ـــسِ سيكفيـكَ فـي غدٍ ما يكونُ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كثير الخير، دائم السلطان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والبرهان، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه حملة العلم والقرآن، وسلم تسليما كثيراً.

أمَّا بَعْـد: عباد الله: ينقلنا -صلى الله عليه وسلم- إلى عصر من العصور الغابرة ليحدثنا عن قصة وقعت بين رجلين في ذلك الزمان، فــ "ذكر رجلًا من بني إسرائيلَ سألَ بعضَ بني إسرائيلَ أنْ يُسلفَه ألفَ دينارٍ، قال: ائتني بالشُّهداءِ أشهدْهم. فقال: كفى باللهِ شهيدًا، قال: فأتني بالكفيلِ قال: كفى باللهِ كفيلًا، قال: صدقتَ، فدفعها إليه إلى أجلٍ مُسمَّى.


فخرج في البحرِ فقضى حاجتَه ثمَّ التمس مركبًا يركبُه يقدمُ عليه للأجلِ الذي أجلَهُ فلم يجدْ مركبًا فأخذ خشبةً فنقرَها فأدخل فيها ألفَ دينارٍ وصحيفةً منه إلى صاحبِها، ثم زجج موضعَها، ثم أتى بها البحرَ فقال: اللهمَّ إنَّك تعلمُ أني تسلَّفتُ فلانًا ألفَ دينارٍ فسألني كفيلًا فقلتُ: كفى باللهِ كفيلًا فرضِيَ بكَ، وسألني شهيدًا فقلتُ: كفى باللهِ شهيدًا فرضِيَ بِكَ، وإني جهدتُ أنْ أجدَ مركبًا أبعثُ إليه الذي له فلم أقدرْ، وإني استودعتُكَها، فرمى بها في البحرِ حتى وَلجتْ فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمسُ مركبًا يخرجُ إلى بلدِه.


فخرج الرجلُ الذي كان أسلفَه ينظرُ لعلَّ مركبًا قد جاء بمالِه فإذا الخشبةُ التي فيها المالُ، فأخذها لأهلِه حطبًا، فلما نشرَها وجد المالَ والصحيفةَ ثم قدم الذي كان أسلفَه وأتى بالألفِ دينارٍ، فقال: واللهِ ما زلتُ جاهدًا في طلبِ مركبٍ لآتيك بمالِك فما وجدتُ مركبًا قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإنَّ اللهَ قد أدى عنكَ الذي بعثتَه في الخشبةِ فانصرِفْ بالألفِ دينارٍ راشدًا
".

هــذا هو الإيمان، إذا وقر في القلوب صدَّقَه العمل، وقاد صاحبه إلى كل خير، وحفظه من طمع النفوس وجشعها، ومن غمط الحقوق وخيانة الأمانات وتضييعها.

أيها المؤمنون عباد الله: المسلم تربطه علاقات بمن حوله من الناس، وعليه حقوق وواجبات نحوهم، ومن أجل أن تكون هذه العلاقة نافعة ومثمرة وواضحة، وحتى لا تضيع حقوق الآخرين أو يعتدى عليها، شرع الإسلام ضوابط، وسن قوانين وأحكاماً، وأمر المسلم بصيانتها، والحفاظ عليها، والقيام بها.

من ذلك دعوة الإسلام أتباعه لأداء الحقوق وحفظ الأمانات، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58]، وقال -تعالى-: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة:283].

وقد أعد الله على أداء الحقوق وحفظ الأمانات أعظمَ الثواب، فقال -تعالى-: (وَلَّذِينَ هُمْ لأَمَـانَـاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رعُونَ * وَلَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوتِهِمْ يُحَـافِظُونَ * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْورِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ) [المؤمنون:8-11].

إن قيام المسلم بأداء الحقوق وحفظ الأمانات يعتبر ثمرة من ثمار الإيمان، وأثراً من آثاره في حياتنا، فالمسلم يعتقد أنه محاسب بين يدي الله على كل عمل يقوم به من خير أو شر، فلا يجوز له الاعتداء على حقوق الآخَرين، ولا ينبغي له أن يخون عهودهم ومواثيقهم معه، قال -صلى الله عليه وسلم-: " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" رواه أحمد والبيهقي.

فالأمانة وأداء الحقوق من الأخلاق الفاضلة، وهي أصل من أصول الديانات، وهي ضرورة للمجتمع الإنساني، لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، وصانع وتاجر، وعامل وزارع، ولا بين غني وفقير، ولا كبير وصغير، ولا معلم وتلميذ، فهي شرف للجميع، ورأس مال الإنسان، وسر نجاحه، ومفتاح كل تقدم، وسبب كل سعادة.

والأمانة تشمل كل أمور الدين والدنيا؛ فالعبادات والمعاملات، والبيع والشراء، والحياة الزوجية، وتربية الأولاد، والتعلم، وغيرها كثير، من الأمانات العظيمة؛ ولكن حديثنا عن الحقوق المالية والعينية والعهود والمواثيق بين المسلم وأخيه المسلم والتي ظهر بسبب التفريط فيها الكثير من المشاكل بين الناس، وضاعت الكثير من الحقوق، وحدث الكثير من ظلم الآخرين وغمط حقوقهم.

عباد الله: لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس حرصاً على أداء الحقوق وحفظ الأمانات؛ ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما رجع من حجة الوداع جعل مرضُ الموت يشتد عليه يوماً بعد يوم.

ولما اشتدت عليه الحمى، وأيقن النقلة للدار الأخرى، أراد أن يودع الناس، فعصب رأسه، ثم أمر الفضل بن العباس أن يجمع الناس في المسجد، فجمعهم، فاستند -صلى الله عليه وسلم- إليه حتى ارتقى المنبر.

ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: أيها الناس، إنه قد دنا مني خلوف من بين ظهركم، ولن تروني في هذا المقام فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه؛ ولا يقولن قائل إني أخشى الشحناء، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً إن كان له علي، أو حللني فلقيت الله -عز وجل- وليس لأحد عندي مظلمة".

لقد أراد -صلى الله عليه وسلم- بذلك أن يشرع للأمة سنة الحياة الكريمة الآمنة، وأسس العلاقات مع الآخرين القائمة على العدل والحق، واحترام الحقوق، وحفظ الأمانات، والتحلل من المظالم، وهذه كانت صفات المجتمع المسلم الأول.

وانظروا -عبــاد الله-: ماذا حدث لهذه الأمة عندما ضعف الإيمان في القلوب وتعلقت النفوس بالدنيا؟ لقد ظهر عند كثير من أفراد هذه الأمة الجشع والطمع والاعتداء على حقوق الآخرين وممتلكاتهم، وخان الشريك شريكه، وأكل الأخ مال أخيه، وحرمت المرأة من ميراثها، وحدث الظلم من صاحب العمل لعماله، ولم يؤد المسؤول والموظف واجبه، وتنكر الجار لجاره.

وهذه المحاكم والقضايا والخصومات بين الناس شاهدة على ذلك، وكم سفكت من دماء وقطعت من أرحام بسبب ذلك.

ولا خروج من هذا الوضع وعودة الحب والتراحم بين الناس إلا بإيقاظ الوازع الإيماني في النفوس، وتعلم أحكام الشرع، وتربية النفوس على ذلك.

عن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن شخصين اختصما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواريث دائرة بينهما، ليس لأحدهما بيّنه, فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم تختصمون إلي, وإنما أنا بشر, ولعل بعضكم ألحن بحجته من الآخر فأقضي له بنحو مما أسمع, فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه, فإنما أقطع له قطعة من النار يحملها على عنقه يوم القيامة".

فبكى الرجلان, وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أما إذ قلتما فاذهبا واقتسما، وتوخيا الصواب، واستهما, وليحلل كل منكما صاحبه" أخرجه أحمد.

يا الله! ما أجمل الإيمان عندما يوقَظ في القلوب وتذكر به النفوس! فلا ترى إلا خضوعاً للحق، واعترافاً به، وهذا شأن المؤمن.

أما المنافق والعاصي والمسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي فكلما ذكرته بالله أخذته العزة بالإثم، قال -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة:206].

وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأيمان الكاذبة لأخذ حقوق الناس والاعتداء عليها، وما أكثرها في حياتنا اليوم! عن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاري الحارثي -رضي اللّه عنه- أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له النار وحرم عليه الجنة". فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول اللّه؟ قال: "وإن كان قضيباً من أراك" رواه مسلم.

عباد الله: وإن من أعظم الأمانات والحقوق الواجب أداؤها الودائع التي أمنك الناس عليها، وقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلّها، إلا الأمانة".

ثم قال: "يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثّل له الأمانة كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج زلّت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين" حسنه الألباني في صحيح الترغيب.

فإذا أمنك أخوك على حق بينك وبينه ولم يكن هناك كتابة ولا رهن ولا إشهاد, ولكنه أمنك وأطمأن لإيمانك وصدقك, فإياك أن تخونه! قال -تعالى-: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) [البقرة:283].

اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.

الخطبة الثانية:
 

عباد الله: إن للمجتمع وأفراده ومؤسساته دورا كبيرا في إشاعة ثقافة احترام الحقوق، وحفظ الأمانات، وعدم التعدي على ممتلكات الآخرين وحقوقهم، فلا بد من القيام بالنصح والتوجيه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم، والبعد عن المداهنة والمجاملة والنفاق، فالتعيس من يبيع دينه وأمانته وأخلاقه بدنيا غيره.

قال -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى أخاه فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض".

ثم قال: "(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) [المائدة:78-80]".

ثم قال: "كلا والله! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم" رواه أبو داوود والترمذي وقال حديث حسن.

لقد أتت شريكاً القاضي امرأة وهو في مجلس الحكم فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، قال من ظلمك؟ قالت الأمير موسى بن عيسى، كان لي بستان على شاطئ الفرات فأخذ حقي.

فكتب القاضي رسالة طلب فيها من الأمير أن يحضر إلى مجلس القضاء، فأخذ الرسالة الحاجب ودخل بها على موسى فأعلمه، فبعث بصاحب الشرطة إليه وقال: قل له: يا سبحان الله! امرأة ادعت دعوى لم تصح، أعديتها علي!.

فلما جاءه وبلغه ما قاله موسى قال شريك لمن حوله: خذوا بيده، وأمر بحبسه، وبلغ الخبر موسى، فوجه حاجبه، فلما جاءه ألحقه بصاحبه في الحبس.

فبعث موسى بن عيسى الأمير إلى جماعة من وجهاء الكوفة وقال لهم: امضوا إليه، فقد استخف بي، فمضوا إليه -وهؤلاء هم أعوان الظلمة ومن يزينون لهم المنكر- فجاؤوه وهو جالس في مجلس القضاء، فلما بلغوه رسالة الأمير أمر بحبسهم، قالوا: ولما تحبسنا؟ قال: حتى لا تحملوا رسالة ظالم بعد اليوم.

كم ضاعت في أيامنا بسبب الواسطة واستغلال المنصب من حقوق، وأهدرت من أموال، وضيعت من أمانات!.

فلما علم الأمير بالأمر غضب لذلك، وركب إلى الحبس بجيشه ليلاً فأخرجهم، فبلغ شريكاً ما فعل، فجهز متاعه وخرج قاصدا بغداد ذاهبا إلى الخليفة، فارتاع موسى لذلك، وركب في موكبه ليعيده، فلحقه بقنطرة الكوفة، فجعل يناشده الله، ويقول: ارجع ولك ما تريد! فقال شريك القاضي: لست براجع حتى يردوا إلى الحبس جميعاً، وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور فاستعفيته من أمر القضاء، فأمر موسى بردهم إلى الحبس.

وجاء السجان فأخبر شريكا بذلك، فأمر أعوانه أن يذهبوا بموسى إلى مجلس الحكم، وأن يخرجوا أتباعه من الحبس.

ثم جلس له وللمرأة، وحكم عليه برد حائطها؛ فلما استجاب لأمره قام فأجلسه إلى جنبه وقال: بماذا تأمر أيها الأمير؟ قال: بعد هذا كله؟ قال: ذاك حق الله، وهذا حق السمع والطاعة، فحقوق الآخرين لا مداهنة فيها.

وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ الله أذل الله له عظماء خلقه.

عباد الله: إن خيرية هذه الأمة وصلاح أمرها يكمن في قوة إيمانها، وخشيتها من الله، ومراقبته -سبحانه وتعالى-، وإن تقوية الوازع الإيماني في نفوس أبنائها هو السياج القوي، والحصن المنيع من وساوس النفس والشيطان.

وعلى الأمة أفراداً ودولاً وشعوباً ومجتمعات أن تقوم بواجباتها، والتي من أعظمها شأناً قيامها بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]. فاللهم ردنا إلى دينك رداً جميلا.

ثم اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- قال قولاً كريماً، تنبيهاً لكم وتعليماً وتشريفاً لقدر نبيه وتعظيماً: (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وارض اللهم عن بقية الصحابة والقرابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين.

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين... والحمد لله رب العالمين.