العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
ولئن كانت بلاد الشام قد اعتراها من التقصير ما اعتراها, فإن الثناء من المصطفى صلى الله عليه وسلم ثابت, لكنه لأقوامٍ ظلوا على الدين الحق, وهم موجودون, ولئن أريد لتلك البلاد النكوص عن درب الريادة حين سُلط عليها النصيرية والدروز والنصارى واليهود أيضاً, فإن ذلك أمر هو إلى أن يزول قريب ..
لا تكاد الأحداث تخبو في جهة حتى تشتعل في أخرى, ولا تنتهي بلد من لظى النار إلا وتلتهب في صقع آخر من بلاد المسلمين, هكذا هي الحال منذ أشهر قريبة, ولا أحد يدري على ماذا ستنجلي الأمور في بلاد المسلمين.
ولكننا على ثقة بتدبير ربنا, ونحن على رضا وتسليم لأمره, وعلى يقين بأن الأمور ستنجلي -وقريباً بإذن الله- على ما فيه خير للإسلام في كل مكان, إلا أن ذلك الأمر -الذي هو عز الإسلام وعودة الدين- يحتاج لصبر, ولذلك الأمر ضحايا, وله تبعات، ودونه عقبات.
الوضع في ليبيا لم تخبُ ناره, والوضع في اليمن ما زال اضطرابه, وبعد ذلك لحقت بلاد الشام بالركب, وحصل فيها ما حلّ بالبلدان من حولها, اعتصامات ومظاهرات, ونداءات وثورات, وبعد ذلك قتل وانتهاكات, وأحوال وقعت هناك يندى لها الجبين, ومشاهد تحزن المسلمين.
أرض الشام -أيها الكرام- لها شأن في تاريخ المسلمين, ولها فضيلة عندهم, فهي الأرض المباركة التي قال الله: (وَنَجَّينَاهُ وَلُوطًا إِلى الأَرضِ الَّتي بَارَكنَا فِيهَا لِلعَالمِينَ) [الأنبياء:71].
أرض الشام حاضنة الإسلام, وخيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده, كما في الحديث, أهل الشام إذا فسدوا فلا خير فينا, أرض الشام تكفل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بها, وقال صلى الله عليه وسلم -كما في السنن-: "فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَد تَكَفَّلَ لي بِالشَّامِ وَأَهلِهِ" رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ, ويكفي الشامَ فضلاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" طُوبى لِلشَّامِ"، قِيلَ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "إِنَّ مَلائِكَةَ الرَّحمَنِ بَاسِطَةٌ أَجنِحَتَهَا عَلَيهَا" رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
ولئن كانت بلاد الشام قد اعتراها من التقصير ما اعتراها, فإن الثناء من المصطفى صلى الله عليه وسلم ثابت, لكنه لأقوامٍ ظلوا على الدين الحق, وهم موجودون, ولئن أريد لتلك البلاد النكوص عن درب الريادة حين سُلط عليها النصيرية والدروز والنصارى واليهود أيضاً, فإن ذلك أمر هو إلى أن يزول قريب.
عباد الله: وحين شب ضرام النار هناك, واشتعل أوارها، تساءل الكثيرون عن عقيدة النصيرية التي يتبناها النظام الحاكم هناك ويدين بها، ما هي؟ وهل هي جديدة على أهل الإسلام, وما خطرهم؟ وقبل الحديث عن أي شيء لا بد من بيان هذا.
فالنصيرية حركة باطنية, تنسب إلى محمد بن نصير البكري النميري, وأصحابها يُعَدُّون من غلاة الشيعة, وعندهم من الضلالات ما يزيدون به على الرافضة الاثني عشرية في إيران وغيرها, مقصدهم هدم الإسلام ونقض عراه، وهم مع كل غاز لأرض المسلمين، ولقد أطلق عليهم الاستعمار الفرنسي لسوريا اسم العلويين، تمويهاً وتغطية لحقيقتهم الرافضية والباطنية.
من أهم معتقداتهم وأصولهم تأليههم لعلي بن أبي طالب, وأن الله حلّ فيه, ويعتقدون أن علياً خلق محمدا صلى الله عليه وسلم! و يبغضون الصحابة بغضاً شديداً، ويلعنون أبا بكر وعمر وعثمان أجمعين, ويزعمون بأن للعقيدة باطنا وظاهراً، وأنهم وحدهم العالمون بباطن الأسرار، وقد استمدوا عقيدتهم من الوثنيين ومن النصارى وغيرهم, فأعرضوا عن الدين الحق, وصاروا أشد ضرراً على أهله من اليهود والنصارى.
وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء النصيريين لا تجوز مناكحتهم، ولا يُصَلَّى على من مات منهم، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا يجوز استخدامهم في الثغور والحصون, وقال ابن تيمية: هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية -هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية- أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل التتار والفرنج وغيرهم... قال: وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار. اهـ.
أيها الكرام: إن أرض الشام لم تغب عنها رائحة الدم بعد, فالجميع هناك يذكر أحداثاً وقعت قبل قرابة ثلاثين سنة, إنها أحداث حماه ضد المسلمين السُّنَّة من قبل النظام النصيري, تلك الفاجعة التي سكت عنها الإعلام آنذاك, وتكتم عليها العدو, وراح ضحيتها عشرات الآلاف من أهل السنة, كان ذلك في عام 1982م, حين صارت المدينة موئلاً للإخوان المسلمين, وخشي النظام من انتشار الدعوة, ومن تهديد كرسي الحكم, فطُوِّقَت المدينة, وقصفت بالصواريخ وغيرها أياماً.
وبعد ذلك دخل الجيش وقد أعطي كامل الصلاحية, يقوده ضباط حاقدون على الإسلام, ومنهم من أجبر على تلك الفعال من قبل قادة النظام, قال أحدهم: كنا نقتل كل من يقابلنا من الذكور من خمس عشرة سنة إلى سِنِّ سبعين, وكنا نخرج الرجال من البيوت, ثم نجمعهم فنقتلهم مباشرة بلا أي تهمة, نقتل في اليوم ما يقرب من ألف رجل, وبرغم توسلات النساء والأطفال كانت قلوبنا أقسى من الحجر, وفعلنا في تلك الأيام ما لم يفعله اليهود, قتلنا الأبناء أمام الآباء, والآباء أمام الأولاد, والرجال أمام النساء, وبعد أيام خلت المدينة من الرجال أو كادت, وتركت خراباً وفي كل بيت باكٍ.
تقول التقديرات إنه قُتل في تلك المجزرة أربعون ألفاً أو أكثر, وأُسِر قرابة ثلاثين ألفاً، ولم يعرف لهم خبر بعد ذلك؛ ولا يزال أهل الشام -بل وأهل الإسلام في كل مكان- يذكرون تلك المأساة, التي أبانت الحقد النصيري على أهل السنة.
ولم تكن تلك المجزرة هي الوحيدة, فقبلها وبعدها أحداثٌ ضد الإخوان بالخصوص، وأهل السنة بالعموم, وكان من ضمن القرارات التي أقرت وعمل به وإلى عهد قريب أن الانتساب إلى جماعة الإخوان جريمة عقوبتها القتل.
واليوم -أيها الكرام- وقد انتفض أهل الشام, ولحق الناس هناك بركب الثورات السلمية كما يقال, ورفعت شعارات رفع الظلم والمطالبة بالحرية، أماط النظام اللثام عن حقد دفين, وقتل مشين, وأريقت دماء مئات من المسلمين وغيرهم, وشهدت بعض المدن حصاراً وتجويعاً لكسر الإرادة, وتخويف الناس, وسحق المــــُخالف, ولا يُدرَى ما تحمله الأيام القادمة من أحداث.
وهنا، وأمام كل الشدائد, وتجاه رجع صدى الناس هناك حين يطلبون الغوث والمدد من الغرب والشرق, فينبغي التذكير لنا ولإخواننا في كل مكان بأن لا ننتظر العون من عدو كافر لا ينظر إلا إلى مصالحه, ويفسد أكثر مما يصلح, بل نطلب العون من الركن الشديد, من رب العبيد, ممن لا يعجزه شيء, وهو الناصر ولو حال الخلق كلهم دون نصره, وهو المحيط وإن أحاط العدو بالناس من كل جانب, وهو السميع البصير وإن أخفى النظام جرائمه, وقطع الاتصال لئلا تسمع الأصوات, إن الله قوي ولن تعجزه قوة, فهلا صدق المسلمون في كل مكان إلى الاعتماد عليه.
ما أحوج أهل تلك البلاد إلى أن يكون الهدف رفعَ الظلم وإصلاح أمر الدين! ولئن كان في رفع الشعارات الإسلامية الصريحة تجييش للعدو ضد هذه الثورة فإن مما ينبغي أن لا ترفع شعارات وثنية, أو جاهلية, أو محرمة.
والشدائد يعقبها فرج, والأمة في كثير من أنحائها ليست تعيش فترة ثورات فقط, بل هي في لحظات تغير تاريخ, وتحول مسار, والمؤمل أن يكون ذلك المسار في صالحها, وأن تكون الأحداث مقدمة لنصر الدين.
الخطبة الثانية:
معشر الكرام: إننا حين نتحدث عن أحوال المسلمين في سوريا، أو الوضع في ليبيا، أو الصراع في اليمن, فإننا في حقيقة الأمر نتحدث عن أنفسنا, فالأمة جسد واحد, وإن فرقت بينه الحدود, والجسد السليم يحس بالألم إذا أصيب بعض أطرافه, والأمة هي كالجسد الواحد, أو هكذا ينبغي أن تكون.
نتحدث عن أحوال المسلمين لنذكر أنفسنا بالدعاء لرفع الكرب والبلاء, وكم نغفل عن الدعاء لإخواننا, وهو من الواجبات علينا, فما هو نصيب إخواننا الذين حلت بهم الكربات, واشتدت عليهم الأزمات، ما نصيبهم من خالص الدعوات؟ ولا يوجد من يحول دونك ودون الدعاء, وهو أمضى الأسلحة، وأنجع الأدوية بإذن الله.
نتحدث عن أوضاع إخواننا ليتبين لنا حقيقة الصراع العقدي بين أهل السنة وغيرهم, وروعة التعامل مع المخالف عند أهل السنة بخلاف غيرهم, فالنصيرية في سوريا, والرافضة في العراق وإيران والبحرين, والحاكم الذي كفره العلماء في ليبيا,لم يكونوا يألون جهداً في قتل كل مسلم إذا خالفهم, وهكذا يكون التعامل مع المخالف عندهم, أما في تعاليم الإسلام فإن المسلم يؤمر بالتعامل الحسن حتى مع الكافر, بل وينهى عن إراقة دم حتى الحيوان بلا حاجة, وأما دم الكافر فالإسلام يحقنه ما لم يكن حربياً, وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة".
نتحدث بذلك أيها الكرام لنذكّر أنفسنا بنعمٍ عندنا قد لا نعرف قدرها، وننسى استشعارها, فالأمن، وتيسر الغذاء, وتعبدك لربك بلا خوف, ووجود الحاكم الذي على ملتك، نعمٌ لا تقدر بثمن.
وبعد -أيها الكرام-: فعلى رغم شدة الأحداث, وسقوط القتلى، وسيلان الدماء، فنحن على ثقتنا بوعد ربنا, وعلى يقين بأن نصره قريب, وأن الأحداث ستنجلي على خير بإذن الله, وإن المسلمين في هذه البلاد وفي بلاد الشام وفي كل مكان إذا أرادوا صلاح أمرهم فليصلحوا الصلة مع ربهم أولاً وآخراً.
وأما بلاد الشام فلهم دعاؤنا أن يحفظ الله دماءهم, وأن يرد كيد من كادهم, وأن يجعل العاقبة لأهل الإيمان, وَإِنَّ أَرضًا عَاشَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ، وَثُغُورًا رَابَطَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الأَبطَالِ وَالمُجَاهِدِينَ، وَمُدُنًا أَخرَجَت أَفذَاذًا من العُلَمَاءِ وَالمُصلِحِينَ، كَابنِ تَيمِيَّةَ وَابنِ القَيِّمِ وَابنِ كَثِيرٍ، وَبِلادًا عَاشَ فِيهَا كِبَارٌ كَالأَوزَاعِيِّ وَابنِ قُدَامَةَ والذَّهَبيِّ، وَاحتَوَت مَا لا يُحصَى مِن أَربِطَةِ العُلَمَاءِ وَأَوقَافِ المُحسِنِينَ، وَازدَهَرَت بها مَكتَبَاتُ العِلمِ، وَحُفِظَت فِيهَا المَخطُوطَاتُ، إِنَّهَا لَن تَعجَزَ أَن تَلِدَ رِجَالاً يُعِيدُونَ لها سَابِقَ مَجدِهَا، وَغَابِرَ عِزِّهَا.
والأَحَادِيثُ تُبَشِّرُ بِزَوَالِ البَاطِلِ وَظُهُورِ الحَقِّ، وَالأَيَّامُ دُوَلٌ، (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج:40-41]