الباسط
كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...
العربية
المؤلف | فواز بن خلف الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
على ثرى طيبة تأسست أول دوله في الإسلام، تحمل كلمة التوحيد عقيدةً وسلوكاً ومنهج حياة، على ثراها تآخى المهاجرون والأنصار؛ إنها طيبة التي ضمت في أحشائها رهط السابقين من الرجال المؤمنين الذين خرجوا من رحابها إلى الدنيا الواسعة، ففتحوا الأنصار، وعمرو الديار، ونشروا العدل، وملؤوا الأقطار، تقدماً وعلماً ورخاءً. بلدةٌ آمِنة، ومدينة ساكنة، لا يُهراق ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده...
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-...
أيّها المسلمون: تتفاوت البلدان والأوطانُ شرفًا ومكانة، وعلوًّا وحرمَة، ومجدًا وتأريخًا، وتأتي المدينة النبويّةُ بلد المصطفى، أرضُ الهجرة ودار الإيمان، وموطِد السنّة في المكان الأعلى، والموطن الأسمى، هي بعدَ مكّةَ سيّدة البلدان، وثانيتها في الحرمة والإكرام، والتعظيم والاحترام.
وقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن مكة وشيء من فضائلها، واليوم نتحدث عن مدينة رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم- التي قامت فيها الدّولة النبوية، والخلافة الإسلاميّة، وصدَق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "أمِرتُ بقريةٍ تأكل القرى، يقولون: يثربُ، وهي المدينة" [متفق عليه].
دارةُ المحاسن، ودائِرة الميامن، طيبة الغرّاء، وطابةُ الفيحاء، توسِع العينَ، قرّة والنفسَ مسرّة، الفضائل مجموعةٌ فيها، والإيمان يأرِز في نواحيها؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الإيمانَ ليأرِز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها" [متفق عليه].
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله: "إنّ الإسلامَ بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجِدين كما تأرز الحيّة إلى جحرها" [أخرجه مسلم].
وعند الحاكم والبيهقيّ من حديث جابر - رضي الله عنه - أنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ليعودَنَّ كلّ إيمان إلى المدينة، حتى يكونَ كلّ إيمانٍ بالمدينة".
هي متنفَّس الخواطِر، ومَرتع النواظر، بلدةٌ معشوقَة السّكنى طيِّبة المثوى، سكنُها مع الإيمان شرفٌ بالغ، واستيطانها مع التّقوى عزٌّ شامخ؛ فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنّ النبيّ-صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن استطاعَ أن يموتَ بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها" [أخرجه أحمد والترمذيّ وابن ماجه].
وعند النسائيّ من حديث صُمَيتة: "مَن مات بالمدينة كنتُ له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة".
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "اللهمَّ ارزُقني شهادةً في سبيلك، واجعَل موتي في بلدِ رسولك محمّد" فحقق الله له ما تمنى لصدقه - رضي الله عنه -.
فيا هناءَةَ ساكنيها، ويا سعادة قاطنيها، ويا فوزَ من لزم الإقامةَ فيها، حتى جاءته المنيّة في أراضيها.
في البعدِ عنها يهيجُ الشّوق إليها، ويتضاعَف الوَجد عليها، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا قدِم مِن سفر ونظر إلى جُدُراتها ودوحاتها ودرجاتها أوضع راحِلته، وحرّكها واستحثّها، وأسرع بها لحبِّه لها.
فهي حبيبة المحبوب القائل: "اللهمّ حبِّب إلينا المدينةَ كحبِّنا مكّة أو أشدّ" [متفق عليه].
ولا غروَ فهي دارُه ومهاجَره، فيها نصِب محرابه، ورُفع منبره، وفيها مضجعه، ومنها مبعثه، وفيها أحُدٌ جبلٌ يحبّنا ونحبّه، بلده البديع، ودِرعه المنيع، وحِصنه الرفيع، يقول عليه الصلاة والسلام: "رأيتُ أني في دِرعٍ حصينة، فأوّلتها المدينة" أخرجه أحمد].
على ثرى طيبة تأسست أول دوله في الإسلام، تحمل كلمة التوحيد عقيدةً وسلوكاً ومنهج حياة، على ثراها تآخى المهاجرون والأنصار؛ إنها طيبة التي ضمت في أحشائها رهط السابقين من الرجال المؤمنين الذين خرجوا من رحابها إلى الدنيا الواسعة، ففتحوا الأنصار، وعمرو الديار، ونشروا العدل، وملؤوا الأقطار، تقدماً وعلماً ورخاءً.
بلدةٌ آمِنة، ومدينة ساكنة، لا يُهراق فيها دم، ولا يحمَل فيها سلاحٌ لقتال؛ فعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال: أهوى رسول الله بيده إلى المدينة فقال: "إنها حَرَم آمِن" [أخرجه مسلم].
لا يكيد أهلَ المدينة أحَد أو يريدهم بسوءٍ أو شرّ إلا انْماع كما ينماع المِلح في الماء، يقول رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم-: "مَن أخاف أهلَ المدينة ظُلمًا أخافه الله - عز وجل -، وعليه لعنة الله والملائكةِ والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يومَ القيامة صرفًا ولا عدلاً" [أخرجه أحمد].
ويقول عليه الصلاة والسلام: "مَن أخاف أهلَها فقد أخاف ما بين هذين" وأشار إلى ما بين جنبيه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه[أخرجه ابن أبي شيبة].
ومِن مناقبها المأثورَة وفضائِلها المشهورة: أنها محفوظةٌ مصونة، محروسة محفوفة، لا يدخلها رُعب الدّجال ولا فزعُه، ولا يرِدها ولا تطؤُها قدمه، محرَّم عليه أن يدخل نقابها، أو يلِج أبوابها، يريدُها فلا يستطيعها، الملائكةُ على أنقابها وأبوابها، وطرُقها ومحادّها صافّون بالسّيوف صلتة، يحرسونها ويذبّونه عنها؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "على أنقابِ المدينةِ ملائكةٌ، لا يدخلها الطاعون ولا الدّجال" [متفق عليه].
ويقول عليه الصلاة والسلام: "يأتي المسيحُ من قِبل المشرق همّتُه المدينة، حتى ينزل دُبُر أحُد، ثمّ تصرف الملائكة وجهَه قِبَل الشام، وهناك يهلك" [أخرجه مسلم].
إذا خرج الدجالُ فإن المدينة ترجف بأهلها ثلاثَ رجفات، فيخرج إليه كلّ منافق ومنافقةٍ، وكلّ كافر وكافرة، وكلّ مشرك ومشركةٍ، وصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم السّاعة حتى تنفِيَ المدينة شِرارها كما ينفي الكير خبثَ الحديد" [أخرجه مسلم].
هي حرام ما بين لابَتَيها، وحرَّتَيها وجبَليها ومأزِميها لا ينفَّر، ولا يُصاد صيدها، ولا يؤخَذ طيرها، ولا يعضَد شوكها، ولا يخبَط شجرها، ولا يُقطع عِضاهها، ولا يختلى خَلاها، ولا تؤخَذ لقطتُها إلا لمن يعرِّفها، يقول رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم-: "إنّ إبراهيمَ حرّم مكّة، وإني حرّمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطَع عضاهها، ولا يصاد صيدها" [أخرجه مسلم].
يقول عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: كان أبو سعيدٍ يجِد أحدَنا في يده الطير قد أخذَه، فيفكّه من يدِه ثمّ يرسلِه [أخرجه مسلم].
ومَن أظهرَ فيها بدعةً، أو حدَثًا، أو شِركًا، أو آوى زانيًا، أو مبتدِعًا؛ فقد عرّض نفسه للوعيد الشديد، واللّعن الأكيد، يقول رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم-: "المدينة حرَم ما بين عَير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يومَ القيامة صرفًا ولا عدلاً" [متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -].
ومَن اعتقد جوازَ الطواف بالقبور، أو التبرّكَ بتربتها، أو الاستشفاءَ بها، أو التوسّل بأصحابها أو نداءَها، ودعاء أهلها فقد اعتقد باطلاً، وأتى حادِثًا منكرًا.
ومَن اعتقد أنّ البركة إنما تحصُل بمسحِ جدار،ٍ أو عمودٍ، أو باب، أو تقبيل مِنبرٍ ومحراب، فقد جانب الصّواب، وخالف السنّة والكتاب، وعليه الكفّ عن ذلك والتّوبةُ، وعدم العودة.
أيّها المسلمون: في سُكنى المدينة النبويّة من الفوائدِ الشرعيّة، والعوائد الأخرويّة، والمصالح الدينية، والسعادة النفسية، ما يستحقَر دونها كلّ عيش واسع ورغدٍ ورفاه في غيرها من البلدان والأوطان؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "يأتي على النّاس زمان يدعو الرجل ابنَ عمّه وقريبه: هلمّ إلى الرخاءِ هلمّ إلى الرخاء، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرجُ منهم أحدٌ رغبةً عنها إلا أخلفَه الله فيها خيرًا منه" [أخرجه مسلم].
ويقول عليه الصلاة والسلام: "ليسمعَنَّ ناسٌ برُخصٍ من أسعار ورزق، فيتبعونه، والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون" [أخرجه البزّار والحاكم وصحّحه].
الصلاةُ في مسجدها مضاعفة الجزاء، فرضًا ونفلاً، في أصحّ قولي العلماء؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلاّ المسجد الحرام" [متفق عليه].
وفي المسجِد النبوي المبارك بُقعة هِي روضة من رياض الجنّة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: "ما بين بيتي ومِنبري روضةٌ مِن رياض الجنّة، ومنبري على حوضي" [متفق عليه].
وعند أحمد: "ومنبري هذا على تُرعة من ترَع الجنة".
وعند النسائي: "إنّ قوائم منبري هذا رواتب في الجنّة".
وثبت الفضلُ في الصلاة في مسجدِ قباء عن المبعوث في أمّ القرى؛ فعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "مَن تطهّر في بيته ثم أتى مسجدَ قباء فصلّى فيه صلاةً كان له كأجر عمرة" [أخرجه ابن ماجه].
ولا يقصَد في أوقات النهي لكونها أوقاتًا يُنهى عن التنفّل فيها.
ولا يُزار في المدينةِ النبويّة من المساجِد سِوى هذين المسجدين: مسجدِ رسول الله ومسجد قباء.
ولا يشرع للزائر ولا لغيره قصد بقاع بعينها، يرجو الخير بقصدها أو التعبد عندها لم تستحبَّ الشريعة قصدتها، وليس من المشروع تتبع مواطن أو مساجد صلى فيها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أو غيره من الصحابة الكرام لقصد الصلاة فيها، أو التعبد بالدعاء، ونحوه عندها، وهو لم يأمر بقصدها، ولم يحث على زيارتها؛ فعن المعرور بن سويد - رحمه الله تعالى - قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: "ما شأنهم؟!" فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله، فقال عمر: "أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بيعًا، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض" [أخرجه ابن أبي شيبة]، ولما بلغ عمر بن الخطاب أن ناسًا يأتون الشجرة التي بُويع تحتها النبي أمر بها فقطعت[أخرجه ابن أبي شيبة].
أيها المسلمون: وشرع لزوار المسجد النبوي من الرجال زيارةُ قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، للسلام عليهم والدعاء لهم، أما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور في أصح قولي العلماء لما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرج].
ولما رواه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لعن زوارات القبور.
وصفة الزيارة للرجال: أن يأتي الزائر القبر الشريف فيستقبله بوجهه، ويقول: "السلام عليك يا رسول الله"، ثم يتقدم إلى يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر ويقول: "السلام عليك يا أبا بكر"، ثم يتقدم قليلاً إلى يمينه قدر ذراع للسلام على عمر بن الخطاب فيقول: "السلام عليك يا عمر".
وكما يستحب زيارة أهل البقيع والسلام عليهم والدعاء لهم.
أيّها المسلمون: البركةُ في المدينة حالّة في صاعِها ومدِّها ومكيالها وثمرِها وقليلها وكثيرها، دعا لها النبي –صلى الله عليه وسلم- بالبركة وقال: "اللهمّ اجعَل في المدينة ضعفَي ما بمكة من البركة" [متفق عليه].
"مَن تصبّح كلَّ يومٍ سبعَ تمرات عجوةٍ لم يضرَّه في ذلك اليوم سمّ ولا سحر"
قدِم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المدينةَ وهي أرض وباء ومرَض وبلاءٍ، متغيّرةُ الماء، فاسدةُ الهواء، قتّالة الغرباء، كثيرة الأنداء، زائرُها محموم، وقاطنها موعوك موخوم، أخذَتِ الحمّى فيها أبا بكر وبلال وعائشةَ أمَّ الأفضال، فدعا رسول الله ربَّه أن يصحِّحها، وأن ينقلَ حمّاها إلى الجُحفة، فاستجاب الله منه الدّعاء، وحقّق له النداء، ففي البخاري من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنّ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيتُ كأنّ امرأة سوداء ثائرة خرجت مِن المدينة حتى قامت بمهيَعة وهي الجُحفة، فأوّلتُ أنّ وباءَ المدينة نُقِل إليها" [أخرجه البخاري].
قال ابن حجر: "فعادَت المدينة أصحَّ البلاد بعد أن كانت بخلاف ذلك".
مَن صبر على لأوائِها وبلوائِها وغِمار شدّتها وغلوائها نال السّعودَ، وتحقّق له الفضلُ الموعود، ألا وهو شفاعة صاحبِ المقام المحمود، والحوضِ المورود؛ فعن عبد الله بنِ عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسولَ الله يقول: "مَن صبر على لأوائها وشدَّتها كنتُ له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة" [أخرجه مسلم].
وعن أبي سعيد مولى المهري أنّه جاء أبا سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - لياليَ الحرّة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرةَ عياله، وأخبره أنّه لا صبرَ له على جَهد المدينة ولأوائها، فقال له أبو سعيد: ويحك! لا آمرُك بذلك، إني سمعت رسول الله يقول: "لا يصبر أحدٌ على لأوائها فيموت إلا كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا يومَ القيامة إذا كان مسلِمًا" [أخرجه مسلم].
هذه هي المدينةُ، فضائلها لا تحصى، وبركاتها لا تستقصى، ومع ذلك كلّه فسيأتي عليها زمان في آخر الأزمان عند قيام الساعة يقول فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-: "تتركون المدينةَ على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العواف -يريد عوافيَ السباع والطير -وآخِر من يحشَر راعيان من مزينة يريدان المدينةَ ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحوشًا، حتى إذا بلغا ثنيّة الوداع خرّا على وجوههما" [متفق عليه].
فاغتنموا -يا رعاكم الله- فيها الأوقات، واستكثِروا من الصالحات والحسنات.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وإخوانِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد:
فيا أيّها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: إن فضائل المدينة لا تتناهى، ولتعلموا أن زيارة المدينة النبوية، إنما يقصد فيها زيارة المسجد النبويّ، وأداء الصلاة فيه، ولا تقصد لزيارة قبره ابتداءً، فالرّحال لا تشدّ إلا للمساجد الثلاثة، ولا تشد الرحال لزيارة قبر النبي –صلى الله عليه وسلم-، وزيارة المسجد النبوي سنة وليست واجبًا من الواجبات، وليس لها علاقة بالحج ولا هي له من المتمِّمات له، وكل ما يُروى من أحاديث في إثبات علاقتها أو علاقة زيارة قبر المصطفى بالحج فهو من الموضوعات والمكذوبات.
وليحذر الزائر الوقوع في المخالفات البدعية، والمنكرات الشركية، التي يقع فيها بعض المسلمين؛ كدعاء الرسول، أو ندائه، أو الاستغاثة به، أو الاستعانة به؛ كقول بعضهم: "يا رسول الله اشف مريضي، يا رسول الله اقض ديني، يا وسيلتي، يا باب حاجتي" أو غير ذلك من الأقوال الشركية، والأفعال البدعية، المضادَّة للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
وكالوقوف أمام القبر كهيئة المصلي، بوضع اليمين على الشمال على الصدر، أو تحته، فإنه فعل محرّم؛ لأن تلك الهيئة هيئة ذل وعبادة لا تجوز إلا لله - عز وجل -، أو الانحناء عند القبر أو السجود أو غير ذلك مما لا يجوز فعله إلا لله،
ومن ذلك دعاء الله عند القبر، أو اعتقاد أن الدعاء عنده مستجاب، وذلك فعل محرَّم لأنه من أسباب الشرك وذرائعه.
ومن المخالفات البدعية: إرسال من عجز عن الوصول إلى المدينة سلامه لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- مع بعض الزوار، وقيام بعضهم بتبليغ هذا السلام، وهذا فعل مُبتدع، وأمر مخترع، فيا مرسل السلام، ويا مبلغه، كفّا عن ذلك، فقد كُفيتما بقوله: "صلوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم".
وبقوله عليه الصلاة والسلام: "إن لله في الأرض ملائكة سياحين يبلِّغوني من أمتي السلام" [أخرجه أحمد].
ومن المخالفات: التكرار والإكثار من زيارة قبره، كأن تكون الزيارة بعد كل فريضة، أو في كل يوم بعض فريضة بعينها، وفي هذا مخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجعلوا قبري عيدًا".
قال ابن حجر الهيتمي في شرح المشكاة: "العيد اسم من الأعياد، يقال: عاده واعتاده وتعوّده صار له عادة، والمعنى: لا تجعلوا قبري محلاً لاعتياد المجيء إليه متكررًا تكرارًا كثيرًا، فلهذا قال: "وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" فإن فيها كفاية عن ذلك" انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.
ومن ذلك: التوجه إلى قبره الشريف من كل نواحي المسجد، واستقباله له كلما دخل المسجد، أو كلما فرغ من الصلاة، ووضع اليدين على الجنبين، وتنكيس الرؤوس والأذقان أثناء السلام عليك في تلك الحال، وهذه من البدع المنتشرة، والمخالفات المشتهرة.
فاتقوا الله -عباد الله-، واحذروا سائر البدع والمخالفات، واحذروا الهوى والتقليد الأعمى، وكونوا من أمركم على بينة وهدى، قال جل في علاه: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ)[محمد: 14].
أيّها المسلمون: ينبغي لساكنِ المدينة وزائرها أن يُعرَف بحسن سيرته، وصلاحِ سريرته، وصفاءِ قلبه وطهارته، وأمانتِه وعفّته، وصدقِ لسانه وحديثه، مجافيًا مستقبَح الفعال، مجانبًا فاحشَ الأقوال، وعلى ساكنيها أن يكونوا أوفياءَ لها أمناءَ عليها غيارى على حرمتها، فلا يدنّسوها بقذَر المحرّمات، ونتن القنوات والفضائيات، ودنَس المخالفات، وعلى المجترئين على حرمتها وقداستها ممّن أتَوا من الأخلاق قبائحَها، وأظهروا من الأفعال فضائحَها، انتهاكًا لحقّ الحرم ومكانته، واستخفافًا بعظمتِه وحرمته، واغترارًا بالمسامحة والتّجاوز، ورجاءَ العفو والمغفرة، عليهم أن يتّقوا الله -عز وجل- وأن يرعوُوا، ويقصروا، ويتوبوا ويرجعوا، وأن يستشِعروا أنهم في أرضٍ درج عليها رسول الله وصحابته الكرامُ، وعاشوا فيها بالهدى والتقى، فاللهَ اللهَ في اقتفاء آثارهم وسلوكِ منهاجهم والسيرِ على طريقتهم.
رزقنا الله جميعًا فيها حسنَ الأدب، وغفر لنا جميعًا الخطأ والزّلل، وتجاوز عنّا جميعًا بعفوه ومغفرته.
أيها الإخوة في الله: إنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلثّ بكم أيّها المؤمنون من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الراشدين.