المقيت
كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...
العربية
المؤلف | هشام عبد القادر آل عقدة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فالله –سبحانه- أخرج العبد من بطن أمه فقيرًا من كل شيء، لا يعلم شيئًا ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئًا، ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره في تلك الحال أمرًا مشهودًا محسوسًا لكل أحد، لا ينكره ولا يجادل فيه أي مجادل ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن العبد ينبغي أن يكون له في كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله -عز وجل- وهجرة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-: هجرة إلى الله بالطلب والسعي إليه للاقتراب منه، وبالمحبة والاشتياق إلى ذكره وإلى لقائه، وبالعبودية والتوكل عليه، والإنابة والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه، وصدق اللجأ والافتقار في كل نفس إليه.
وهجرة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هجرة إليه تظهر في حركات العبد وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل وبيان لمحاب الله ومرضاته، والذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، وكل عمل سواه هو عيش النفس وحظها لا زاد المعاد، ومن ثم فهو ليس طريقًا موصلاً للعبد إلى الله وإلى دار السلام، فالطرق كلها مسدودة إلى طريق من اقتفى آثار النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولما كانت السعادة دائرة نفيًا وإثباتًا مع تحقيق هاتين الهجرتين، كان لابد للعبد أن يتعرف عليهما، وأن يجعل لحظات عمره وقفًا على معرفته -عز وجل- والتقرب إليه، وأن يجعل إرادته مقصورة على محابه، وأن يجعل همته مجموعة على متابعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أشرف وأرفع ما شمر إليه المشمرون، وتنافس فيه المتنافسون، وهو ما إليه صرف الجهد والوقت المؤمنون السابقون.
والناس كلهم مسافرون، إما إلى دار الشقاء وإما إلى دار السلام: فالمسافر إلى دار السلام هو صاحب القلب المهاجر إلى الله، من أولئك الذين فضلهم الله على سائر خليقته، واختارهم لخدمته واختصهم بنعمته، فغرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده في قلوبهم، وملأها غنى بالافتقار إليه، فأقر بذلك أعينَهم ونفوسَهم، والعبد حين تقر بالله عينه تقر به عيون أهله وأصحابه ومن قرب منه، وتُذكِّرهم رؤيته بالله فتطمئن لذلك قلوبهم، وتستأنس نفوسهم، ويعلمون أنه علامة وأثر على المؤثر، ودليل على الله -عز وجل-، فينتبهون ويتنافسون في الوصول إلى الله -عز وجل-، فيكون العبد بذلك قائدًا للخلق إلى الله بسيرته، وداعيًا لهم بماله وهيئته، فإن من قرت عينه بالله سبحانه قرت به كل عين، وأنس به كل مستوحش، وفرح به كل حزين، وأمن به كل خائف، وإذا كان هذا أثر قرب العبد ممن قرت عينه لله؛ فكيف يكون أثر قربه من الله -عز وجل- نفسه، بهجرته إليه سبحانه وتعالى.
وفيما يلي نكتفي -إن شاء الله- بالحديث عن واحد من معاني الهجرة إلى الله -عز وجل-، وهو شعور العبد بفقره إلى ربه -تبارك وتعالى-، شعوره بالفقر المطلق اللازم له إزاء غناه المطلق -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15]، فبين -سبحانه وتعالى- في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، أمر ملازم لهم في ذاتهم، وليس لسبب معين في ظرف معين، فذلك افتقار المخلوق للمخلوق، أما افتقار المخلوق إلى خالقه فهو فقر دائم مطلق، كما أن غناه -سبحانه وتعالى- غنى مطلق، وكما أن كونه غنيًّا حميدًا أمر ذاتي له وليس لسبب معين في ظرف معين.
ثم ذكر من شواهد فقرهم، حاجتهم إليه لوجودهم وهو لا يحتاج إليهم في وجوده، ولو شاء لاستبدلهم: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56 ـ 58].
والمقصود أن الله -سبحانه وتعالى- أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه، كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غني حميد، فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي، فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون الرب –سبحانه- إلا غنيًّا، كما يستحيل أن يكون العبد إلا عبدًا، والرب إلا ربًّا.
فالخلق كلهم فقراء إلى الله -عز وجل-، ولكن بعضهم فقير إليه فقرًا واحدًا، وبعضهم فقير إليه فقرين، فبعضهم فقير إليه فقرًا واحدًا وهو فقر اضطراري، وبعضهم فقير إليه فقرين: فقرًا اضطراريًا وفقرًا اختياريًّا؛ إذ الفقر فقران: فقر اضطراري وفقر اختياري.
فأما الفقر الاضطراري: فهو فقر عام لا خروج لبر ولا فاجر عنه، وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا.
وأما الفقر الثاني -وهو الفقر الاختياري- فهو نتيجة عِلْمين شريفين: أحدهما معرفة العبد ربه، والثاني: معرفة العبد بنفسه، فمتى حصل للعبد هاتان المعرفتان أنتجتا له فقرًا، هذا الفقر نفسه هو عين غناه، وعنوان فلاحه وسعادته، وتفاوت الناس في هذا الفقر والشعور به والتلذذ به والغنى به يكون بحسب تفاوت الناس في هاتين المعرفتين؛ فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل.
فالله –سبحانه- أخرج العبد من بطن أمه فقيرًا من كل شيء، لا يعلم شيئًا ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئًا، ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره في تلك الحال أمرًا مشهودًا محسوسًا لكل أحد، لا ينكره ولا يجادل فيه أي مجادل، فلما أسبغ الله عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأقدره وصرفه وحركه ومكنه من استخدام بني جنسه، وسخر له الخيل والإبل والحديد، وسلطه على دواب البر والبحر والجو واستنزال الطير من الهواء، وقهر الوحوش العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجار، وشق الأرض، وتعلية البناء، والتحيل على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يؤذيه.
فلما مكنه الله من ذلك كله ظن المسكين أن له نصيبًا من الملك، وادعى لنفسه ملكًا مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأن ذلك شخص آخر غيره، فحُجب المخذول عن حقيقته، ونسي نفسه فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وعتا، فحقت عليه الشقوة: (كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7].
فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك"، وكان يدعو: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فهو -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن قلبه بيد الرحمن -عز وجل- لا يملك منه شيئًا، وأن الله –سبحانه- يصرفه كما يشاء، كيف وهو يتلو قوله –تعالى-: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً) [الإسراء:74].
فضرورته -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده، وليس الأمر كما قد يظنه البعض أن الشعور بالفقر بحسب الطاعة أو العصيان؛ فالعاصي يكون شعوره بالفقر إلى الله أكثر من المطيع، فالواقع يشهد بضد ذلك، فالذين يعرفون الفقر إلى الله هم المطيعون، والعصاة في غفلة، وارتكاب العاصي للمعصية يدل على قلة معرفته لله، وهذه المعرفة هي التي ينبني عليها الشعور بالافتقار إليه –سبحانه- كما ذكرنا فيما سبق، فضرورة العبد إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته وحسب قربه منه ومنزلته عنده.
ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم- أقرب الخلق إلى الله سبحانه، وأعظمهم عنده جاهًا، وأرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه، وكان يقول لأصحابه: "أيها الناس، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي، إنما أنا عبد"، وكان يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله".
وبعد هذا الاستطراد في أن الفقر الاختياري نتيجة عِلمين شريفين: هما معرفة العبد لربه ومعرفته لنفسه، نقول: إن الفقر الاختياري إذًا خاص بالأبرار دون الفجار، بخلاف الفقر الاضطراري؛ فقد سبق أن ذكرنا أنه عام لا خروج لبر أو فاجر عنه، وحين نتأمل الآية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15]، نجدها باسم (الله) دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر؛ إذ الاعتراف بألوهيته سبحانه يتضمن الاعتراف بربوبيته، ولا عكس.
فالفقر الاضطراري فقر إلى ربوبيته سبحانه، وهو فقر المخلوقات بأسرها إليه؛ لأنه خالقها كلها وهو ربها، والفقر الاختياري فقر إلى ألوهيته، وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، فهو معبودهم وإلههم، وهذا هو الفقر النافع، وهو الذي يشير إليه العلماء الصالحون ويتكلمون عليه، وقد اختلفت تعبيراتهم عنه ووصفهم له، وهذا هو الجزء القادم في حديثنا.
فنحن عرفنا أن الفقر إلى الله ناتج من عِلْمين شريفين هما: علم العبد بربه وعلمه بنفسه، ولكن ما نريده الآن هو معنى الفقر نفسه، أو ترجمة الشعور بالفقر الناتج من هذين العِلمين في عبارة، وهل هو شعور واحد أو درجه واحدة أم عدة درجات؟!
ولنتذكر أننا قلنا: إنه من تفاوت الناس في معرفة هذين العلمين يتفاوتون في فقرهم إلى الله، إذن فهم في شعورهم به درجات، ولكن نستطيع أن نقسم فقرهم إلى ثلاث درجات رئيسة، فنأتي الآن إلى معنى الفقر ودرجاته:
أما عن الفقر فقال بعضهم: هو اسم للبراءة من رؤية الملكة، يعني أن الفقير هو الذي يرى الملك لمالكه الحق، ويستولي ذلك على شعوره، فيرى نفسه مملوكة لله، ولا يرى نفسه مالكًا بوجه من الوجوه، ويرى أن أعماله الصادرة منه يجب أن تكون من منطلق كونه مملوكًا عبدًا فيما أمره به سيده، فليس مالكًا لنفسه ولا لشيء من ذواته ولا لشيء من أعماله، فلو حصل بيد هذا العبد من الأموال والأسباب ما حصل لم ير له فيها شيئًا، بل يراها كالوديعة في يده، وأنها أموال سيده وخزائنه ونعمه جعلها بيد عبده مستودعًا متصرفًا فيها لسيده لا لنفسه، كما قال عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه: "والله إني لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم، أضع حيث أُمِرت".
فهو متصرف في تلك الخزائن بالأمر المحض، تصرف العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أوامر سيده، فالله هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه، أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإمساك، وهل يكون ذلك منهم على وجه عبوديتهم لله -عز وجل-، فيبذل أحدهم الشيء رغبة في ثواب الله، ورهبة من عقابه، وتقربًا إليه وطلبًا لمرضاته؟! أم يكون البذل والإمساك منهم صادرًا عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع، فيعطي لهواه ويمنع لهواه؟! فيكون متصرفًا تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس، وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح أو حظ من الحظوظ، أو الرهبة من فوت شيء من هذه الأشياء، وإذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأى نفسه لا محالة مالكًا، فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسي فقره، ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أنما هو مستخلف في هذه الأرض ليكون مملوكًا ممتحنًا، ولو كان في صورة ملك متصرف، (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس:14].
وفي هذا التعريف للفقر، قلنا: إنه البراءة من رؤية الملكة، ولم نقل: من الملكة؛ لأن الإنسان قد يكون فقيرًا لا ملكة له في الظاهر وهو مع ذلك عري عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أهله، الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذي الملك والملكوت، وذلك كشأن قوم قارون؛ لم يكونوا ملوكًا ولا أغنياء، ومع ذلك ليسوا بفقراء الفقر الممدوح؛ لأنهم لما رأوا الملك لقارون تعلقوا به وقالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79].
وعلى الضد، قد يكون العبد قد فُوِّض إليه من ذلك شيء وجُعِل كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود: أوتي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأغنياء من الأنبياء، وكذلك أغنياء الصحابة، فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر، ولكنهم كانوا بريئين من رؤية الملكة لنفوسهم؛ فلا يرون لها ملكًا حقيقيًّا، بل يرون ما في أيديهم لله عارية ووديعة في أيديهم، ابتلاهم بها لينظر: هل يتصرفون فيها تصرف العبيد أو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم.
فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره -يعني إلى الله- إنما يقدح في فقره رؤيته لملكته، فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره، وكان كالخازن لسيده الذي ينفذ أوامره في ماله، فهذا لو كان بيده من المال أمثال جبال الدنيا لم يضره، ومن لم يُعاف من ذلك ادَّعت نفسه الملكة، وتعلقت به النفس تعلقها في الشيء المحبوب المعشوق، فهو أكبر همه ومبلغ علمه، إن أعطي رضي، وإن منع سخط، فهو عبد الدنيا والدرهم، يصبح مهمومًا ويمسي كذلك، يبيت مضاجعًا له، تفرح نفسه إذا ازداد، وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء، بل كاد يتلف إذا توهمت نفسه فقدان ما هي فيه من غنى وترف، وقد يُؤْثِر الموت على ذلك.
أما الأول فهو مستغنٍ بمولاه المالك الحق الذي بيده خزائن السموات والأرض، وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب ماله نفسه، فما للعبد وما للجزع والهلع؟! وإنما تصرف مالك المال في ملكه -الذي هو وديعة في يد مملوكه- فله الحكم في ماله، إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه، فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه، ويرى تدبيره هو موجب الحكمة، فليس لقلبه بالمال تعلق، ولا له به اكتراث؛ وذلك لترفعه عنه واتجاه همته إلى المالك الحق، فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إليه دون ما سواه.
فهذا هو البريء عن رؤيته الملكة الموجبة للطغيان، كما قال تعالى: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7]. ولم يقل: إن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئًا عن رؤية غنى نفسه، ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل، بل قال: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5ـ7]، وهذا -والله أعلم- لأنه في سورة العلق ذكر موجب طغيانه، وهو رؤية غنى نفسه، وذكر في سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته.
فإنه لو افتقر إليه لتقرب إليه بما أمره من طاعته، وفعل فعل المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفة عين، ولا يجد بدًّا من امتثال أمره، والمقصود أن الاستغناء عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لكل عسرى، ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه، وكلاهما منافٍ للفقر والعبودية.
وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
الخطبة الثانية:
أما عن درجات الفقر:
فالدرجة الأولى: فقر الزهاد، وهو نفض اليدين عن الدنيا ضبطًا أو طلبًا، وإسكات اللسان عنها ذمًّا أو مدحًا، والسلامة منها طلبًا أو تركًا، أي فقر عن الأعراض الدنيوية.
فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا، والذهول عن الفقر منها والزهد فيها، وعلامة فراغ اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا، فهو لا يضبط يده مع وجودها شحًّا وضنًّا بها، ولا يطلبها مع فقره سؤالاً وإلحافًا وحرصًا، فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب؛ إذ لو كان لها في القلب منزلة لكان الأمر بضد ذلك، ولكان حاله الضبط مع الوجود لغناه بها، ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إليها.
وأيضًا من أقسام الفراغ: إسكات اللسان عنها ذمًّا ومدحًا؛ لأن من اهتم بأمر وكان له في قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أمره مدحًا أو ذمًّا، فإنه إن حصلت له مَدَحَها، وإن فاتته ذَمَّها، ومدحها وذمها علامة موضعها من القلب وخطرها، فحيث اشتغل اللسان بذمها كان ذلك لخطرها في القلب؛ لأن الشيء إنما يذم على قدر الاهتمام به، والاعتناء شفاء الغيظ منه بالذم.
وكذلك تعظيم الزهد فيها إنما هو على قدر خطرها في القلب؛ إذ لو خطرها وقدرها لما صار للزهد فيها خطر، وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه، فإن من أحب شيئًا أكثر من ذكره. وصاحب هذه الدرجة لا يضبطها مع وجودها، ولا يطلبها مع عدمها، ولا يفيض من قلبه على لسانه مدح لها يدل على محبتها، ولا يفيض من القلب على اللسان ذم يدل على موقعها وخطرها، فإن الشيء إذا صغر أعرض القلب عنه مدحًا أو ذمًّا.
وكذلك صاحب هذه الدرجة سالم من النظر إلى تركها، وهو الذي تقدم عن ذكر خطر الزهد فيها؛ لأن نظر العبد إلى كونه تاركًا لها زاهدًا فيها تتشرف نفسه بالترك، وذلك من خطرها وقدرها، ولو صغرت في القلب لصغر تركها والزهد فيها، ولو اهتم القلب بمهم من المهمات المطلوبة التي هي مذاقات أهل القلوب والأرواح لذهل عن النظر إلى نفسه بالزهد والترك.
فصاحب هذه الدرجة معافى من هذه الأمراض كلها، من مرض الضبط، والطلب، والذم، والمدح، والترك.
والمقصود أن صاحب هذا المقام إذا تحقق به ظاهرًا وباطنًا، وسلم عن نظر نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقير حقيقي ليس فيه قادح من القوادح التي تحطه عن درجة الفقر.
واعلم أنه إنما يحسن ذم الدنيا في موضعين:
أحدهما: موضع التزهيد فيها للراغب، والثاني: عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها ولا يأمن إجابة الداعي، فيستحضر في نفسه قلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها، ولا ينبغي أن يمتنع حينئذ من ذمها ليوهم نفسه بالفقر المطلوب فيخدع نفسه، كالمريض يترك الدواء خشية أن يقال عنه مريض، وليوهم نفسه بأنه سليم، فإن الفقراء الحقيقيين لا يمنعون أنفسهم عن ذم الدنيا وإنما لا يخطر على بالهم ذمها لعدم وجود داعي النفس إلى طلبها.
الدرجة الثانية: التبرؤ من رؤية مقام نفسه وحاله، فإنه إذا كان التلوث بأمراض الدنيا قد يقيد القلوب عن سفرها إلى بلد حياتها ونعيمها؛ لأنه يقيدها عن التحقق بالفقر إلى الله، فكذلك الذي باشر قلبه روح التأله والتعبد، وذاق طعم المحبة قد تعتريه شوائب تقيد قلبه عن تمام الافتقار إلى الله وصحة الاضطرار إليه، ونعني بهذه الشوائب رؤيته مقام نفسه أنه حقق الفقر الاختياري، فذلك حجاب معوق عن صدق لجوئه واضطراره لربه، فجميع ما يحجب عنه سبحانه أو يقيد النظر إليه القلب عن الامتلاء من هذا الافتقار يكون حجابًا يحجب الواصل ويوقف السالك وينكس الطالب، فالزهد فيه على أصحاب الهمم العلية متعين تعين الواجب الذي لابد منه، وهو كزهد السالك إلى الحج في الظلال والمياه التي يمر بها في المنازل، فهو فقر عن رؤية المقامات والأحوال. فالأول -المهتم بالدنيا- مقيد برؤية الأعراض، والثاني مقيد برؤية الأحوال، فتقيَّد كل منهما عن الغاية المطلوبة، وإذا عرف العبد هذا تعين عليه الزهد في الأحوال والفقر منها، كما تعين عليه الزهد في المال والشرف وخلو قلبه منهما.
ولما كان موجب الدرجة الأولى من الفقر الرجوع إلى الآخرة، فأوجب الاستغراق في هم الآخرة نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا، وإسكات اللسان عنها مدحًا أو ذمًّا، وكذلك كان موجب هذه الدرجة الثانية الرجوع إلى فضل الله سبحانه، ومطالعة سبقه الأسباب والوسائط، بفضل الله ورحمته وجدت منه الأقوال الشريفة، والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته وموالاته، وكان سبحانه هو الأول في ذلك كله كما أنه الأول في كل شيء، وكان هو الآخر في ذلك كله كما هو الآخر في كل شيء.
فمن عبده باسم "الأول" والآخر حصلت له حقيقة هذا الفقر؛ فعبوديته باسم "الأول" تقتضي التبرؤ من مطالعة الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد؛ إذ لا وسيلة له ولا إرادة قبل أن يمنحه الله الوسيلة والإرادة، وعبوديته باسمه "الآخر" تقتضي أيضًا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم -لا محالة- ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بـ"الآخر" سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول.
فبذلك لا ينظر العبد إلى غير فضل خالقه ومنَّتِه، فلا يرى لغيره شيئًا إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به أو يراه ليوم فاقته، فكل ذلك من تصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع كما هو شأن الطبيعة والهوى وموجب الظلم والجهل، والإنسان ظلوم جهول. فمن جلى الله سبحانه صدأ بصيرته وكمل فطرته وأوقفه على مبادئ الأمور وغايتها ومقاصدها ومصادرها ومواردها أصبح كالمفلس حقًّا من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه، يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي من انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما، وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك، فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه، فيثيبه مولاه على ذلك ثوابين:
أحدهما: الخلاص من رؤية الأعمال، بحيث كان يراها ويتمدح بها ويستكثرها، فيستغرق بمطالعة الفضل غائبًا عنها ذاهبًا عنها فانيًا عن رؤيتها، والثواب الثاني: أن يقطعه عن شهود الأحوال -أي عن شهود نفسه مستكثرة بها- فإن الحال محله الصدر، والصدر بيت القلب والنفس، فإذا نزل العطاء في الصدر للقلب ثبتت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء، فتتمدح به، وتدل به، وتزهو وتستطيل لأنها جاهلة ظالمة، وهذا مقتضى الجهل والظلم، فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى -سبحانه- على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول ذهل القلب والنفس به، وصار العبد فقيرًا إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول، فصار مقطوعًا عن شهود أمر وحال ينسبه إلى نفسه، بحيث يكون بشهادته لحاله معضومًا مقطوعًا عن رؤية عزة مولاه وفاطره وملاحظة صفاته.
فصاحب شهود الأحوال منقطع عن رؤية منة خالقه وفضله، ومشاهدة سبق الأولية للأسباب كلها، وغائب بمشاهدة عزة نفسه عن عزة مولاه، فينعكس هذا الأمر في حق هذا العبد الفقير، وتشغله رؤية عزة مولاه ومنته، ومشاهدة سبقه بالأولية عن حال يعتز بها العبد أو يشرف بها. وهذا يمحص من أدناس مطالعة المقامات -فالمقام ما كان راسخًا فيه والحال ما كان عارضًا لا يدوم- فإن كونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمله فاستحق أن ينسب إليه ويوصف به، مثل أن يقال: زاهد صابر خائف راجٍ محب راضٍ، فكونه يرى نفسه مستحقًّا بأن تضاف المقامات إليه وبأن يوصف بها، خروج عن الفقر إلى الغنى، وتعد لطور العبودية، وجهل بحق الربوبية، فالرجوع إلى سبق فضله –تعالى- يستغرق همة العبد ويمحصه ويطهره من مثل هذه الأدناس، فيصير مصفى بنور الله سبحانه عن رذائل هذه الأرجاس.
الدرجة الثالثة: صحة الاضطرار إليه سبحانه، وذلك بالفقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة وجوده سبحانه، وبالفقر عن أي تأله أو تعبد من قريب أو بعيد لغيره -عز وجل- وهو التجرد عن سوى مراد محبوبه، فهي درجة الفناء في توحيده سبحانه في ربوبيته وإلهيته، ومن حقق ذلك صح حينئذ اضطراره وكمل فقره.
فبالفقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة وجوده سبحانه، يبقى في الوجود الحادث في قبضة الحق سبحانه كالهباء المنثور في الهواء، يتقلب بتقليبه إياه، فتنمحي عن العبد رزية نفسه مستبدًّا أو مستقلاًّ بأمر من الأمور -ولو في النفس واللمحة والطرفة والهمة والخاطر والوسوسة- إلا بإرادة المريد الحق وتدبيره وتقديره ومشيئته، ولكن حذار من إلحاد الجبرية الذين انحرفوا بهذا إلى نفي الاختيار عن الإنسان، وجعلوا المعاصي كالطاعات، فمن فعل ذلك فهو منسلخ من الشرائع، بريء من دعوة الرسل.
وإنما وظيفة الفقير في هذا الموضع مشاهدة أمره وشرعه تبارك وتعالى، ورؤية قيامه بالأفعال وصدورها منه كسبًا واختيارًا، وتعلق الأمر والنهي بها طلبًا وتركًا، وترتب الذم والمدح عليها شرعًا وعقلاً، وتعلق الثواب والعقاب بها عاجلاً وآجلاً، وهذا كله لا يخرج عن إرادة الله، فلو شاء لحال بين العبد وبين اختياره، ولو شاء لأعانه عليه، فيجتمع بهذا عند العبد شهود اختيار نفسه، وقيامه بالفعل مع شهوده من بيده أزمة الاختيار وتقلب القلوب، من إذا شاء شيئًا وجب وجوده، وإذا لم يشأ امتنع وجوده، وأنه لا هادي لمن أضله، ولا مضل لمن هداه، وأنه هو الذي يحرك القلوب بالإرادات، والجوارح بالأعمال، وأنها مدبرة تحت تسخيره، مذللة تحت قهره، وأنها أعجز وأضعف من أن تتحرك بدون مشيئته، وإن مشيئته نافذة فيها كما هي نافذة في حركات الأفلاك والمياه والأشجار، وأنه حرك كلاً منها بسبب اقتضى تحريكه، وهو خالق السبب، وخالق السبب خالق المسبب، فخالق الإرادة الحازمة التي هي سبب الحركة والفعل الاختياري خالق لهما، وحدوث الإرادة بلا خالق محدث محال، فلابد من فاعل أوجد تلك الإرادة التي هي سبب الفعل، ألا وهو الله -عز وجل-.
فحين يعلم العبد الأمر على هذا الوجه فهنا يشهد اضطراره في حركاته وسكناته إلى خالق هذه الإرادة، ويشعر بفاقته وحاجته إلى مقلب القلوب، ويتحقق بفقره الكامل أو بضرورته التامة إلى مالك الإرادات ورب القلوب ومصرفها كيف شاء، فما شاء أن يزيغه منها أزاغه، وما شاء أن يقيمه منها أقامه (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8].
فهذا هو الفقر الصحيح المطابق للعقل والفطرة والشرع، ومن خرج عنه وانحرف إلى أحد الطرفين، فرأى نفسه مستقلاًّ لأمر نفسه على الإطلاق في الطاعة والمعصية، أو رأى نفسه لا اختيار له ولا إرادة على الإطلاق في الطاعة أو المعصية فقد زاغ قلبه عن الهدى، وإنما واجب الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين، وكل نفس أنه إن حرك بطاعة أو نعمة شكرها وقال: هذا من فضل الله ومنه وجوده فله الحمد، وإن حرك بمبادي معصيته صرخ ولجأ واستغاث وقال: أعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، ومن عرف قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أعوذ بك منك"، وقام بهذه المعرفة شهودًا وذوقًا، وأعطاها حقها من العبودية فهو الفقير حقًّا، ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة، فهذا الفقر المحمدي، والعبد المتحقق بهذا الفقر إن ابتلاه الله بقضاء من قضائه التجأ إليه كأسير قد أسره عدوه وهو يعلم أنه لا خلاص له من أسره إلا بأن يفكه سيده من الأسر، ففكاكه في يد سيده ليس في يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، كقول الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. وكقول موسى: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 24].
فهو في الأسر ناظر إلى سيده وهو قادر، قد اشتدت ضرورته إليه، وصار اعتماده كله عليه، وهذا كقول كل منهم: "اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه"، فهنالك صح اضطرارهم ودعوه، فقد افتقروا من دعاء غيره إلى دعائه، كما دعوه بفقرهم من التأله لما سواه، وبتجردهم من مراضي من سواه، مع افتقارهم من رؤية قادر أو مُنج غيره، دعوه بفقرهم بوجوده عن ملاحظة أي موجود.
وهاهنا لفتة عظيمة؛ إذ البعض يظن أن غاية الفقر هو أن لا يستولي على شعور العبد أي شيء من الموجودات، بل يستولي على شعوره وجوده تعالى من وراء كل موجود يراه، فتكون رؤيته بقلبه لربه الخالق لكل موجود أقوى من رؤيته بعينه للموجودات، فظن بعضهم ذلك غاية الفقر، والحقيقة أن وراءه ما هو أعظم منه؛ فإن ذلك الفقر غايته الفناء في توحيد الربوبية، وهو أن لا يشهد ربًّا وخالقًا ومدبرًا إلا الله، وهذا حق، ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفي في النجاة، فضلاً عن أن يكون شهوده والفناء فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم، وإنما الغاية التي لا غاية وراءها ولا نهاية بعدها هي الفناء في توحيد الإلهية، وهو أن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه، وبالذل له والفقر إليه من جهة كونه عبدًا، وأن الله معبوده بعد فقره إليه من جهة كونه مخلوقًا، وأن الله خالقه.
ففقره هنا إلى الله من جهة كونه تعالى معبوده وإلهه ومحبوبه، فيفنى بالفقر والذل له عن الذل إلى كل ما سواه، وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، فيرى أنه ليس في الوجود ما يصلح له ذلك إلا الله، ثم يتصف بذلك حالاً وينصبغ به قلبه صبغة، ثم يفنى بذلك عما سواه، وهذا هو التوحيد التام الذي شمر إليه العارفون، وحام حوله المحبون، ومتى وصل إليه العبد اشتمل بلباس الفقر الحقيقي، وفرَّق حب الله من قلبه كل محبة، وخوفه كل خوف، ورجاؤه كل رجاء، فصار حبه وخوفه ورجاؤه وذله وإيثاره وإرادته ومعاملته، كل ذلك واحد لواحد هو مراد محبوبه، فليس له طلب لمراد نفسه وطلب لمراد ربه، وإنما طلبه كله لمرادات محبوبه، ومحبوبه واحد، فلم ينقسم طلبه ولا مطلوبه، فتعدد المطلوب وانقسامه قادح في التوحيد والإخلاص، وانقسام الطلب قادح في الصدق والإرادة، فلابد من توحيد الطلب والإرادة وتوحيد المطلوب المراد، فإذا غاب بمحبوبه عن حب غيره، وبمذكوره عن ذكر غيره، وبمألوهه عن تأله غيره؛ صار من أهل التوحيد الكامل والفقر التام، وصاحبه مجرد عن ملاحظة سوى محبوبه أو إيثاره أو معاملته أو خوفه أو رجائه.
إذن فلا يقتصر الفقر على التجرد عن ملاحظة الدنيا، بل هذه أولى الدرجات، ثم بعدها التجرد عن رؤية تجرد النفس، وبالتجرد عن ملاحظة فاعل غير الله، أو ملاحظة وجود غير وجوده بالانشغال بملاحظة وجوده سبحانه حتى يستغرق قلبه، فلا يبقى فيه سعة لشهود غيره ولا لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به، فلا التفات له إلى تجريده، ولو بقي له التفات إليه لم يكمل تجريده، فإن من شهد كونه سبحانه هو الموفق الهادي، وأن فضله سابق لكل شيء، وأن أمره نافذ في كل شيء، وأنه هو الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذي يدفع ما منه بما منه، فالخلق كله له، والأمر كله له، والحكم كله له، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وما شاء لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئته، وما لم يشأ لم يمكن أن يجلبه إلا مشيئته، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِه) [يونس: 107]، فالتحقق بمعرفة هذا يوجب صحة الاضطرار وكمال الفقر، ويحول بين العبد وبين رؤية أعماله وأحواله والاستغناء بها، والخروج من رفقة العبودية إلى دعوى ما ليس له.
وكيف يدَّعي مع الله حالاً أو مُلكة أو مقامًا من قلبه، وإرادته وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكه، لا يملك هو منها شيئًا، وإنما هي بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء، فالإيمان بهذا والتحقق به مقتضى التوحيد الصحيح والفقر الصحيح، فسبحان من لا يوصل إليه إلا به، ولا يطاع إلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بتوفيقه ومعونته، فعاد الأمر كله إليه كما ابتدأ الأمر كله منه، فهو الأول والآخر (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) [النجم:42].
ووراء هذا كله تجريد نسبة هذا التجريد إليه، وهو تجريد الحب والإرادة عن تعلقه بالسوى، وتجريده عن العلل والشوائب والحظوظ التي هي مراد النفس، فيتجرد الطلب والحب عن كل تعلق يخالف مراد المحبوب، فيتوحد حبه كما توحد محبوبه، ويتجرد عن مراده بمراد محبوبه منه، بل يبقى مراد محبوبه هو من نفس مراده، وهنا يعقل الاتحاد الصحيح وهو اتحاد المراد لا اتحاد المريد ولا اتحاد الإرادة الذي ذهب إليه الملاحدة الغلاة.
وحين يتحقق العبد بهذا التجريد الأخير -تجريد الحب والإرادة، وهو التجرد عن سوى مراضي المحبوب، وهو الفناء في توحيد الألوهية- حين يتحقق العبد بهذا مع تحققه بالدرجات السابقة فهناك يصح من مثل هذا العبد الاضطرار إلى الحي القيوم، وهو قد شهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقرًا تامًّا إليه من جهة كونه ربًّا، ومن جهة كونه إلهًا معبودًا لا غنى له عنه كما لا وجود له بغيره.
فهذا هو الفقر الأعلى الذي دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى، وإنما يصح له هذا بمعرفتين لابد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية، فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر، فإن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية اتصف بهذا الفقر حالاً، فما أغناه حينئذ من فقير، وما أعزَّه من ذليل، وما أقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد، فهو الغني بلا مال، القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد، قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك؛ إذ الفقر إليه -عز وجل- عين الغنى به، فأفقر الناس إلى الله أغناهم به، وأذلهم له أعزهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم، وأجهلهم عند نفسه أعلمهم بالله، وأمقتهم لنفسه أقربهم إلى مرضاة الله.
اللهم أغننا بالفقر إليك، وأعزنا بالذل لك، ولا تجعل لنا التفاتًا أو تعلقًا بسواك، وارزقنا تواضع الفقراء إليك، ورقة قلوبهم، وطمأنينتهم بك، وخشيتهم لك، وانكسارهم بين يديك، مع عزهم واستغنائهم وسعادتهم بك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.