المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | أحمد عبدالرحمن الزومان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
من خلال ما تقدم ندرك أن هناك فهماً خاطئاً للإستقامة عند البعض منا حينما يقصرها على استقامة الظاهر فقط فتجده يَحْرِص على مظهره الخارجي ليكون مستقيماً على أمر الله ولا يلتفت لقلبه ولسانه فلا يخلصهما مما ينافي الاستقامة فهذا وإن كان في الظاهر مستقيماً لكنه في الحقيقة ليس مستقيماً بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" فلا بد من التنبه إلى حقيقة الاستقامة وإصلاح القلب واللسان ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد: فرض علينا ربنا الاستقامة على طاعته وذلك بسلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة ويشمل ذلك فعل المستطاع من الطاعات الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها وهي وصية الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فقد جاءه سفيان بن عبد الله الثقفي طالباً منه أن يعلمه كلاماً جامعاً لأمر الإسلام كافياً حتى لا يحتاج بعده إلى غيره فقال له يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" رواه مسلم.
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أوتي جوامع الكلم التي أختصه الله بها فجمع له في هاتين الكلمتين جميع معاني الإسلام والإيمان اعتقاداً وقولاً وعملاً فالإسلام اعتقاد وطاعة فالاعتقاد حاصل بقوله "آمنت بالله" والطاعة بجميع أنواعها في قوله "استقم" إذ الاستقامة امتثال كل مأمور مقدور عليه واجتناب كل منهي عنه.
عباد الله: أصل الاستقامة استقامة القلب على محبة الله وإجلاله وخشيته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه وإرادته بالعبادة دون ما سواه فلا إلتفات للقلب لغير الله عز وجل هذا في ما بين العبد وربه فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.
وكذلك يجب أن يكون القلب مستقيماً ما بين العبد وبين إخوانه المسلمين فمن مظاهر استقامة القلب محبة المسلمين وتوقيرهم وإجلالهم لله تعالى لا لمصلحة دنيوية فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" رواه البخاري ومسلم.
ومن مظاهر استقامة القلب محبة الخير للمسلمين كما يحبه لنفسه، وكراهة الشر والنقص في دينهم ودنياهم كما يكرهه لنفسه؛ فعن أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" رواه البخاري ومسلم.
عباد الله: من مظاهر عدم استقامة القلب الكبر والترفع على الآخرين فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" رواه مسلم.
فكيف يكون مستقيم القلب من هو تائه في نفسه معجب بها محتقر الآخرين لجاه أو مال أو بسطة في العلم أو الجسم أو غير ذلك مما أنعم الله به عليه كيف يكون مستقيماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" رواه مسلم.
عباد الله: الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب فحركات البدن تابعة لحركات القلب وإرادته فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صَلَح وصَلَحَت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب فاسدة فسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب.
ومن أعظم ما يراعي استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه "ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" رواه البخاري ومسلم.
ففي هذا الحديث توجيه لنا إذا أراد أحدنا أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيراً محققاً يثاب عليه واجباً أو مندوباً فليتكلم وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه.
والكلام المباح قد ينجر إلى حرام عند البعض وقد ذكر ربنا عز وجل أن أكثر حديث الناس مما لا ينتفع به في قوله تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
ومن مظاهر عدم استقامة اللسان نقل الكلام من غير تثبت هل هو صدق أم كذب فيدخل الناقل في عداد الكاذبين.
ومن مظاهر عدم استقامة اللسان الكذب في الحديث ونقل الكلام على غير ما قيل لاسيما إذا كان للنفس في ذلك حظ ومن ذلك الفجور في الخصومة ومن هذه صفته منافق نفاقاً عملياً فمن هذه حاله كيف يكون مستقيماً.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي افترض علينا أن نسأله الهداية إلى الاستقامة في كل ركعة من صلاتنا فنقول "اهدنا الصراط المستقيم" والصلاة والسلام على مَنْ بَيـَّنَ للأمة الاستقامة على المنهج الحق بقوله وفعله وعلى السادات المستقيمين من الصحابة ومن بعدهم إلى يوم الدين.
وبعد: من خلال ما تقدم ندرك أن هناك فهماً خاطئاً للإستقامة عند البعض منا حينما يقصرها على استقامة الظاهر فقط فتجده يَحْرِص على مظهره الخارجي ليكون مستقيماً على أمر الله ولا يلتفت لقلبه ولسانه فلا يخلصهما مما ينافي الاستقامة فهذا وإن كان في الظاهر مستقيماً لكنه في الحقيقة ليس مستقيماً بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" فلا بد من التنبه إلى حقيقة الاستقامة وإصلاح القلب واللسان مما ينافي الاستقامة كما يصلح الظاهر.
عباد الله: الإسلام دين الاعتدال فربنا عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلما أمر بالاستقامة حذر من مجاوزة المشروع فقد ينتهي الأمر إلى الغلو والمبالغة وقد أمرنا بالاعتدال فيريد ربنا منا الاستقامة على ما أمر دون تفريط ولا غلو.
ومقابل ذلك يذكرنا ربنا عز وجل أنه لا بد من خلل وتقصير منا في الاستقامة بقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) فأمرنا بالإستغفار إشارة إلى أنه لا بد من تقصير في الإستقامة المأمور بها فيجير ذلك الاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سددوا وقاربوا وأبشروا".
إخواني المستقيمين: ثبتكم الله وزادكم من فضله أذكركم ببشارة من ربكم في وقت أحوج ما تكونون إليها عندما تبدؤون في رحلة الآخرة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) فتتنزل عليكم الملائكة عند الموت قائلين لكم أن لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال فإنا نخلفكم فيه وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون؛ فيبشرونكم بذهاب الشر وحصول الخير يبشرونكم عند موتكم وفي قبوركم وحين تبعثون تقول الملائكة لكم عند الاحتضار نحن كنا قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور ونؤمنكم يوم البعث والنشور ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم ولكم ما تشتهي أنفسكم في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به العيون وما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم ضيافة وعطاءً وإنعاماً من غفورٍ لذنوبكم رحيمٍ بكم رؤوفٍ حيث غفر وستر ورحم ولطف.
إخواني: يا من قصرتم في بعض أمر الاستقامة هل أنتم في غنى عما ذكر ألا تريدون هذا الفضل وغيره هلموا إلى ركب المستقيمين ظاهراً وباطناً واعلموا أن أول الأمر يحتاج إلى مجاهدة النفس وقطع العوائد ونهاية الأمر يحصل لكم من اللذة وراحة البال أضعاف ما تجدونه في المعصية فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله تبارك وتعالى إلا آتاك الله خيراً منه" رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح.