في هذه الرسالة بيان فضل التواضع، وأسباب الكبر – مظاهره – عاقبته - علاجه.
التفاصيل
تذكير البشر بفضل التواضع وذم الكبر مقدمة التواضع وخفض الجناح للمؤمنين([1]) تحريم الكبر والإعجاب([21]) من منازل }إياك نعبد وإياك نستعين{ منزلة "التواضع"([37]) للمتواضع والمتكبر علامات لا تخفى على المتأملين من تواضع لله رفعه الكبرياء أسباب الكبر – مظاهره – عاقبته - علاجه تذكير البشر بفضل التواضع وذم الكبرتأليف الفقير إلى الله تعالىعبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار اللهغفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمينبسم الله الرحمن الرحيم مقدمةالحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.وبعد: فإن التواضع للحق وللخلق من صفات الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين الذين عرفوا الحق فاتبعوه، والباطل فاجتنبوه ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة.والكبر من صفات الكفرة والمشركين والعصاة والملحدين الذين استكبروا عن عبادة الله وتكبروا على عباد الله، فلم ينقادوا للحق الذي جاءت به الرسل، واحتقروا الملتزمين بشرع الله، ونازعوا الله في صفة من صفاته وهي الكبرياء والعظمة، وسوف يهينهم الله ويذلهم ويضعهم في العذاب جزاء ما قدموه لأنفسهم من العلو والفساد، فالجزاء من جنس العمل.فيجب على المسلم العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر، ليرفعه الله حسيًّا ومعنويًّا في الدنيا والآخرة جزاء تواضعه، فإن من تواضع لله رفعه. والتواضع نوعان: أحدهما: محمود وهو ترك التطاول على عباد الله، والثاني: مذموم وهو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه فالعاقل يلزم التواضع المحمود ويترك التواضع المذموم بكل حال. والتواضع المحمود يرفع قدر المرء ويزيده نبلاً. والتواضع لله عز وجل نوعان: أحدهما: تواضع العبد لربه عندما يعمل شيئًا من الطاعات غير معجب بعمله بل يرى نفسه مقصرًا في حقوق الله وأن الله تعالى هو الذي تفضل عليه بذلك، والثاني: احتقار العبد نفسه وتقصيره في محاسبتها فيما لها وما عليها من حقوق وواجبات. والتواضع يكسب السلامة ويورث الألفة والمحبة. وتواضع الشريف يزيد في شرفه كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضَعته. وكيف لا يتواضع من خُلِق من نطفة مذرة (حقيرة) وآخره يعود جيفة قذرة وهو بينهما يحمل العذرة. وما استجلبت البغضاء بمثل الكبر ولا اكتسبت المحبة بمثل التواضع. والمسلم العاقل المتواضع يجعل كبير المسلمين بمنزلة أبيه فيحترمه ويتواضع له، ويجعل صغير المسلمين بمنزلة ابنه فيرحمه ويعطف عليه ويجعل نظيرهم له أخًا فيعامله بما يحب أن يعامله به.ولما كان الكبر بهذه الصفات الممقوتة، والتواضع بهذه الصفات العالية المحمودة وكان كثير من الناس يشكون من رؤسائهم والمسؤولين فيهم تكبرهم عليهم واحتقارهم لهم رأيت من واجبي تذكير إخواني المسلمين بفضل التواضع وفوائده وعلو شأنه، ورذيلة الكبر ومقته وسوء عاقبته فجمعت في هذه الرسالة ما تيسر لي جمعه على طريقة الاختصار وسميتها [تذكير البشر بفضل التواضع وذم الكبر] وهي مستفادة من كلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ، وكلام المحققين من أهل العلم، أسأل الله تعالى أن يوفقنا وسائر إخواننا المسلمين للتواضع للحق وللخلق، وأن يعيذنا من الكبر وأسبابه، وأن ينفع بهذه الرسالة من كتبها أو طبعها أو قرأها أو سمعها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ومن أسباب الفوز لديه بجنات النعيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.المؤلف في 22 / 9 / 1410 هـ التواضع وخفض الجناح للمؤمنين([1])قال تعالى: }وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{([2]).وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ{([3]).وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ{([4]).وقال تعالى: }فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى{([5])وقال الله تعالى: }وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ{([6])1- وعن عياض بن حمار t قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله أوحى إلىَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي([7]) أحد على أحد» رواه مسلم([8]).2- وعن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلاَّ عزًّا، وما تواضع أحد لله إلاَّ رفعه الله» رواه مسلم([9]).3- وعن أنس t أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي ﷺ يفعله. متفق عليه([10]).4- وعنه قال: إن كانت الأمة([11]) من إِمَاءِ المدينة لَتأخُذُ بيد النبي ﷺ، فتنطلق به حيث شاءت. رواه البخاري([12]).5- وعن الأسود بن يزيد قال: سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي ﷺ يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله -يعني: خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة. رواه البخاري([13]).6- وعن أبي رفاعة تميم بن أسيد t قال: انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، فأقبل علىَّ رسول الله ﷺ، وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسي، فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علَّمه الله، ثم أتي خطبته، فأتم آخرها. رواه مسلم([14]).7- وعن أنس t أنَّ رسول الله ﷺ كان إذا أكل طعامًا لَعِقَ أصابعه الثلاث([15]) قال: وقال: «إذا سقطت لقمة أحدكم، فَلْيُمِطْ([16]) عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان» وأمر أن تُسْلَتَ القَصْعَةْ قال: «فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة» رواه مسلم([17]).8- وعن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال: «ما بعث الله نبيًّا إلاَّ رعى الغنم» قال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» رواه البخاري([18]).9- وعنه عن النبي ﷺ قال: «لو دعيت إلى كراع([19]) أو ذراع لأجبت، ولو أُهدى إلىَّ ذراع أو كراع لقبلت» رواه البخاري([20]).* * * تحريم الكبر والإعجاب([21])قال الله تعالى: }تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{([22]).وقال تعالى: }وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا{([23])قال تعالى: }وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ{([24]) ومعنى "تصعر خدك للناس" أي: تميلُه وتعْرِضُ به عن الناس تكبرًا عليهم. "والمرح" التَّبَخْتُر.وقال تعالى: }إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ{([25]) إلى قوله تعالى: }فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ{ الآيات.1- وعن عبدالله بن مسعود t عن النبي ص عن النبي ﷺ قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً؟ قال: «إن الله جميل يحب الجمال([26]) الكِبْرُ بَطَرُ الحقَّ وغمطُ الناس» رواه مسلم([27]).بطر الحق: دفعه ورده على قائله، وغمط الناس: احتقارهم.2- وعن سلمة بن الأكوع t أن رجلاً أكل عند رسول الله ﷺ بشماله، فقال: «كُلْ بيمينك». قال: لا أستطيع! قال: «لا استطعت» ما منعه إلا الكبر. قال: فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم([28]).3- وعن حارثة بن وهب t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مستكبر» متفق عليه([29]).4- وعن أبي سعيد الخدري t، عن النبي ﷺ قال: «احْتَجَّتِ الجَنَّةُ والنار، فقالت النار: فيَّ الجَبَّارون والمتكبرون، وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم. فقضى الله بينهما: إنَّك الجنة رحمتي، أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي، أعذب بك من أشاء ولكليكما علىَّ مِلُؤها» رواه مسلم([30]).5-وعن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرَّ إزاره بَطَرًا» متفق عليه([31]).6- وعنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، ومَلِكٌ كذاب، وعَائِلٌ مستكبر» رواه مسلم([32]). "العائل": الفقير.7- وعنه قال: قال رسول الله ﷺ: «قال الله عز وجل: العزُّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني عذبته». رواه مسلم([33]).8- وعنه أن رسول الله ﷺ قال: «بينما رجل يمشي، في حلة([34]) تعجبه نفسه، مُرَجَّلٌ رأسه، يختال في مشيته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» متفق عليه([35])."مُرَجِّل رأسه"، أي: مُمَشَّطُهُ. "يتجلجل" بالجيمين، أي: يغوص وينزل.9- وعن سلمة بن الأكوع t قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم» رواه الترمذي([36]) وقال: حديث حسن."يذهب بنفسه" أي: يرتفع ويتكبر.* * * من منازل }إياك نعبد وإياك نستعين{ منزلة "التواضع"([37])قال الله تعالى: }وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا{([38]). أي بسكينة ووقار متواضعين، غير أشرين، ولا مَرِحين، ولا متكبرين. قال الحسن: علماء حلماء. وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة ولا يسفهون. وإن سُفه عليهم حلموا.و"الهون" بالفتح في اللغة: الرفق واللين. و"الهون" بالضم: الهوان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان. والمضموم: صفة أهل الكفران. وجزاؤهم من الله النيران.وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ{([39]).لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة "على" تضمينًا لمعاني هذه الأفعال. فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل. وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول، فالمؤمن ذلول. كما في الحديث «المؤمن كالجمل الذلول. والمنافق والفاسق ذليل» وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق: الكذاب. والنمام. والبخيل. والجبار.وقوله }أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ{ هو من عزة القوة والمنعة والغلبة. قال عطاء t: للمؤمنين كالوالد لولده. وعلى الكافرين كالسبع على فريسته. كما قال في الآية الأخرى: }أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ{([40]). وهذا عكس حال من قيل فيهم: كِبْرًا علينا، وجُبْنًا عن عدوكم لَبِئْسَتِ الخَلَّتان: الكِبْرُ، والجُبْن وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار t قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله أوحى إلىَّ: أن تواضعوا، حتى لا يَفْخَر أحدٌ على أحد. ولا يبغي أحدٌ على أحد».وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود t: قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر».وفي الصحيحين مرفوعًا: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جَوَّاظ مستكبر».وفي حديث احتجاج الجنة والنار « إن النار قالت: ما لي لا يدخلني إلاَّ الجَبَّارون، والمتكبرون؟ وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلاَّ ضعفاء الناس وسَقَطهم» وهو في الصحيح.وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله ﷺ: «قال الله عز وجل: العِزَُّة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني عذبته».وفي جامع الترمذي مرفوعًا عن سلمة بن الأكوع t: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبارين، فيصيبه ما أصابهم».وكان النبي ﷺ يمر على الصبيان فيسلم عليهم.وكانت الأمَة تأخذ بيده ﷺ. فتنطلق به حيث شاءت.وكان ﷺ إذا أكل لعق أصابعه الثلاث.وكان ﷺ يكون في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه فقط.وكان ﷺ يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير ويأكل مع الخادم. ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه. ولو إلى أيسر شيء.وكان ﷺ هين المؤنة، ليّن الخلق. كريم الطبع. جميل المعاشرة. طلق الوجه بسامًا، متواضعًا من غير ذِلَّة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب رحيم بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين، ليّن الجانب لهم.وقال ﷺ: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ - أو تحرم عليه النار - تحرم على كل قريب هَيَّن لّيَّن سهل» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وقال: «لو دُعيت إلى ذراع – أو كُراع – لأجبت، ولو أُهدي إليَّ ذراع – أو كراع - لقبلت» رواه البخاري.وكان ﷺ يعود المريض. ويشهد الجنازة. ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد.وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف.فصلسئل الفضيل بن عياض عن التواضع؛ فقال: يخضع للحق، وينقاد له. ويقبله ممن قاله.وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة. فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.وهذا مذهب الفضل وغيره.وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح، ولين الجانب. وقال أبو يزيد البسطامي: هو أن لا يرى لنفسه مقامًا ولا حالاً. ولا يرى في الخلق شرًّا منهوقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان. والعِزُّ في التواضع. فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار.فصلأول ذنب عصى الله به أبو الثقلين: الكبر والحرص. فكان الكبر ذنب إبليس اللعين. فآل أمره إلى ما آل إليه. وذنب آدم على نبينا وعليه السلام: كان من الحرص والشهوة. فكان عاقبته التوبة والهداية، وذنب إبليس حمله على الاحتجاج بالقدر والإصرار. وذنب آدم أوجب له إضافته إلى نفسه، والاعتراف به والاستغفار.فأهل الكبر والإصرار، والاحتجاج بالأقدار: مع شيخهم وقائدهم إلى النار إبليس. وأهل الشهوة: المستغفرون التائبون المعترفون بالذنوب، الذين لا يحتجون عليها بالقدر: مع أبيهم آدم في الجنة.وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: التكبر شر من الشرك فإن المتكبر يتكبر عن عباده الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره.قلت: ولذلك جعل الله النار دار المتكبرين. كما قال تعالى: }ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ{([41])([42])وقال تعالى: }فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ{([43]).وقال تعالى: }أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ{([44]).وأخبر أن أهل الكبر والتجبر هم الذين طبع الله على قلوبهم. فقال تعالى: }كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ{([45]).وقال ﷺ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» رواه مسلم.وقال ﷺ: «الكبر بَطْر الحق. وغمط الناس».وقال تعالى: }إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ{([46]).تنبيهًا على أنه لا يغفر الكبر الذي هو أعظم من الشرك، وكما أن «من تواضع لله رفعه» فكذلك من تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه، وَصَغَّرَه وحقره. ومن تكبر عن الانقياد للحق – ولو جاءه على يد صغير، أو من يبغضه أو يعاديه – فإنما تكبره على الله فإن الله هو الحق. وكلامه من حق. ودينه حق. والحق صفته. ومنه وله. فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله: فإنما رد على الله، وتكبر عليه. والله أعلم.الثناء على التواضع وذم الكبرتكاثرت نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالتواضع للحق والخلق والثناء على المتواضعين وذكر ثوابهم العاجل والآجل؛ كما تكاثرت بالنهي عن الكبر والتكبر والتعاظم وبيان عقوبات المتكبرين، قال تعالى: }فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ{([47]). }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ{([48]). }فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ{([49]).فالعبودية لله وحده، وطاعته في أمره ونهيه، كل ذلك خضوع للحق، فإن أعظم الحقوق حق الله على عباده، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، فمن خضع لهذا الحق في أصول الدين وفروعه، فهو المتواضع الخاضع لله، ومن أعرض عنه أو عارضه، فهو متكبر.}وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا{([50]).والنار قد أعدها الله مثوى للمتكبرين عليه المستكبرين عن العبودية لله، فالتواضع هو أصل الدين وروحه، والتكبر مناف للدين، وبهذا نستطيع أن نفهم حق الفهم قوله ﷺ في الحديث الصحيح: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» وقوله عن الله تعالى أنه قال: «العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدًا منهما عذبته».فكل من لم يخضع لله ولعبوديته وطاعته وطاعة رسوله فهو مستكبر وقد فسر النبي ﷺ التواضع والكبر تفسيرًا عامًا شاملاً واضحًا يزيل كل إشكال ولا يحتاج بعده إلى مقال، فقال حين سئل عن الكبر: «الكبر بطر الحق وغمط الناس » ومفهومه أن التواضع ضده وهو قبول الحق والانقياد له وعدم احتقار الناس، فمن قبل الحق وانقاد له ولم يحقر أحدًا وتواضع لعباد الله، فهذا هو المتواضع للحق وللخلق، وهو القائم بحقوق الله وحقوق الخلق، ومن بطر الحق فردَّه ولم ينقد له وغمط الناس فاحتقرهم وازدراهم بقلبه وقوله وفعله، فهذا هو المتكبر؛ فعليك بهذا الحد الجامع المانع وطابق بينه وبين أحوال الخلق عمومًا، وأخلاقك خصوصًا. وعليك أن تجتهد وتجاهد نفسك على التحقق والاتصاف بخلق التواضع لله ولعباده ولتكون من المفلحين، وإلا كنت من الخاسرين.أصل التواضع هو الالتزام الذي التزمه المؤمنون في قولهم سمعنا وأطعنا، أي سمعنا يا ربنا ما قلته في كتابك وقاله نبيك، سمع قبول وإذعان وأطعنا أمرك وأمر رسولك المنادي للإيمان، وهو الذي توسل به أولوا الألباب عند ربهم في حصول ما يحبون وفي دفع ما يكرهون في قولهم: }رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا{([51]). أي إيمانًا قلبيًّا بالتصديق واليقين والرغبة في العبودية، مستلزمًا لأعمال الجوارح بالقيام بحقوق الله وحقوق الخلق، وهذا هو الإيمان الذي توسلوا به إلى مغفرة ذنوبهم وحصول مطلوبهم، وبهذا التواضع الكامل كملت أخلاقهم وأحوالهم كلها، وبترك التواضع والاتصاف بضده استحق المتكبرون العقاب، وحرموا من الصواب، قال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ{([52]).أي ذليلين، فكما استهانوا بعبادة الله أَذَلَّهُمُ الله بالعذاب، جزاء من جنس عملهم.والتواضع أعظم نعمة أنعم الله بها على العبد، قال تعالى: }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ{([53]).وقال تعالى: }وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ{([54]).وهو قيامه ﷺ بعبودية الله المتنوعة وبالإحسان الكامل للخلق فكان خُلُقُه ﷺ التواضع التام الذي روحه الإخلاص لله والحنو على عباد الله ضد أوصاف المتكبرين من كل وجه.فعلى كل عبد أن يلتزم التزامًا عامًّا بلا استثناءَ تصديق الله ورسوله في كل أمر ونهي، بامتثال الأمر بحسب القدرة واجتناب النهي، قال ﷺ: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا من ما استطعتم» ومن كان كذلك فقد سلك طريق الاستقامة والصراط المستقيم، ولكن لا بد للعبد من تفريط في بعض الواجبات أو تجرؤ على بعض المحرمات، ولكن عليه المبادرة عند ذلك للتوبة والاستغفار كما قال تعالى: }فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ{([55]).وعلى العبد أن يتواضع لعباد الله ويلين لهم، ويحب لجميعهم الخير، وينصح لهم في كل حالة من أحوالهم، ويحترم الكبير ويحنو على الصغير ويوقر النظير ولا يحقر الناقص في عقله وشرفه ولا الفقير: طوبى للمتواضعين وويل للمتكبرين المتجبرين. للمتواضع والمتكبر علامات لا تخفى على المتأملينالمتواضع ينقاد للحق مع من كان ولا يبالي بترك قول كان يقوله وينصره إذا اتضح له الصواب، والمتكبر يتعصب لأقواله وأفعاله ويعجب بقوله ومقاله، يبين له الحق فيشمخ بأنفه متكبرًا عنه عجبًا بنفسه وتيهًا – وبهذا الخُلق نزل إلى أسفل الدركات- المتواضع يسلم على الصغير والكبير، والشريف والوضيع.ويقبل بوجهه وقوله على من تصدى له حتى يقضي حاجته، ويعاشر كل أحد أكمل معاشرة، والمتكبر لا يسلم ولا يقبل بوجهه على الفقير والحقير وينأى بجانبه عن مجالستهم، ولا يهتم بشأنهم، وإنما يتصدى ويعظم الرؤساء والكبراء خاضعًا لهم بقلبه، معظمًا لهم بلسانه، وهذا أكبر برهان معبر عن رذيلته، ما أقل حظ المتكبرين، وما أعظم خسرانهم المبين، خسروا بتكبرهم الإيمان والأخلاق الجميلة، وخسروا ما أَعده الله للمتواضعين من الثواب وحصلوا على الوبال والعقاب، خسروا محبة الخلق على اختلاف طبقاتهم، فالناس جبلوا على محبة المتواضعين ومقت المتكبرين؛ ومن أظهر من الناس تعظيمهم ومحبتهم، فذلك زور ونفاق يذهب سريعًا.ويح المتكبرين ما أعظم حمقهم وما أضلهم وأجهلهم، بأي وصف يتكبرون، وبأي عمل يتجبرون، من علم أنه مخلوق فقير ناقص من كل وجه فبأي شيء يتكبر، ومن فهم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة وهو بين ذلك يحمل العذرة، فبأي شيء يعجب ويفتخر، تالله إن الفخر كل الفخر بالتواضع لله ولعباد الله.ما وصل للمنازل العالية إلا بالتواضع، ولا أدركت الأخلاق الجميلة إلا بالانقياد للحق وتعظيم حقوق الخلق.المتواضع حبيب إلى الله حبيب إلى عباد الله قريب من الخيرات بعيد عن الشرور والمنكرات، والمتكبر بغيض إلى الله بغيض إلى عباد الله، بعيد عن الإحسان والخيرات، قريب من الشرور والمنكرات، كم حصل للمتواضع من مودة وصداقات، وكم تم له من ثناء وأدعية من الناس مستجابات كم جبر بتواضعه من فقير، وكم حصل له بالتواضع من خير كثير، ما تواضع أحد لله إلا رفعه، ولا تكبر أحد إلا وضعه.التواضع خُلُق الأنبياء والمرسلين، ونعت المتقين والمهتدين والتكبر خُلُق الجبابرة الظالمين، التواضع يزيد الشريف شرفًا ويرفع الوضيع حتى يصل إلى مقامات الأولياء والأصفياء.ما أحلى خلق التواضع وخصوصًا من الأغنياء والأشراف والرؤساء، وما أقبح الكبر من كل أحد وبالأخص من الضعفاء والفقراء.لقد سعد المتواضعون في الدنيا والآخرة، ولقد رجع المتكبرون بالذل والصفقة الخاسرة، قال تعالى: }وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ{([56]).وقال تعالى: }وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا{([57]).فأمر في هذه الآيات بالتواضع وذكر صفات المتواضعين وهم الذين يريدون وجه الله المخلصون لله المتضرعون لربهم في الغداة والعشي الذين يمشون على الأرض هونًا ويخالقون الناس بخلق حسن، ولا يأنفون من أحد ولا يتعاظمون على أحد، ونهى عن التكبر وذكر صفات المتكبرين أنهم الذين غفلت قلوبهم عن الله واتبعوا أهواءهم وانفرطت عليهم أمورهم وخسروا دينهم ودنياهم، وأنهم من تكبرهم يمشون فى الأرض مرحًا وبطرًا ويُصَعِّرون خدودهم على عباد الله ويختالون في قلوبهم وأفعالهم ويفتخرون بأقوالهم، فما أبعد الفرق بين الفريقين، وما أشد التفاوت بين الطائفتين في مقاصدهم وأقوالهم وأفعالهم وصفاتهم.من تواضع لله ولعباد الله كانت جميع اجتماعاته بالناس على اختلاف درجاتهم مغنمًا يكسب بها الخيرات والمثوبة من الله، فإنه يلاقي الناس ويخاطبهم ويجتمع بهم ويعاشرهم بهذه النية الصالحة الفاضلة، وبالكلام اللين الطيب للغني والفقير، والشريف والوضيع، لا يرى لنفسه عليهم فضلاً، ويوطن نفسه على ما استطاع من نفع من اجتمع به؛ فهذه النية وهذا العمل وهذه المعاشرة من هذا المتواضع جميعه قربة يتقرب بها إلى الله ثم يترتب على ذلك محبة الناس وكثرة ثنائهم وأدعيتهم له، وهذا أفضل ما اكتسبه المكتسبون ونافس فيه المتنافسون، وكل من سمع بأخلاقه ولو لم يجالسه أحبه ودعا له، فمن أعظم الغبن والخسران الاستهانة بهذه الأمور الجليلة والخصال الجميلة التي لا تدرك وتنال إلا بخلق التواضع والإخلاص([58]).* * * من تواضع لله رفعهالمسلم يتواضع في غير مذلة ولا مهانة، والتواضع من أخلاقه المثالية وصفاته العالية، كما أن الكبر ليس له، ولا ينبغي لمثله، إذ المسلم يتواضع ليرتفع، ولا يتكبَّر لئلا يخفض، إذ سُنَة الله جارية في رفع المتواضعين له، ووضع المتكبرين. قال رسول الله ﷺ: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلاَّ عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»([59]). وقال: «حق على الله أن لا يرتفع شيءٌ من الدنيا إلا وضعه»([60])، وقال ﷺ: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له (بولس) تعلوه نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال»([61]).والمسلم عندما يصغى بأذنه وقلبه إلى مثل هذه الأخبار الصادقة من كلام الله وكلام رسوله ﷺ في الثناء على المتواضعين مرة، وفي ذم المتكبرين أخرى، وطورًا في الأمر بالتواضع، وأخر في النهي عن الكبر. كيف لا يتواضع ولا يكون التواضع خلقًا له، وكيف لا يتجنب الكبر ولا يمقت المتكبرين؟.قال الله تعالى في أمر رسوله ﷺ بالتواضع: }وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{([62]).وقال له: }وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا{([63]).وقال في الثناء على أوليائه بوصف التواضع فيهم: }يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ{([64]).وقال في جزاء المتواضعين: }تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا{([65]).وقال رسول الله ﷺ في الأمر بالتواضع: « إن الله قد أوحى إلىَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد»([66]). وقال ﷺ في الترغيب في التواضع: «ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم، فقال له أصحابه: وأنت؟ قال: نعم كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكة»([67]).وقال ﷺ: « لو دُعيت إلى كُراع أو ذراع لأجبت، ولو أُهدي إلىَّ ذراع أو كراع لقبلت »([68]).وقال ﷺ في التنفير من الكبر: «ألا أخبركم بأهل النار: كل عتل([69]) جواظ مستكبر»([70]). وقال «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، ومَلِكٌ كذاب، وعَائِلٌ مستكبر»([71]). وقال: «قال الله عز وجل: العزُّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحدة منهما فقد عذبته»([72]). وقال ﷺ: «بينما رجل يمشي، في حلة تعجبه نفسه، مُرَجِّلٌ رأسه، يختال في مشيته، إذ خشف الله به الأرض فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»([73]).من مظاهر التواضع ما يلي: 1- إن تقدم الرجل على أمثاله فهو متكبر، وإن تأخر عنهم فهو متواضع.2- إن قام من مجلسه لذي علم وفضل، وأجلسه فيه، وإن قام سوى له نعله، وخرج خلفه إلى باب المنزل ليشيعه فهو تواضع.3-إن قام للرجل العادي وقابله ببشر وطلاقة، وتلطف معه في السؤال وأجاب دعوته وسعى في حاجته ولا يرى نفسه خيرًا منه فهو متواضع.4- إن زار غيره ممن هو دونه في الفضل، أو مثله وحمل معه متاعه، أو مشى معه في حاجته فهو متواضع.5- إن جلس إلى الفقراء والمساكين والمرضى، وأصحاب العاهات، وأجاب دعوتهم وأكل معهم وماشاهم في طريقهم فهو متواضع.6- إن أكل أو شرب في غير إسراف، ولبس في غير مخيلة فهو متواضع.وهذه أمثلة عالية للتواضع: 1- روي أن عمر بن عبدالعزيز أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه. فقال الضيف: إذًا أنبّه الغلام؟. فقال عمر: إنها أول نومة نامها فلا تنبهه. وذهب إلى البطة وملأ المصباح زيتًا، ولما قال له الضيف: قمتَ أنتَ بنفسك يا أمير المؤمنين؟. أجابه قائلاً: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر، ما نقص مني شيء، وخير الناس من كان عند الله متواضعًا.2- روي أن أبا هريرة t أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة بالمدينة لمروان، ويقول: أوسعوا للأمير ليمر، وهو يحمل حزمة الحطب.3- رُئيِ عمر بن الخطاب مرة حاملاً لحمًا بيده اليسرى، وفي يده اليمنى الدرّة وهو أمير المسلمين وخليفتهم يومئذ.4- روي أن عليًّا t اشترى لحمًا فجعله في ملحفته فقيل له: يحمل عنك يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل.5- قال أنس بن مالك t: «إن كانت الأمَة من إِمَاء المدينة لتأخذ بيد الرسول ﷺ فتنطلق به حيث شاءت»([74]).6- قال أبو سلمة، قلت لأبي سعيد الخدري: ما ترى فيما أحدث الناس في الملبس والمشرب والمركب والمطعم؟ فقال: يا ابن أخي كلْ لله واشرب لله، والبس لله، وكل شيء دخله من ذلك زهوًا أو مباهاة أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف، وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله ﷺ في بيته، كان يعلف الناضج، ويعقل البعير، ويقمُّ البيت، ويحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا أعيا ويشتري الشيء من السوق، ولا يمنعه الحياء أن يعقله بيده، أو يجعله في طرف ثوبه، وينقلب إلى أهله، يصافح الغني والفقير، والكبير والصغير، ويسلم مبتدئًا على كل من استقبله من صغير وكبير، أو أسود أو أحمر، حرًّا أو عبدًا من أهل الصلاة([75]).* * * الكبرياءالكبرياء رذيلة من الرذائل الاجتماعية، تغرس الفرقة والعداوة بين الأفراد فتقضي على التعاون والمحبة بينهم.والكبرياء لا تصرفنا عن محبة بعضنا البعض فقط، بل وتجعل إصلاحنا الأدبي ممتنعًا وذلك بتعامي المتكبر عن نقائصه وعيوبه، وتقدير نفسه فوق قدرها، وصمّ أذنيه عن سماع كل حديث يرفع من حاله سوى حديث المدح والتملق من مادحيه، لأن من أعجبته نفسه أبي أن يسمع النصيحة من غيره فيكون ذلك حائلاً بينه وبين الاستفادة من علم العلماء واقتباس الفضيلة من الفضلاء فينزل إلى هوة من الجهل والضلال.لهذا كان من سنّة الله أن صرف قلوب المتكبرين عن سماع ما أنزله على رسله من البيّنات والهدى؛ لأن هؤلاء المتكبرين كتب الله عليهم الضلالة التي تؤدي بهم إلى غضبه، ذلك من جزاء كبريائهم. قال تعالى: }سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً{([76]).والقرآن يخبرنا أن المستكبرين كانوا أعصى الناس عن الاستجابة لدعوة الرسل لهذا حكى الله عن قوم نبيّه صالح: }قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ{([77]).وحكى الله عن قوم نبيه شعيب: }قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا{([78]).وهؤلاء قوم عاد استكبروا عن سماع هداية الله فكان جزاؤهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة: }فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ{([79]).لهذا توعد الله المتكبرين بالعذاب الأليم في الآخرة فقال سبحانه: }أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ{([80]).أي أليست النار كافية لهم سجنًا وموئلاً بسبب تكبرهم؟ولنتساءل بماذا يفخر المتكبر هل بملاحته وقوته؟ إن الجمال يزول، وأقل مرض يضعفه، وكل يوم يفعل الزمان فعله بجسده إلى أن يصبح بعد سن الشباب موضع الضعف والهرم، وإن تباهى بماله وغناه فليعلمن أن الموت لا يفرق بين الغني والفقير. وأن الإنسان سيترك كل ما يملك إلى غيره لذا جاءت وصايا القرآن تنهى عن الاختيال. قال تعالى: }وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً{([81]).أي ولا تمش متبخترًا كمشي الجبارين فإنك لن تخرق الأرض بمشيك وشدة وطئك، ومهما شمخت بأنفك فلن تبلغ الجبال ارتفاعًا.ويقول تعالى في النهي عن التكبر: }وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ{([82]).أي لا تعرض عنهم بوجهك إذا كلمتهم أو كلموك احتقارًا لهم واستكبارًا.هذا هو التكبر الذي كرهه الله؛ لأنه من الصفات الذميمة التي تفسد المجتمع الإنساني، وتورث البغضاء، فما أحرى بالمربين والمصلحين أن يحاربوه ويبينوا شروره ليحصل المجتمع على المحبة المفقودة بين كثير من الناس([83]). أسباب الكبر – مظاهره – عاقبته - علاجهأخي المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.في كثير من البلاد ينظر الناس إلى من يرتدي الزي العسكري نظرة احترام وإجلال، أو نظرة الخوف والرهبة، وفي كثير من الأحيان يبعث هذا الموقف من الناس شعور الإعجاب بالنفس لدى العسكريين، ذلك الشعور الذي ربما يقود إلى التعالي والكبر، فينزلق صاحبه في هاوية خطيرة، تهدد آخرته بالبوار والدمار، وقد يرتفع هذا الشعور ويزداد عند بعض الناس، حسب درجة ارتفاع الرتبة العسكرية، أو الترقي في المناصب أو الوظائف. ولما كان المؤمن مرآة أخيه، والدين النصيحة، وصديقك من صَدَقَك لا من صدّقك لذا وجب أن يصارح بعضنا بعضًا، وأن يقدم له النصيحة خالصة لله والرسول. إننا نجد داء التكبر والتعالي منتشرًا بين صفوف الكثير منا. فالعسكري يرى نفسه أقوى من المدني، وصاحب الرتبة الأعلى يرى نفسه أفضل من صاحب الرتبة الأدنى عسكريًّا أو مدنيًّا، والغني يرى نفسه أعلى من الفقير، والشريف يظن أنه أكبر من غيره، والقريب يعتقد أنه أعز من الغريب، وميزان الإسلام مختلف عن هذا الميزان تمام الاختلاف، فالتقوى في الإسلام هى الميزة الأساسية التي يتفاضل بها الناس: }إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ{([84]).والتكبر من الأخلاق الذميمة التي حرمها الإسلام أشد تحريم، فهذا إبليس عندما تكبر على آدم عليه السلام وأبى أن يسجد له، كان مصيره الطرد من رحمة الله وجنته، قال تعالى: }فَاْهبِطْ مِنهاَ فَمَا يَكُوُنُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ{([85]).والمتكبرون في الأرض لن ينالوا الهدى من ربهم بل سيصرفهم الله عنه: قال تعالى: }سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ{([86]).أما المتواضعون فهم الذين ينالون رحمة الله، ويفوزون في الآخرة بحسن العاقبة: قال تعالى: }تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{([87]).والكبر أخي المسلم وقانا الله وإياك منه، داء خطير، ومرض كبير، يصيب بعض النفوس البشرية، فيدفعها إلى الانحراف، والغرور والعجب، والفخر، والخيلاء.فما هو هذا الكبر: هو التعالى والتعاظم على الناس، ويقابله التواضع وهو: التنزل بالنفس من غير ابتذال لها، ولا تهاون بقدرها، ولقد عرّف النبي ﷺ الكبر بقوله: «الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس» ومعنى «بطر الحق»: رفض قبوله والاستعلاء عليه، كمن يقع بينه وبين غيره خصومة، ويدينه الناس ولكنه لا يخضع، ولا يعترف أنه مخطئ، فيتعالى ويستكبر، وفي معنى ذلك جحود الحق وإنكاره لأي سبب من الأسباب. أما «غمط الناس»: فمعناه احتقارهم وتصغيرهم وازدراؤهم والترفع عليهم وانتقاصهم.أسباب الكبر: وكما أن لكل مرض سببًا هو الباعث على وجود الداء، ينبغي توقيه، واجتناب مخاطره، والبحث عن سبل الوقابة منه، والعلاج المناسب له، فإن للكبر وهو من أخطر الأمراض النفسية – أسبابًا، ترجع في جملتها إلى شعور المتكبر المغرور بالاستعلاء الذاتي على أقرانه ونظرائه، أو إلى الشعور بالرغبة في الامتياز على الآخرين، والانتفاخ والتعالي عليهم، ورغبة في عدم الخضوع لأحد من الناس، وشعوره بالاستغناء عنهم، وقد يشعر المستكبر بنقص في ذاته أو في عمله، وهو حريص على أن يظل كبيرًا في أعين الناس، ولا يكشف أحد نقصه، فيغطى هذا النقص بالانتفاخ والاستكبار، بدل أن يستره بالتواضع ولين الجانب والتحبب إلى الناس.مظاهر الكبر وآثاره: والكبر له آثار وعلامات تدل عليه، ومن أقبح مظاهره: 1- الاستكبار عن طاعة الله وعبادته: وقد صور القرآن الكريم ما أعده الله لهذا الصنف من البشر، وعلق دخولهم الجنة على أمر مستحيل، وهو دخول الجمل في ثقب الإبرة، قال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ{([88]).ويتجلى هذا النوع من الكبر في حياتنا العملية، فيما لو طلب من العبد أن يتبع حكم الله ورسوله في أمر من الأمور، فتأخذه العزة بالإثم ولا يستجيب لداعي الإسلام، والحديث الآتي يضرب لنا مثلاً على ذلك: روى مسلم عن سلمة بن عمرو بن الأكوع: أن رجلاً أكل عند رسول الله ﷺ بشماله فقال له: «كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت. ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه» فهذا النوع من الاستكبار عن طاعة الله ورسوله، قد يقع فيه كثير من الناس حين يعرض عن الامتثال لأوامر الله ورسوله في حكم من الأحكام.2- ومن مظاهر الكبر: تصعير الخد للناس: وهو إمالة الوجه أو لوي العنق أو الرأس إعراضًا عن الناس, وتكبرًا عليهم, أو تعاميًا أو تجاهلاً, أو ازدراءً وتصغيرًا لهم. وقد نهانا الله سبحانه عن ذلك في قوله: }وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ{([89])3- ومن مظاهر الكبر وآثاره: المشي في الأرض على وجه المرح والاختيال والعجب والغرور والخيلاء والتبختر والفخر, وقد نهانا الله عن ذلك في قوله: }وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً{([90]).ووصف ربنا عباد الرحمن بأنهم: }...يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا...{([91]) والمشي على الأرض أخي المسلم لا يعني فقط مشي القدمين, وإنما يشمل المشي بجميع أنواع المواصلات.فالقرآن يخاطب قائد السيارة وقائد الدراجة النارية، وقائد الطائرة والسفينة.. قائلاً: هون عليك يا من تختال وتسرع في مشيتك, فمهما أوتيت من قوة, فإن الأرض أقوى منك, وإن تحدّيتها هشمت جسمك وحطمته, ومهما أسرعت في خطواتك فلن تبلغ الجبال طولاً. فمهلاً بنفسك إن كنت مغرورًا متكبرًا، تواضع لله, وارفق بنفسك وبالآخرين, ولا تُعرَّض حياتك وحياتهم للخطر, ولا تعبث بما آتاك الله من مال, وامتثل أمر الله تعالى: }وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...{([92]).4- ومن مظاهر الكبر إطالة الثوب وجره على الأرض: فإن الإِسبال لا يجوز مطلقًا, لما أخرجه البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «ما أسفل من الكعبين من الإِزار ففي النار» فإن كان الإِسبال على سبيل الكبر والخيلاء والعجب, فإن فاعله ممن قال فيهم رسول الله ﷺ: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»([93]) وإذا كان المسبل لا يقصد كبرًا ولا خيلاء، فإن فعله هذا فيه تشبه بالنساء, وتعريض الثياب للوسخ والنجاسة, وهو وسيلة للكبر والخيلاء, وعموم الأحاديث تحرمه, ومظهر المسبل لا يتفق مع الهيئة التي يريدها الإِسلام للمسلم بل يخالفها, وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «بينما رجل يمشي في حلة, تعجبه نفسه, مرجل رأسه, يختال في مشيته إذ خسف الله به, فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» وفي معنى الثياب كل إزار يلبسه المسلم, (كالبشت) أو (البنطلون) أو غير ذلك.5- ومن مظاهر الكبر وآثاره: الاستهزاء بالناس والسخرية منهم, واللمز, وهو الإِشارة بالأصبع أو ببعض حركات الوجه إلى شخص حاضر, على سبيل الاحتقار والتنقيص, وقد تصحب هذه الإشارة: الكلام الخفي, والهمز مثل اللمز إلا أنه يكون في غيبة الشخص ولا يصحبه كلام خفي، وقد نهانا الله تعالى عن ذلك في قوله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ{([94]) 6- ومن مظاهر الكبر: الترفع عن مجالسة الفقراء والضعفة من الناس والتأفف عن مخالطتهم, ولقد قاوم الإِسلام هذا النوع من الكبر الطبقي, حينما أنِفَ فريقٌ من ذوي الوجاهة والمكانة من المشركين أن يجلسوا مع رسول الله ﷺ بسبب وجود عبيد وفقراء ومساكين من المسلمين فطلبوا من النبي ﷺ أن يطردهم من مجلسه, أو يخصص لهم مجلسًا آخر, يليق – في نظرهم – بذوي المكانة والرئاسة, فأنزل الله تعالى: }وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...{([95]) وأمره ربه أن يصبر نفسه مع فقراء المؤمنين وضعفائهم فقال تعالى: }وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...{([96]).ومن مظاهر الكبر: أن يسرَّ الشخص إذا قام له الناس وقوفًا.. أو أن يتنحى أحدهم من صدر المجلس ليجلس مكانه.. فإذا لم يقم له الناس, أو يجلس في الصدارة.. غضب لذلك.. وربما أضمر في نفسه سوءًا لبعض الجالسين.. ولا سيما إن كان أدنى منه منزلة في دنيا المناصب أو الماديات.. ولم يكن لرسول الله ﷺ مجلس معين يعرف به بين قومه لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس, وربما جلس خلف بعض الناس. فيجيء الغريب فلا يعرف من هو محمد من بين القوم, فيسأل: أين محمد؟ وكان ﷺ يكره أن يقوم له أصحابه إذا أقبل, ويقول: «إذا رأيتموني فلا تقوموا كما تصنع الأعاجم» ويقول: «من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار»([97]) وكان ﷺ ينهى أن يقام الرجل من مجلسه ليجلس فيه آخر, ولكن ينصحهم بالتوسع والتفسح, فإذا دعا شخص شخصًا ليجلس بجواره عن طيب نفسه – فليجبه, فإنما هي مكرمة أكرمه بها أخوه.8- ومن مظاهر الكبر المختلفة: تزكية النفس وحب الظهور, وحكاية الأحوال للغير على وجه المفاخرة والتكاثر, ومن ذلك التفاخر بالنسب والأصل والقبيلة أو الوظيفة والرتبة, أو العقار والأموال، ويكون الكبر كذلك بالمبالغة والتقعر في الكلام, أما التكبر بالعلم أو العبادة فخطره عظيم وآثاره وخيمة.. وللكبر آثار ومظاهر كثيرة لا يتسع لها المقام, ولكن المسلم لا يغيب عنه تمييز علامات الكبر من التواضع, وعليه أن يستفت قلبه، فيبتعد عن كل ما يشعر بالعلو والرفعة عن الغير ويفعل ما يقربه من الله ويحبب الناس فيه.عاقبة الكبر: أما جزاء المستكبرين الذي أعده الله لهم في الدار الآخرة, فهو دخول النار, والعياذ بالله – والحرمان من دخول الجنة, والناس تطأ المستكبرين يوم القيامة بأقدامهم, حيث يحشرون على صورة الذر, جزاءً وفاقا لكبرهم في الدنيا, وهوانهم على الله تعالى, قال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ{([98]).وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر, فقال رجل: إن الرجل منا يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا فقال ﷺ: إن الله جميل يحب الجمال, الكبر بطر الحق وغمط الناس» فبين عليه الصلاة والسلام أن الجنة تحرم على من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر وأن حسن المظهر وجمال الهيئة ليسا من الكبر في شيء.علاج الكبر: أخي المسلم: يكون علاج الكبر بتذكر النفس لأصلها, وأنها خلقت من نطفة قذرة, ثم تعود جيفة منتنة, وهو بين المبدء والمنتهى يحمل بين جنبيه حين يمشي على وجه الأرض – متجبرًا متكبرًا (في بطنه)النجاسة والقاذورات, (البراز والمخاط) وغيرهما, فعلام التكبر والاستعلاء..؟ ويكون علاج الكبر كذلك بالتواضع ولين الجانب وهضم النفس, ومعالجتها, وإن لم تكن هذه الصفات موجودة في الإنسان فإنه يتكلفها, ويحاول الاتصاف بها حتى تصبح طبعًا له. نماذج من التواضع: وسأذكر لك أخي المسلم بعض الأمثلة الحية للتواضع ليكون لنا في ذلك أسوة حسنة: (أ) 1- كان من صفات قدوتنا ﷺ أنه يعلف بعيره ويعقله, ويكنس بيته, ويحلب شاته بنفسه, ويخصف نعله, ويرقع ثوبه, ويأكل مع خادمه, ويطحن عنه إذا تعب, ويشتري الشيء من السوق فيحمله إلى أهله بنفسه, ويصافح الغني والفقير, والكبير والصغير, ويبتدئ بالسلام على كل من استقبله. 2- دخل عليه رجل وهو يرتعد خوفًا من هيبته فقال له ﷺ: «هون عليك, فأنا لست بملك ولا جبار, إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة». 3- وفي غزوة بدر كان يتناوب الركوب مع اثنين من أصحابه على بعير واحد كسائر أفراد الجيش ولما أراد أحدهما أن يؤثره بنوبته في الركوب, قال: «ما أنتما بأقوى مني على المشي, وما أنا بأغنى منكما عن الأجر».(ب) 1- وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t رآه بعض الصحابة يومًا يحمل على عاتقه قربة ماء, فقالوا له: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا, فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين, دخلتْ نفسي نخوة (عجب) فأردت أن أكسرها! 2- وكان يتناوب مع خادمه الركوب على دابة واحدة حين ذهب إلى فلسطين فاتحًا ولما جاء دوره ليمشي صادف ذلك ساعة الوصول إلى بيت المقدس وكان في استقباله القساوسة والرهبان فأبي الخادم أن يركب, ولكن عمر أصر على عدالة القسمة بينه وبين خادمه, ودخل عمر المدينة وهو يقود زمام الناقة لخادمه, فما زاده ذلك في أعين القوم إلا إجلالاً وإكبارًا.(ج) 1- ولما تفاخرت قريش أمام سلمان الفارسي, قال: (لكنني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة, ثم آتي الميزان, فإن ثقل فأنا كريم, وإن خفّ فأنا لئيم)!!فتواضع يا أخي المسلم, يحبك الله ويحبك الناس, ولا تكن متكبرًا فتخسر محبة الناس في الدنيا, ونعيم الله في الآخرة([99]). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،* * *مما قاله بعض الشعراء فيالتواضعإن شئت أن تبني بناءً شامخًا يلزم لذا البنيان أسٌّ راسخُ إن البناء هو الكمال وأُسَّه ال صَّخريُّ فهو الإِتَّضاعُ الباذخُ ***تواضع لرب العرش عَلَّك تُرفعُ فما خاب عبدٌ للمُهيمن يَخضعُ ***تواضع تكُنْ كالنّجْم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيعُ ولا تك كالدُّخان يعلو بنفسه إلى طَبقات الجوّ وهو وضيع * * *إذا شِئْتَ أن تزداد قدرًا ورفعة فَلِن وتواضع واترُك الكبر والعجبا ***تواضع إذا ما نِلْتَ في الناس رِفعة فإنّ رَفيعَ القوم من يتواضعُ التكبر والهوىوسل العياذ من التكبر والهوى فهما لكل الشر جامعتان وهما يصدان الفتى عن كل طر ق الخير إذ في قلبه يلجان فتراه يمنعه هواه تارة والكبر أخرى ثم يشتر كان والله ما في النار إلا تابع هذين فسأل ساكني النيران والله لو جردت نفسك منهما لأتت إليك الوفود كل تهان * * *وقد وصف بعض الشعراء الإِنسان فقال: يا مُظْهِرَ الكبرِ إعجابًا بصوُرتِه انظر خَلاَكَ فإن النتْنَ تثريبُ لو فكر الناس فيما في بطونِهم ما استشعرَ الكبر شُبانُ ولا شِيبُ هل في ابن آدم مثلُ الرأس مكرمةٌ وهو بخَمْسِ من الأقذارِ مَضرُوبُ أنفٌ يسيل وأُذن ريحها سَهِكٌ والعينُ مرفضةٌ والثغرَ ملعوبُ يا بنَ الترابِ ومأكولَ التراب غَدًَا أقصِرْ فإنك مأكولُ ومشروبُ * * *([1]) رياض الصالحين للنووي بتحقيق شعيب الأرنؤوط ص293-296.([2]) سورة الشعراء: آية 215.([3]) سورة المائدة: آية 54.([4]) سورة الحجرات: آية 13.([5]) سورة النجم: آية 32.([6]) سورة الأعراف: آية 48-49.([7]) أي: لا تعتدي عليه. ([8]) مسلم (2865) (64).([9]) مسلم (2588) وذكروا في معنى قوله: «ما نقصت صدقة من مال» وجهين: أحدهما: أن النقصان في المال عائد إلى الدنيا بالبركة فيه ودفع المضرات عنه، والثاني: أنه عائد إلى الآخرة بالثواب والتضعيف.([10]) البخاري 11 / 27، ومسلم (2168) (15).([11]) أي: الجارية. ([12]) البخاري 10/408، 409، تعليقًا ولفظه: وقال محمد بن عيسى: حدثنا هشيم، أخبرنا حميد الطويل، حدثنا أنس. وأخرجه أحمد موصولاً عن هشيم شيخ محمد بن عيسى به.([13]) البخاري 10/385، وأخرجه أحمد 6/49 و126 و206.([14]) مسلم (876).([15]) قال الخطابي: عاف قوم أفسد قلوبهم الترفّة لعقها، وزعموا أنه مستقبح، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع جزء ما أكلوا، إذًا لم يستقذر بعضه، وليس فيه أكثر من مصها بباطن الشفة؟ ولا يشك عاقل أن لا بأس بذلك، وقد يدخل إنسان أصبعه في فيه، ويدلكه ولم يستقذر ذلك أحد.([16]) أي: فليزل. وقوله: «وأمر أن تسلت القصعه» أي: تلعق.([17]) مسلم (2034).([18]) البخاري 4/363.([19]) "الكراع" – على وزن "غراب" – من البقر والغنم وهو مستدقُ الساق وهو بمنزلة الوظيف من الفرس.([20]) البخاري 5/147.([21]) المصدر السابق ص296-298.([22]) سورة القصص: آية 83.([23]) سورة الإسراء: آية 37.([24]) سورة لقمان: آية 18.([25]) سورة القصص: آية 76.([26]) أي: فليس ذلك من الكبر.([27]) مسلم (91)، وأخرجه أبو داود (4091)، والترمذي (1999).([28]) مسلم (2021).([29]) البخاري 8/507، 508 و10/408، ومسلم (2853).([30]) مسلم (2847). ([31]) البخاري: 10/219، 220، ومسلم (2087) وأخرجه مالك في "الموطأ" 2/914.([32]) مسلم (107).([33]) مسلم (2620)، وأخرجه أبو داود (4090).([34]) الحلة: بضم الحاء المهملة: ثوب له ظهارة وبطانة.([35]) البخاري: 10/221، 222، ومسلم (2088).([36]) الترمذي: (2001)، وفي سنده عمر بن راشد اليمامي وهو ضعيف.([37]) مدارج السالكين لابن القيم 2/327-333. ([38]) سورة الفرقان: آية 63.([39]) سورة المائدة: آية 54. ([40]) سورة الفتح: آية 29.([41]) سورة الزمر: آية 72. ([42]) سورة غافر: آية76.([43]) سورة النحل: آية 29. ([44]) سورة الزمر: آية60.([45]) سورة غافر: آية35.([46]) سورة النساء: آية48 و116.([47]) سورة هود: آية 123. ([48]) سورة البقرة: آية 21.([49]) سورة فصلت: آية 6.([50]) سورة النساء: آية 172.([51]) سورة آل عمران: آية 193.([52]) سورة غافر: آية 60.([53]) سورة آل عمران: آية 159.([54]) سورة القلم: آية 4.([55]) سورة فصلت: آية 6.([56]) سورة لقمان: آية 18-19.([57]) سورة الكهف: آية 28.([58]) الرياض الناضرة للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى ص105-112.([59]) رواه مسلم.([60]) رواه البخاري.([61]) رواه النسائي والترمذي وحسنه.([62]) سورة الشعراء: آية 215.([63]) سورة الإسراء: آية 37.([64]) سورة المائدة: آية من 54.([65]) سورة القصص: آية83.([66]) مسلم.([67]) البخاري.([68]) البخاري.([69]) العتل: هو الغليظ الجافي، والجواظ: هو الجموع المنوع. أو هو الضخم الجسم المختال. ([70]) متفق عليه.([71]) مسلم.([72]) مسلم.([73]) متفق عليه.([74]) البخاري.([75]) منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري ص 178-181.([76]) سورة الأعراف: آية 146.([77]) سورة الأعراف: آية 75-77.([78]) سورة الأعراف: آية 88.([79]) سورة فصلت: آية 15-16.([80]) سورة الزمر: آية 60.([81]) سورة الإسراء: آية 37.([82]) سورة لقمان: آية 18.([83]) روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة ص220-222.([84]) سورة الحجرات: آية 13([85]) سورة الأعراف: آية 13([86]) سورة الأعراف: آية 146.([87]) سورة القصص: آية 83.([88]) سورة الأعراف : آية 40-41.([89]) سورة لقمان : آية 18([90]) سورة الإسراء : آية 37([91]) سورة الفرقان: آية 63.([92]) سورة لقمان : آية 19 ([93]) أخرجه البخاري عن عبدالله بن عمر.([94]) سورة الحجرات : آية 11.([95]) سورة الأنعام : آية 52.([96]) سورة الكهف : آية 28.([97]) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن معاوية بسند صحيح. ([98]) سورة غافر: آية 60([99]) إرشادات على الطريق من إعداد إدارة الشئون الدينية بالأمن العام ص 39-53.