البحث
كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...
العربية
المؤلف | ناصر بن مسفر الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن ذكر الله تعالى? مرضاة للرحمن، ومجلبة للرزق، يكسو المهابة، ويورث المحبة والإنابة، والمراقبة والقرب، وهو حياة القلب؛ إنه يحط الخطايا، ويبعث السكينة؛ إنه نور في الدنيا، ونور في القبر، ونور يوم القيامة؛ إنه علامة من المحب على? شدة حبه، وصدق وداده، وعظيم اشتياقه، فمَن أحَبَّ شيئاً أكثَرَ مِن ذِكره ..
جعل الله تعالى لعباده مواسم جليلة، وشعائر عظيمة، لإقامة ذكره، والترنم بشكره، والتغني بالثناء عليه؛ بل إن هذا الدين بمجموعه ما هو إلا فيوض من الذكر والشكر، والثناء والدعاء؛ وإن من أقوى السبل لنيل محبته -جل وعلا- والترقي في منازل رضوانه هو كثرة ذكره، فذلك هو برهان الحب، ودليل الإجلال، وبريد المودة.
إنه -تعالى- يحب الذكر، ويرفع أهله، ويعظم ثوابه؛ فهو كذلك حياة للقلوب، وسلوة للنفوس، وبهجة للضمائر، وغذاء للأرواح، وقوة للأبدان، وجلاء للهموم، وذهاب للغموم، وانشراح للصدور، ونشاط للهمم، وضياء في الوجوه، وملجأ في النوازل، وملاذ في الشدائد، وطمأنينة في الحياة، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
أبَداً نُفُوسُ المؤمِنيـ | ـنَ إلى رضا الباري تَحِنُّ |
وقُلُوبُهُمْ بالذِّكْرِ والتـ | ـسبيحِ دَوْماً تَطْمَئِنُّ |
إن المتأمل لأركان هذا الدين يجدها مليئة بالذكر، فائحة بالعطر، هاتفة بالفكر، فأول الأركان، وأعظم الأسس، وأجل القواعد، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبها يدخل المرء الإسلام، ويحقق الإيمان، وهي رأس الملة، وعنوان الدين، وبها تنال جنة رب العالمين.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، حرّم الله عليه النار" أخرجه مسلم، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حُرم ماله ودمه، وحسابه على الله -عز وجل-" أخرجه مسلم.
لا إله إلا الله لو وضعت في كفة والسماوات والأرضون في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله، وهي ذكر وثناء ودعاء، وأفضل ما ترنم به بشر، ونطق به إنسان، ونادى به ذاكر، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قلبي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهي على كل شيء قدير".
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة خطيئة، وكانت حرزاً له من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحداً عمل أكثر مما عمل".
وهكذا تظل شهادة أن لا إله إلا الله ذكراً عظيماً، بل أحب الكلام إلى الله، بها يُستدر عطفه، وينال فضله، ويعظم شأنه، ويعترف بتوحيده.
والركن الثاني من أركان الإسلام ما هو إلا إقامة لذكر الله تعالى في أبهى الصور، وأجمل الحلل، وهو الصلاة، يقول تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14].
والركن الثالث إيتاء الزكاة، فهي تحمل في ثناياها عبقاً زاكياً من الشكر والذكر لله تعالى، فهي ذكر بلسان الحال والمقال للمنعم المتفضل الذي أعطى ورزق وجاد وأكرم.
والركن الرابع صوم رمضان، وهو إعلان للشكر، وبستان للذكر، بل هو حدائق غناء، وزهور فواحة، وورود عاطرة بذكر الله -جل وعلا-؛ فإنَّ كَبْحَ جماح النفس، والتخفيف من المباحات، والتعود على الصبر، كلها أمور تزكي النفوس، وترقق المشاعر، وتهذب الأحاسيس، وترتقي بالقلوب والأرواح إلى عوالم علوية، ومطامح إيمانية، تستنطق الألسنة بذكر المنعم الأجَل المتفضل الغفور الشكور.
ولذلك تجد الإنسان في رمضان تحيا نفسه، وينمو يقينه، ويقترب من خالقه، ويكثر من ذكره، ثم تتهيأ للمرء أمور جليلة في رمضان تعينه على ذكر ربه، بل تجعل من شهره بدائع من كلمات الذكر، ونفائس من لحظات المناجاة؛ فهذه قراءة القرآن في رمضان وهي أحسن الذكر، وأمتع الكلام؛ وهذه هي صلاة التراويح، وما يحف بها من قراءة وذكر وتسبيح، وتحميد وتقديس ودعاء، ورجاء ونداء.
وكذلك الركن الخامس من أركان الدين، وهو الحج، ما هو إلا لإقامة ذكر الله -جل وعلا-، وحسن الثناء عليه، وذلك أمر بيّن: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج: 28]، (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة:200].
وهكذا تتجلى هذه الروعة الباهرة في هذا الدين وأركانه، حيث تبدو ذكراً وشكراً وثناءً ودعاءً لجلال الواحد الأحد، وذلك من تمام فضله، ومن كمال جوده، فهو الغني عنا وعن ذكرنا وشكرنا ودعائنا، ولكنه مع ذلك يحبه منا، بل ويحبنا لأجله، ويرفع درجاتنا به، فسبحانه ما أعظمه! هدانا لذكره، وأعاننا على شكره، ثم يثيبنا أحسن الثواب، ويجزينا أفضل الجزاء! جل ذكره، وتقدست أسماؤه، وتبارك وتعالى.
كل هذا الكلام كان تمهيداً ومقدمة وتنبيهاً للتذكير بهذا الموضوع الأجل الذي يرفع الدرجات، ويغفر الزلات، ويحبه الله تعالى، ومع ذلك فأكثر الناس عنه في غفلة مع يسره وسهولته، فما هو إلا تحريك لهذا اللسان الذي هو نعمة من نعم الله على العبد بذكر ربه وشكر خالقه، فهو عبادة يسيرة، وطاعة كبيرة، وقربة جليلة.
إن المرء بإمكانه في دقيقة واحدة أن يذكر ربه أكثر من مائة مرة، ومع ذلك تمر بالإنسان في اليوم والليلة 1440 دقيقة، وقل أن يذكر الله فيها، مع أنه غراس الجنة، ومهر الوصل، وعربون الرضا.
ويكفي بياناً لمنزلة الذكر، وشرحاً لمكانته، وتحبيباً فيه، وإعلاء لشأنه، أن به يذكر الله عبده في عليين، ويشيد باسمه في ملكوته، ويباهي به ملائكته، ويتكرم هو -جل وعلا- بذكره، فيقول تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، ويقول -تعالى- في حديث قدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" أخرجه البخاري ومسلم.
إن الذاكرين لله تعالى والذاكرات هم أسبق الناس إلى ربهم، وأحبهم على خالقهم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "سبق المفردون"، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" أخرجه مسلم.
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله في كل أحيانه وأحواله، ولم يكن يفتر لسانه من ذكر ربه وتسبيحه وتحميده، وتهليله واستغفاره ودعائه ورجائه، وكان يعلِّم أصحابه ذلك، بل ويشد أذهانهم، ويستثير هممهم، ويحرك عزائمهم، ويطرب أسماعهم بحسن الترغيب والتحبيب في ذكر الحبيب، فيقول لهم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم و وأزكاها عن مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟"، قالوا: بلى. قال: "ذكر الله تعالى" أخرجه الترمذي وصحَّحه الحاكم.
إن المسلم إذا ضعف عن بعض الطاعات، أو قصر في بعض الواجبات، فلا يجدر به أن يقصر في هذا الميدان الجليل، والملاذ الجميل، فيه يسبق السابقين، وينافس المتنافسين، ويستدر رحمة رب العالمين، ورب كلمات خاشعات ذاكرات من قلب منيب منكسر تعدل مئات الركعات أو الصدقات.
يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: ثبت أن غاية الخلق والأمر أن يُذكر الله تعالى وأن يُشكر، يُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، وهو -سبحانه- ذاكر لمن ذكَره، شاكر لمن شكره. ويُروى أن موسى -عليه السلام- قال: رب أي الأعمال أحب إليك أن أعمل به؟ قال: تذكرني فلا تنساني.
وقال ذو النون -عليه السلام-: "من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه".
إن ذكر الله تعالى مرضاة للرحمن، ومجلبة للرزق، يكسو المهابة، ويورث المحبة والإنابة، والمراقبة والقرب، وهو حياة القلب؛ إنه يحط الخطايا، ويبعث السكينة؛ إنه نور في الدنيا، ونور في القبر، ونور يوم القيامة؛ إنه علامة من المحب على شدة حبه، وصدق وداده، وعظيم اشتياقه، فمَن أحب شيئاً أكثر من ذكره.
إنه انشراح الصدر، وجلاء الهم، ورفعة الدرجة، وسبب السعادة، وأساس الدين، وعنوان اليقين، وسمة المؤمنين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.
وأخيراً، هذا ربكم يناديكم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41-42].