البحث

عبارات مقترحة:

الوتر

كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

بالصبر تطيب الحياة وتهنأ

العربية

المؤلف خالد بن سعد الخشلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. احتياج المسلم إلى طمأنينة القرآن .
  2. أهمية الصبر في حياة المسلم .
  3. ثمرات الصبر في الدنيا والآخرة .
  4. أنواع الصبر .
  5. من مجالات الصبر .

اقتباس

في الدنيا لا تحقق الآمال ولا تنجح المقاصد ولا يؤتي عمل أُكُلَه إلا بالصبر، فمن صبر ظفر، ومن عدم الصبر لم يظفر بشيء، لولا صبر الزارع على بذره ما حصد، ولولا صبر الغارس على غرسه ما جنى، ولولا صبر الطالب على درسه ما تخرج... وهكذا كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر، استمرؤوا المر واستعذبوا العذاب واستهانوا بالصعاب حتى تحقق لهم المراد.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل-، اتقوا الله في جميع أعمالكم وتصرفاتكم وأقوالكم وأفعالكم، اتقوا الله -عز وجل- في حياتكم كلها، اجعلوا تقوى الله أهم مطلب تسعون لتحقيقه في هذه الدنيا، وأعظم هدف تسعون للوصول إليه في هذه الدنيا، فإن من اتق الله -عز وجل- عاش في هذه الدنيا سعيدًا ومات حميدًا وبعث يوم القيامة برحمة الله -عز وجل- فرحًا مستبشرًا مسرورًا، جعلني الله وإياكم ممن عمرت التقوى قلوبهم، وهذبت جوارحهم، وزكت نفوسهم وصدورهم، وقوّمت أعمالهم وجوارحهم، إن ربي على كل شيء قدير.

أيها الإخوة المسلمون: إن المسلم بحاجة ماسة إلى أن يستمطر من كتاب ربه -عز وجل- رحمات، ويبحث في  كتاب ربه -عز وجل- عن الأنس والسكينة والطمأنينة، لاسيما في أزمنة الابتلاء والفتن والشدائد؛ لأن هذا القرآن الكريم هو الهدى، هو الضياء، هو العلاج، هو الشفاء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57]، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء:9].

هذا هو كتاب الله -عز وجل-، كتاب الرحمة، كتاب الهدى، كتاب النور، كتاب الحياة، به تحيا القلوب، به تحيا النفوس وتزكو، لقد تضمن هذا الكتاب الكريم والذكر المبين ما يضمن للمسلم السعادة في الدنيا والفلاح والفوز في الآخرة.

إنها الحقيقة التي نطقت بها نصوص القرآن الكريم: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124].

إن من الموضوعات المهمة التي تناولها القرآن الكريم وأبدى فيها وأعاد في سوره وآياته موضوع الصبر، حيث ورد ذكر الصبر في القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعًا كما نقل عن الإمام أحمد -رحمه الله-.

إن الصبر -أيها الإخوة المؤمنون- ضرورة دنيوية كما هو ضرورية دينية، إنه لا نجاح في الدنيا ولا فلاح في الآخرة إلا إذا تدرع المسلم بالصبر.

في الدنيا لا تحقق الآمال ولا تنجح المقاصد ولا يؤتي عمل أُكُلَه إلا بالصبر، فمن صبر ظفر، ومن عدم الصبر لم يظفر بشيء، لولا صبر الزارع على بذره ما حصد، ولولا صبر الغارس على غرسه ما جنى، ولولا صبر الطالب على درسه ما تخرج... وهكذا كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر، استمرؤوا المر واستعذبوا العذاب واستهانوا بالصعاب حتى تحقق لهم المراد.

هذا بالنسبة للنجاح في الدنيا، أما الفلاح في الآخرة، أما النعيم يوم القدوم على الله -عز وجل-، أما الفلاح الأخروي والنجاح الأخروي الذي لا نجاح بعده ولا فلاح بعده فالحاجة فيه إلى الصبر آكد، والضرورة إليه أشد وألزم.

إن الصبر -أيها الإخوة المسلمون- سبب دخول الجنة، إن الصبر -يا عباد الله- سبب النجاة من النار، لأنه كما جاء في الحديث: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".

يحتاج المؤمن في هذه الدنيا إلى صبر على المكاره ليدخل الجنة، وإلى صبر على الشهوات لينجو من عذاب الله وناره.

إن الصبر -أيها الإخوة المؤمنون- ضرورة في الدنيا، ليس للمؤمن فحسب، بل لسائر البشر، والله -عز وجل- يقول في كتابه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]، فالإنسان في شدة، في مشقة من حين ولادته لما يعانيه من شدائد الحياة الممزوجة لذاتها بالآلام، وإذا كان هذا شأن الإنسان عامة فأهل الإيمان على وجه الخصوص أشد تعرضًا للأذى والمحن والابتلاء في دينهم وأموالهم وأنفسهم وكل عزيز لديهم، فقد اقتضت حكمة الله -عز وجل- أن يكون للمؤمنين أعداء يمكرون بهم ويكيدون لهم ويتربصون بهم الدوائر.

يقول الله -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام:112]، اقتضت حكمة الله -عز وجل- أن يكون للمؤمنين من الأنبياء والرسل وأتباع الرسل إلى يوم القيامة أن يكون لهم أعداء يمكرون بهم ويكيدون لهم ويتربصون بهم الدوائر.

كذلك جعل الله لآدم إبليس، وجعل لإبراهيم النمرود، وجعل لموسى فرعون، وجعل لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أبا جهل وأمثاله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا).

وكذلك يكون المؤمنون من أتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم أشد الناس بلاءً بعد الأنبياء، الأمثل فالأمثل: (مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].

إن الجنة -أيها الإخوة المسلمون- لابد لها من ثمن، إن الجنة سلعة الله الغالية، فلا مفر من الثمن لمن أراد دخولها والنعيم بها، قد دفع الثمن أصحاب الدعوات من قبل فلابد أن يدفعه إخوانهم من بعد، وهذا هو ثمن الجنة: الصبر على البأساء، الصبر على البلاء، الصبر على الشدائد تصيب الأموال، والضراء تصيب الأبدان، والزلزلة تصيب النفوس.

إن المسلم مطالب بأن يصبر في مجالات كثيرة من هذه المجالات الدنيوية، الصبر على بلاء الدنيا، وهذا ما لا يخلو منه بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر ولا سيد ولا مسود ولا رئيس ولا مرؤوس، وما رأينا في هذه الدنيا أحد يسلم من آلام النفوس وأسقام البدن وفقدان الأحبة وخسران المال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ)، أي جميعكم (بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:157].

ومن الصبر: الصبر عن مشتهيات النفوس، والصبر عما تشتهيه النفس ويميل إليه الطبع من متاع الدنيا وزينتها وشهواتها التي يسوق إليها الهوى ويزينها الشيطان.

إنه الصبر عن الاستجابة لمتاع الحياة الدنيا وزينتها إذا أقلبت على الإنسان، إنه الابتلاء بالسراء لا بالضراء وبالغنى لا بالفقر، إن المؤمن محتاج في هذه الدنيا إلى الصبر عن ملاذ الدنيا فلا يطلق لنفسه العنان بالجري وراء شهواتها المحرمة أو حتى شهواتها التي تصده عما هو أفضل له في دينه ودنياه وفي دنياه وآخرته.

وهذا اللون من الصبر -أي الصبر على السراء والرخاء- أشد من الصبر على الضراء؛ لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه إذا حضرت الأطعمة.

ولهذا قال بعضهم: "ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وابتلينا بفتنة السراء فلم نصبر".

ومن مجالات الصبر في حياة المسلم -وهو من أعظم مجالات الصبر- الصبر على طاعة الله، الصبر على عبادة الله، الصبر على القيام بواجب العبودية لله -سبحانه وتعالى-، الصبر على تلمس مراضي الله -عز وجل- والإقدام على فعلها، والإقدام على تبصر المواضع التي يكرهها الله -سبحانه وتعالى- والبعد عنها واجتنابها.

وفي مثل هذا من الطاعة -أعني الصبر على الطاعة أعني الصبر على العبادة- يخاطب الله رسوله بقوله سبحانه: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم:65].

وتأمل هذه اللفظة الفريدة في كتاب الله -عز وجل-: (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)، إنها لتدل دلالات عميقة على عظم الصبر الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم وهو يقوم بالتكاليف والطاعات والعبادات التي أمره الله -عز وجل- بها.

إنه اصطبار عليها على الرغم من النفس الأمارة بالسوء، والأهواء الصادة عن الحق، وشياطين الإنس والجن، ومع ذلك يقوم المسلم بهذه المهمة: الاصطبار على الطاعة والعبادة ابتغاءً للمثوبة والأجر من الله -عز وجل-.

والمؤمن في طاعة الله -أيها الإخوة المسلمون- يحتاج إلى الصبر في ثلاث حالات على الإجمال:

الحالة الأولى: الصبر قبل الطاعة، وذلك بتصحيح النية وتخليص القصد، والصبر عن شوائب الرياء وعقد العزم على الإخلاص والوفاء بأن يكون محركه ودافعه وسالكه نحو الطاعة طلب مرضاة الله -عزّ وجل-، طلب مثوبته، طلب أجره وثوابه.

والحالة الثانية: الصبر حال أداء الطاعة كي لا يغفل عن الله أثناء عبادته، ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن للعبادة التي يعملها.

وأما الحالة الثالثة التي يحتاج إليها المسلم إلى الطاعة فهي الصبر بعد الفراغ من الطاعة والعبادة؛ إذ يحتاج المسلم في هذه الحال إلى الصبر عن إفشاء أمر عبادته والتظاهر بها أمام الناس بالسمعة والرياء، والصبر عن النظر إلى عبادته بعين العُجب والفخر، وأن يدل على الله -عز وجل- بعبادته، وهي أمور تحدثه نفسه أحيانًا أن يفعلها، ولكن المسلم ليكون مخلصًا قبل عبادته وأثناء عبادته وبعد عبادته يراعي هذه المعاني كلها ويصبر عليها.

ومن مجالات الصبر: صبر المسلم في مجال الآداب والعلاقات الاجتماعية بينه وبين الناس قربوا أم بعدوا، فالعلاقات الزوجية مثلاً لا تستقيم ولا تستقر إلا بأن يكون الزوجان يصبر كل واحد منهما على صاحبه، ويحتمل منه بعض ما لا يروقه، وفي هذا يقول الله -عز وجل-: (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء:19].

وهذا النوع من الصبر مطلوب كذلك في علاقة الأبناء مع آبائهم، والجيران مع جيرانهم، والأقارب مع أقاربهم، والأصدقاء مع أصدقائهم، يصطحب المسلم في ذلك كله الحلم والأناة والصفح والعفو عن الزلة، وكظم الغيظ وإلجام النفس عن دواعي الغضب والانفعال.

هذه -أيها الإخوة المسلمون- نماذج من بعض جوانب الصبر التي يحتاجها المسلم في حياته لتحقق له السعادة الهنية، السعادة الرضية.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أمر بالصبر وحثّ عليه، وجعل عاقبته فوزًا في الدنيا وسعادة في الآخرة، وأجرًا بلا عد ولا حصر: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.

أيها الإخوة المسلمون، أيها الإخوة المؤمنون: إن من أهم مجالات الصبر في حياة المؤمن: صبره على مشاقّ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يحفه بذلك من متاعب وآلام تتمثل في جملة من المظاهر، تتمثل في إعراض الخلق عن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أو العالم الداعي إلى الله -عز وجل-، فليس أشق على نفس صاحب الدعوة أن يدعو بملء فيه ويصيح بأعلى صوته بشيرًا ونذيرًا، فلا يجد إلا أذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا.

رأينا ذلك مع نوح -عليه الصلاة والسلام- كما ذكر الله -عز وجل- في كتابه الكريم حيث قال مناديًا ربه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا).

كما تتمثل متاعب الدعوة في أذى الناس بالقول والفعل، فليس أشد على الرجل -المخلص في دعوته، البريء من الهوى، المحب لخير الناس- من أن يوجه لهم النصح فيتهموه بما ليس فيه، وأن يدعوهم إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة فيردوه بالقوة، ويعرضهم بالحسنى فيستقبلوه بالسوء، ويجادلهم بالتي هي أحسن فيقاوموه بالذي هو أخشن، ويدلهم على الخير فيقذفوه بالشر، ويصدع بكلمة الحق فلا يسمع منهم إلا كلمة الباطل.

يشير القرآن إلى هذه الحقيقة بقوله -سبحانه وتعالى-: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران:186].

وتتمثل مشاق الدعوة كذلك في صورة أخرى ألا وهي طول الطريق واستبطاء النصر، فقد جعل الله -تبارك وتعالى- العاقبة للمتقين، وكتب النصر لدعاة التوحيد والسنة من رسله وأتباع خاتمه ووارث نبوة خاتمهم من المؤمنين إلى أن تقوم الساعة، ولكن هذا النصر لا يتحقق بين عشية وضحاها، ولا تشرق شمسه إلا بعد ليل طويل حالك من الشدائد والمحن المتعاقبة، شدائد ومحن تذهل لهولها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ويظن الناس بالله الظنون، تراق فيها دماء، وييتم فيها أطفال، وتثكل فيها نساء، هناك يبتلى المؤمنون ويزلزلون زلزالاً شديدًا كما ذكر الله -عز وجل- في كتابه.

وكثيرًا ما يؤكد القرآن هذه الحقيقة في أكثر من موضع وبأكثر من أسلوب؛ يقول الله -عز وجل-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]، ويقول -عز وجل-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:142]، ويقول تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [التوبة:16]، ويقول سبحانه: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].

أيها الإخوة المسلمون، أيها الإخوة المؤمنون: إننا نعيش زمن غربة الإسلام الذي أخبر عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء، فطوبى للغرباء". قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟! قال: "الذين يصلحون إذا فسد الناس". وفي لفظ آخر: "يصلحون ما أفسد الناس".

إنه زمان التبس فيه الحق بالباطل، بل -والعياذ بالله- صار المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، خون فيه الأمين وائتمن فيه الخائن ونطق الرويبضة كما أخبر -صلى الله عليه وسلم-، وهو الرجل التافه يتكلم في أمور العامة.

إنه زمن الاختلاف الكثير، إنه زمن الاختلاف الشديد، إنه زمن الهرج والمرج الذي أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

إن واجبنا -نحن المسلمين- في أزمنة غربة الإسلام السعي نحو الاستمساك بالدين القويم والصراط المستقيم، وحمل النفس على ذلك، وتلمس مراضي الله -عز وجل- في جميع ما نأتي ونذر نحن وأهلينا وأسرنا ومن هم تحت ولايتنا.

إن الصبر في أزمنة غربة الإسلام على الطاعة وعلى الحق على الرغم من تشويهه من دعاة الباطل، والصبر على السنة على الرغم من التنفير عنها من دعاة البدعة والأهواء المنحرفة، والصبر على الدعوة والاحتساب على الرغم مما يواجهه المحتسبون والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر من تشويه لجهودهم واتهامهم لهم في نياتهم.

إن صبر العبد على الطاعة في مثل هذه الأزمنة سبب عظيم لمضاعفة الأجور، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن من ورائكم أيام الصبر؛ للعامل فيهن أو للمستمسك فيهن أجر خمسين"، قال الصحابة: يا رسول الله: أجر خمسين منا أو منهم؟! يعني أجر خمسين من أحادي الصحابة أم منهم، أي المتأخرين؟!

فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "بل منكم"، أي أجر خمسين منكم؛ "إنكم تجدون على الحق أعوانًا ولا يجدون على الحق أعوانًا".

فيا سعادة من وفقه ربه -عز وجل- لمعرفة الحق واتباعه والعمل به والدعوة إليه ومحبة أهله ومناصرتهم،  ويا سعادة من وفقه ربه لمعرفة الباطل والإعراض عنه وبغض أهله والإعراض عنهم!!

إن من الغبن -أيها الإخوة المسلمون- ألا يستمسك المسلم في هذه الأزمنة بالطاعة والعبادة وهو يعلم أن عمره قصير، وأن عوارض الدنيا كثيرة، يصبح الإنسان ولا يدري أيمسي أم لا، ويمسي ولا يدري أيصبح أم لا.

إن من الخير للعبد أن يعيش دنياه على طاعة ربه مستمسكًا بالدين، مستمسكًا بالعقيدة الصحيحة، مستمسكًا بالسنة، بعيدًا عن البدع والمنكرات والانحرافات، حتى وإن لم يكن قادرًا على الأمر بذلك والدعوة إليه، فلا أقل من أن يأطر نفسه على الحق ويقيم نفسه على الطاعة والعبادة، ويقيم من هم تحت ولايته من أهل وأولاد وأبناء وبنات وأقرباء، يقيمهم على الطاعة، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

يا سعادة المسلم يوم يوفق لذلك ويغادر هذه الدنيا وهو مقيم على طاعة ربه، محبًا للدين، محبًا لأهل الدين، داعيًا إلى الدين، محذرًا من الخطأ من مخالفة أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

نسأل الله -عز وجل- لنا جميعًا أن يختم حياتنا بالطاعة، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يختم حياتنا بالطاعة والعبادة، وأن يختم لنا جميعًا بخير ما ختم لعباده وأوليائه الصالحين.

هذا؛ وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا".

اللهم صلّ وسلم وبارك...