المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | ناصر بن مسفر الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إنَّ الحدود الضيقة، والجدران الصلبة، والمساكن الوعرة، إذا لامَسَتْها رحمةُ اللهِ ترِقُّ وتَلِين، وتُنير وتحسن وتطيب؛ وما قيمة المساكن الباذخة، والمراكب الفارهة، والغرف الواسعة، والمجالس الفسيحة، إذا كانت النفس ضيِّقة حرجة كأنما تصَّعَّد في السماء؟ إن غياب الرحمة والإيمان يُضيِّق الواسع، ويكدِّر الصافي، ويعكِّر السالي، ويظلم بالدروب، ويقلق القلوب ..
على عادة اليهود في كفرهم بالله، وإعراضهم عن الحق، ونكثهم للعهود، وخيانتهم للرسل، وتشريدهم للمؤمنين، خرجوا في يوم عيدهم في عهد أحد ملوكهم يحتفلون بأوثانهم، ويتقربون لأصنامهم، ويتبجحون بشركهم، ويمارسون من دلائل الكفر، وأمارات الشرك، وحماقات الطيش والهوى ما ينحدر بهم إلى حضيض الخلق، ويهوي بهم إلى هوة الضلال.
وفي غمرة عيدهم الباطل، واحتفالهم الآثم، وتقريبهم للقرابين، وذبحهم للطواغيت, في هذه الأجواء قام شاب يافع، وفتى غض من أبناء ملوكهم، وذرية ساداتهم، فتأمل ما هم عليه، فضاقت به نفسه، وضج له قلبه، وأنكره ضميره، ولفظته فطرته، فانسل من بين صفوف المحتفلين وخرج إلى خارج المدينة خائفا يترقب، حتى وصل إلى شجرة ذات ظل ظليل، فجلس في ظلها، ساهماً مطرقاً، متحيراً مفكراً، حزيناً بائساً.
ثم لم يلبث إلا قليلا حتى جاءه شاب آخر في مثل سنه يحمل في تقاسيم وجهه ما حمله سابقه من دلائل الحيرة، وأمارات الاضطراب، وعلامات الاستنكار؛ ثم لم يلبثا أن جاءهم ثالث، ثم رابع، ثم خامس، ثم سادس، ثم سابع، فكانوا ينظرون إلى بعضهم نظر الخوف والريبة، كل منهم يخاف من الآخر أن يعرف أمره، أو يفشي خبره، أو يجلي أثره.
ولكن أرواحهم تقاربت، وأنفسهم تآلفت، وقلوبهم لبعضهم اطمأنت، فتصارحوا فيما بينهم، وتكاشفوا فيما أهمهم، فقال أحدهم: يجب أيها الرفاق أن يذكر كل منا الذي أخرجه من قومه وجاء به إلى هنا، فقام الآخر فقال: أيها الشباب! لا داعي للخوف من بعضنا، فما أظن الذي أخرجنا جميعا إلا أمر واحد! أما أنا فلقد رأيت من قومنا أمورا باطلة، وعبادات ضالة، كلها شرك بالله، وتَعَدٍّ على سلطانه، وهو الخالق الرازق، فأنكرَتْها نفسي، وضج بها وجداني، فهربت إلى هنا.
فقال الثاني: وأنا والله كذلك! فقام البقية فقالوا جميعا: والله ما أخرجنا إلا ذلك! فأنِسوا لبعضهم، وفرحوا برفقتهم. فمَن هم هؤلاء يا ترى؟ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف:13-14].
لقد رأوا في هذا الكون من دلائل التوحيد، وشواهد القدرة ما أنار قلوبهم؛ لقد جالوا بأرواحهم في رحاب الكون، ونظروا ببصائرهم النافذة، وفطرهم السليمة، فأضاءت نفوسهم بضياء التوحيد، وأشرقت أرواحهم بشمس الإيمان، فاهتدوا إلى خالقهم، فزادهم هدى، فتغلغلت هذه العقيدة في قلوبهم، وانغرست في أعماقهم، وتمشت في عروقهم، وسكنت في ذرات أجسامهم، فوجدوا لذة فائقة، وسعادة غامرة، وسرورا لا يُحَد، فكانوا يقضون أوقاتهم في ذكر وعبادة، وصلاة وقيام، ولجوء ودعاء.
إلا أن أخبارا تسرَّبَتْ عنهم إلى الملك الظالم، الحاكم الجائر، الوثنيّ الفاجر، وعلم بأمرهم، وتبين خبرهم، فاستشاط غضباً، وامتلأ حقداً، وطفح غيظاً، وصاح بجنوده: علَيَّ بهم! فهيَّأ الأمرَ لاستقبالهم وتخويفهم، حيث كُثِّف الحرس، وأُظْهِرَت القوى، وسُلَّت السيوف، وأشرعت الرماح، وعبست الوجوه الحاضرة، وكشر الحرس، ووضع التاج على الملك، وبسط جو من الهيلمان في الديوان.
وأقبل الفتية إلى الملك في خطى ثابتة، وقلوب مطمئنة، ووجوه مشرقة، جرى فيها ماء التقوى، وعبق منها عطر التوحيد، وجللها بهاء العبادة، فسألهم الملك عن أمرهم، فتقدموا في شجاعة وثبات، وعزم ويقين، فأخبروه أنهم آمنوا بالله تعالى الواحد الأحد، الذي ما من شيء في الكون إلا يدل على عظمته مع مطلع كل شمس، وفي كل سبحة من سبحات التفكير، وإن قومنا اتخذوا من دونه آلهة شتى، بغير سلطان بين، أو حجة واضحة، أو دليل مقنع، وإن قلوبنا قد اطمأنت لما نحن عليه، ورضينا ما سرنا فيه.
إنه أمر دعتنا إليه فطرتنا، وقادتنا عقولنا، وهدانا خالقنا، ولن نعبد من دونه أحدا، (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) [الكهف:15].
فاهتز عرش الملك، وعظم غيظه، وتناهى غضبه، ولكنه لم يرد أن يوقع بهم مباشرة؛ لأنهم من أبناء كبار القوم، ومن بيوت ساداتهم، ولأنه ظن أن ما رأوه من تخويف وتهديد سوف يصرف قلوبهم عما ارتضوه، ثم هم مع ذلك في قبضته في أي وقت شاء، فقال لهم: إنني سأمهلكم إلى يوم غد، لعلكم تراجعون نفوسكم، وتحكِّمون عقولكم، وترجعون عما أنتم فيه.
وكانت هذه فرصة لهم؛ إذ خرجوا من دار الملك فاجتمعوا ببعضهم، وتشاوروا في أمرهم، فخرجوا بنتيجة حاسمة، ورأي مبارك، وقرار مجيد، حيث قالوا لبعضهم: إن هذا ملك ظالم، وجبار باطش، وقد افتضح لديه أمرنا، وظهر خبرنا، وهو -لا محالة- إما أن يمزقنا تمزيقا، أو يردنا عن ديننا الذي لو قرضت أجسامنا بالمقاريض ما تركناه، فتعالوا بنا نترك المدينة، ونغادر البلدة، ونفارق الملأ، ونختبئ في غار بعيد في قمة الجبل.
ومهما كان الجبل بعيدا، والغار ضيقا، والمكان موحشا، والحياة شاقة، فإن ربنا سينشر لنا من رحمته، هذه الرحمة التي نستروح عبيرها، ونشتم عبقها في ثنايا أرواحنا؛ إن الكهف سيعود برحمة الله منزلاً فسيحاً، ومكاناً مريحاً، وسيمتلئ بالرفق، ويعبق بالحنان، ويتفيأ ظلال الرخاء: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف:16].
إن الحدود الضيقة، والجدران الصلبة، والمساكن الوعرة إذا لامستها رحمة الله ترق وتلين، وتنير وتحسن وتطيب؛ وما قيمة المساكن الباذخة، والمراكب الفارهة، والغرف الواسعة، والمجالس الفسيحة، إذا كانت النفس ضيقة حرجة كأنما تصَّعَّد في السماء؟ إن غياب الرحمة والإيمان يضيق الواسع، ويكدر الصافي، ويعكر السالي، ويظلم بالدروب، ويقلق القلوب.
هيا بنا يا شباب! هيا! هيا إلى رحمة الله، هيا إلى لطفه، هيا إلى رفقه، هيا إلى حنانه، هيا إلى رضوانه! بدلا من حياة اللهو، ومسامرة البغي، وضياع الدين، ومعاقرة الشهوات؛ سيروا وأَبْشِرُوا وأَمِّلُوا.
اتخذ الشباب قرارهم، وحملوا أمتعتهم، فتسللوا في خفية عن الناس آمِّين كهفا في أحد الجبال، وفي أثناء سيرهم إذا بكلب كان يجلس على قارعة الطريق، وربما كان لأحدهم، وكأنما هو الآخر قد ضج بتلك الحياة الباهتة، فهزهز رأسه وكأنما يحييهم، وحرك ذيله إظهارا للمؤانسة والإعجاب والرضا، وكأنما هو يستأذنهم في المسير معهم، فانطلق الشباب، وانطلق الكلب معهم.
وانظر إلى بركة الرفقة الصالحة! كيف استفاد منها حتى الكلب، إن هذا الكلب -بمرافقته لهؤلاء الصالحين- انتشر خبره، وعظم صيته، وذكر في الكتب، وتحدث عنه الرسل؛ لقد كان حظ هذا الكلب أعظم من حظ الملك الجائر، والحاشية الفاسدة.
وهكذا انطلق الشباب، ويا لروعة الشباب حينما يحملون راية الدين، ويغامرون من أجل العقيدة! وهكذا كان الشباب في كل زمن هم أول من يؤمن ويتبع الحق؛ لأن الكبار والشيوخ يكون قد مضى عليهم زمن بعيد، وتشربت نفوسهم الباطل، وامتلأت رؤوسهم بالضلال، فليس من السهولة إقناعهم.
أما الشباب فهم خامة طيبة، يسهل تقبلها للحق، وهم أكثر وعيا ونجابة، وتوقدا وحيوية، ولذلك كان أكثر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- شبابا. وانظر أيضا في هذا الزمن هل هناك أمتع منظرا، وأكمل بهاء، من أفواج الشباب وهو يزينون دور التحفيظ، وحلقات العلم، ومراتع الإيمان؟.
انطلق الشباب إلى الكهف، فوصلوا متعبين، مرهقين، متهالكين، أرهقهم الجوع، وأهلكهم العطش، وأضناهم المشي، وأتعبهم المسير، أضف إلى ذلك ما يلحق بالإنسان من الهم والغم والحزن إذا أجبر على مغادرة بلاده، ومفارقة أهله، ولكن ماذا يفعلون؟ ليس لهم إلا هذا الأمر، وهو أحسن رأي حين احتدام الأمور، وخوف الفتن، أن يهرب الإنسان بدينه، ويفر بعقيدته، ويهاجر بإيمانه؛ ليسلم من الفتن.
اضطجع الشباب قليلا لكي يرتاحوا من تعب المسير، ويستعيدوا قواهم؛ ليستعينوا بها بعد ذلك على القيام لعبادة الملك العلَّام، فأحسوا بإغفاءة خفيفة لطيفة تداعب جفونهم، ثم أسلموا رؤوسهم إلى الأرض في نوم عميق، وربض كلبهم أمام باب الغار، ثم بسط ذراعيه ونام كنومهم.
ويا له من نوم عميق حقاً! ويا لها من معجزة ربانية، وقدرة إلهية، تهز النفوس، وتشده العقول، وتحير الألباب! (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا) [الكهف:17].
ناموا، فتعاقب عليهم ليل إثر نهار، ومضى عام وراء عام، وقرن وراء قرن؛ مات الملك، ومات الجيل كله، وتبعته أجيال، وأعقبته أمم، والفتية راقدون، النوم مضروب على آذانهم، والكرى معقود بأجفانهم، لا تزعجهم زمجرة الرياح، ولا يوقظهم قصف الرعود، ولا يضرهم برد، ولا يؤذيهم حر، تطلع الشمس فتنفذ إلى الكهف من كُوَّتِه فتمنحه الضوء والحرارة، ولكن أشعتها لا تصل إليهم، وتغرب فتميل وتبتعد عنهم، تحقيقا لما أراد الله من حفظ أجسادهم، وبقاء جثثهم!.
أعينهم مفتحة وهم نائمون؛ لأن أعينهم لو انطبقت لأسرع إليها البلى والعفن، فبقيت مفتوحة ظاهرة للهواء والشمس، ويقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال؛ لئلا تأكلهم الأرض، كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، أي بفناء الغار، فكان منظرا هائلا، وأمرا عجبا، وشيئا مهيبا، لو اطلع عله أحد لولى فراراً، ولملئ منه رعباً!.
وهكذا، ظلوا نائمين حتى دخلت سنة تسع وثلاثمائة منذ نومهم! (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) [الكهف:18].
هنا انتهى الأجل المحدد، فانتبَهوا من نومهم، لا يكادون يمسكون نفوسهم من الجوع، أو يجمعون أعضاءهم من التعب، يتلفتون حولهم؛ أمَا مِن والد عطوف، أو أم حنون تسارع بلقمة، أو تأتي بشربة، أو تطيب الخاطر بكلمة، أو تذهب التعب بضمة حانية؟ وكأنما نسوا أنهم هجروا الوالد والوالدة والأهل جميعا منذ زمن بعيد؛ هروبا بدينهم، وهجرة إلى ربهم.
أفاق الفتية وهم يظنون أن عجلة الزمن واقفة عندهم، فقال أحدهم: كأننا نمنا ساعات طويلة يا رفاق! قال الثاني: ربما لبثنا يوما. قال الثالث: نحن نمنا في الصباح، وهذه الشمس لم تدن للغروب بعد، فما أظننا لبثنا إلا بعض يوم.
وقال الآخر: دعونا من هذا كله، فالله أعلم بما لبثتم، نكاد نموت من الجوع، فليذهب واحد منكم إلى المدينة يلتمس لنا طعاما، وليكن حذِرا لبيبا، فطنا أريبا، حتى لا يعرفه أحد، فإنهم لو ظهروا علينا وعرفونا يقتلوننا أو يفتنوننا في ديننا.
فخرج أحدهم إلى المدينة وهو خائف حذر، فما راعه إلا تغيير معالم المدينة كلها، هذه خرائب أضحت قصورا، وتلك قصور أمست خرائب! تلك وجوه لم يعرفها، وصور لم يألفها! تحيرت نظراته، وكثر التفاته، وزاد عجبه، وعظمت دهشته، وظهر الاضطراب في مشيته، والغرابة في ملبسه، مما لفت نظر الناس إليه!.
يا الله! لم يدر هذا الفتى أنها ذهبت أمم وجاءت أمم، وخربت ممالك وقامت ممالك، وغادرت قرون وجاءت قرون، كاد الشاب يفقد عقله من الذهول وهو لا يدري أهو في حلم أم في علم، أو هو صاح أم مجنون؟.
مضى يبحث عن مكان للطعام فوجده، فأخرج دراهمه التي كانت معهم يوم خروجهم من بلدتهم ودفعها للتاجر ليحاسب على الطعام، فلما رأى التاجر الدراهم ذهل من نقود قديمة مضروبة من أكثر من ثلاثمائة عام، فظن أنه عثر على كنز كبير، أو أمر عجيب، فبعث بها إلى التاجر الآخر، ثم الآخر، فاجتمع الناس ليعرفوا حقيقة هذه الدراهم، وهم متعجبون من هيئة هذا الشاب وملبسه وغرابته فيهم!.
فقال لهم الفتى: يا قوم! ما لكم؟! هذه دراهمي كانت معي بالأمس، وأنا اليوم أريد أن أشتري بها طعاما، فما الذي يدعوكم إلى الدهشة، وما هو الغريب في الأمر؟! وبدأ الشاب يرتبك خوفا من معرفتهم بأمره وأمر رفاقه، ثم عادوا وترفقوا به، وتلطفوا معه في القول، وألانوا له الحديث، وبدؤوا يسألون عن أمره.
ما أعظم ذهولهم، وأشد عجبهم، حينما علموا أنه أحد الفتية الأشراف الذين هربوا من تسع وثلاثمائة سنة من ملكهم الجائر الكافر! وأنهم هم الذين قرؤوا قصة هروبهم، وأنه لم يعرف مكانهم أحد حتى اليوم!.
خاف الفتى على نفسه وعلى إخوانه، وَهَمَّ بالهرَب، فقال له أحدهم: لا تخف يا غلام، إن الملك الذي تخشاه قد هلك منذ نحو ثلاثمائة عام! وإن الملك الذي يجلس مكانه الآن مؤمن بالله، موحد للخالق.
هنا أدرك الشاب حقيقة الأمر، وعرف القصة، وأيقن بالفجوة الكبيرة التي بينه وبين الناس، وأن لهم سنين في نومهم، ورأى نفسه شيئا غريبا في هؤلاء القوم، فقال لهم: دعوني أذهب إلى أصحابي في الكهف لأحدثهم عن شأني وشأنهم.
وهنا طار الخبر إلى الملك، وسمع بأمرهم، فبادر إلى لقائهم، وسعى إلى كهفهم، فوجد هؤلاء الفتية الذين قرأ قصة هروبهم بدينهم قبل قرون، وإذا بهم أحياء أصحاء، تشرق بالحياة وجوههم، وتجري الدماء في عروقهم، فكاد يطير فرحاً وعجباً لما رآهم.
صافحهم، عانقهم، ودعاهم إلى قصره، ولكنهم حينما علموا بالأمر، قالوا: ما نبغي بالحياة وقد ذهب زماننا، ومات الحفيد والوالد والولد، وتهدمت المنازل، وذهب الأقارب، وانقطع ما بيننا وبين الحياة من أسباب، فتوجهوا لله طالبين أن يختارهم إلى جواره، ويشملهم برحمته، فما هي إلا لحظات حتى وقعوا أجسادا لا حياة فيها، فوقعت المعجزة، وحصلت العبرة، وتجلت الآية!.
لقد أعثر الله الناس عليهم ليكون في ذلك عبرة لهم على عظمة الله وقدرته على إحياء الموتى، وأن الساعة لا ريب فيها، وهنا تنازع الناس في أمرهم، فقال بعض الناس: سدوا عليهم باب كهفهم واتركوهم على حالهم، وقال أهل السلطان وأصحاب الغلبة والأمر: ابنوا عليهم مسجدا، (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) [الكهف:21].
ولليهود حديث آخر مع هذه القصة العظيمة، حيث ذكر المفسرون من أسباب نزول هذه السورة أنها جاءت إجابة على بعض أسئلة اليهود المتعنتة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث قالوا لكفار قريش: اسألوه عن هذه الأسئلة، فإن أجاب عليها فهو نبي، وكان من ضمن أسئلتهم أن قالوا: اسألوا عن فتية في أول الدهر كان لهم نبأ عجيب.
فلما جاء كفار قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأسئلة قال لهم: غداً أجيبكم؛ ولم يقل: إن شاء الله. فتأخر الوحي عنه خمسة عشر يوما، فتألم -صلى الله عليه وسلم-، وضاق صدره، وتكدر خاطره.
ثم جاءه جبريل بعد ذلك بقوله بإجابة الأسئلة، وبقوله تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) [الكهف:23-24].