الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | ناصر بن مسفر الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فالنية رأس الفضائل، وأصل المسائل، وأساس العمل؛ والعمل بلا نية كالجسم بلا روح، والعروق بلا دم، والشجرة بلا ثمرة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" ..
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" متفق عليه.
النية أساس الفلاح، وعنوان النجاح، إن صفت صفا العمل، وإن حسنت قُبل، وإن طابت طاب، وإن ساءت النية ساء العمل، واعتراه الخلل، وباء بالفشل؛ يكون العمل قليلا فتُكَثِّرُه النية، ويكون كثيرا فتقلله النية أو تمحقه، "ما سبقكم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه".
بالنية قد يصل المرء إلى أعلى عليين، وبالنية قد يهوي إلى أسفل سافلين؛ من صلحت نيته صلح عمله، وبورك فعله، وحسن قوله، وطاب سلوكه، قال تعالى: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) [الفتح:18]، ومن ساءت نيته فالعمل مردود، والطريق مسدود، والفعل مرذول، والمستقبل مظلم، والوعيد مخيف، والبركة ممحوقة.
من خبثت نيته خبثت نفسه، وخبث جنانه، وخبث لسانه، وخبثت آثاره، وشاهت أخباره، قال سبحانه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومَاً مَدْحُورَاً) [الإسراء:18]، ومن زكت نيته زكت نفسه، وزكا قلبه، وزكا لسانه، وزكت جوارحه، وعظم عطاؤه، وشكر سعيه، قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورَاً) [الإسراء:19].
كم من متظاهر بالإحسان، ومُدَّعٍ للإخلاص، يشم الناس فساد نيته، ويعرفون خبث طويَّتِه، فلا ينفعه ادِّعاؤه، ولا يفيده خداعه؛ وليس الجمال في الإسلام جمال الظاهر، وقوة الجسم، وحسن الصورة، ولكن الجمال جمال الباطن، والحسن حسن النية، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" رواه مسلم.
إذا علم الله حسن نية العبد، وطيب مقصده، ونقاء سريرته، زرع له القبول، وغرس له الحب، وسدد قوله، وبارك عمله "ونية المؤمن خير من عمله"؛ فبالنية الصادقة قد يدخل الإنسان الجنة، ولما يعمل بعمل أهلها بعد؛ ودليل ذلك الذي قتل مائة نفس فذهب يبحث عن التوبة ومات قبل إعلانها والعمل بأركانها، قبل الله توبته وإنابته وأثابه على حسن نيته.
والذي أسلم وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقتل من فوره في المعركة، دخل الجنة بإعلان التوحيد والعزم على الإيمان، وهؤلاء لم يمكنوا من العمل، فلو مُكِّنوا لعملوا بعمل الإسلام، والمرء يهم بالحسنة ولم يعملها فتكتب له حسنة، قال -صلى الله عليه وسلم- : "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومُه صدقةً عليه من ربه" رواه النسائي وابن ماجه. قال الإمام أحمد لابنه: انوِ الخير ولو لم تعمله تكن من أهله.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنما يبعث الناس على نياتهم" رواه ابن ماجة.
فالنية رأس الفضائل، وأصل المسائل، وأساس العمل؛ والعمل بلا نية كالجسم بلا روح، والعروق بلا دم، والشجرة بلا ثمرة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الدين، وقد روي عن الشافعي قوله: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه. وقال الإمام أحمد: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر رضي الله عنه "الأعمال بالنيات"، وحديث عائشة -رضي الله عنها-: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه، وحديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "الحلال بين والحرام بين" رواه البخاري.
وقد جرت عادة كثير من العلماء أن يصدروا كتبهم العظيمة ومؤلفاتهم الشامخة بهذا الحديث، ومن أولئك: الإمام البخاري في صحيحه، والإمام النووي في رياضه، وهي من أنفع الكتب؛ فهذا الحديث أصل عظيم من الأصول التي يقوم عليها هذا الدين، وهو بيان أن جميع الأعمال يتوقف صلاحها وفسادها وقبولها وردها على نية صاحبها، فيجب على المسلم أن يستحضر النية الصالحة الصادقة الخالصة لله تعالى.
والنية في اللغة: بمعنى القصد والإرادة. وفي الشرع: يقصد بها أحد معنيين: أولهما تمييز العبادات بعضها من بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك؛ وثانيهما بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له؟ أم لغيره؟ أم لله ولغيره؟ وهذه هي النية المقصودة التي جاء بها كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة.
وقد ورد ذكر هذه النية في القرآن الكريم بغير لفظ النية بألفاظ كثيرة مقاربة، ومنها الإرادة مثل قوله تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ) [آل عمران:152]، وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى:20]، ووردت بمعنى الابتغاء، مثل قوله تعالى: (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) [الليل:20]، وقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ) [البقرة:265].
وأما النية بلفظها والألفاظ التي بمعناها فقد وردت كثيرا في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي كلام سلف الأمة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن غزا في سبيل الله ولم ينوِ إلا عقالا فله ما نوى" أخرجه النسائي.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كانت الدنيا همه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" رواه ابن ماجة.
وقال -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك" رواه الشيخان؛ فانظر إلى روعة هذا الحديث فهو مع بيانه لأهمية الإخلاص يهدف إلى أمرين :أولهما الإشارة إلى روعة هذا الدين، وسعة رحمة الله تعالى، وأن الإنسان يثاب حتى في الأمور المباحة التي فيها فرحته وسروره؛ وثانيهما التنبيه على أهمية مثل هذه الأمور العاطفية؛ من التعامل الحسَن مع الزوجة وكسب مودتها، وإرضاء عاطفتها.
يقول يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل. وقال داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية. ويقول سفيان الثوري: ما عالجت شيئا أشد عليَّ من نيتي، لأنها تتقلب عليَّ. وقال بعضهم: تخليص النية من فسادها أشَدُّ على العاملين من طول الاجتهاد. وقال ابن المبارك: رب عمل صغير تعظمه النيه، ورب عمل كبير تصغره النية. هكذا كان السلف الصالح يهتمون بأمر النية ووجوب الإخلاص فيها لله تعالى، ولهم في ذلك كلمات جميلة، وعبارات مؤثرة، منها ما تقدم.
ومن القرآن، قوله تعالى: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [غافر:65]، وقوله سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5]، وقوله –جل وعلا-: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:2-3]، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163].
فالإخلاص تصفية العمل من كل شوب، وتنقيته من كل كدر؛ جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ماله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا شيء له"، فأعاد ثلاث مرات يقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا شيء له"، ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه" رواه النسائي.
يقول أحد السلف: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن. ويقول الآخَر: المخلص من كتم حسناته كما يكتم سيئاته. وقال الآخَر: اللهم إني أستغفرك مما زعمتُ فيه الإخلاص، وقد خالط بشاشة قلبي غير ذلك. وقال مكحول: ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه. وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر .وقال الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجلهم شرك، والإخلاص الخلاص من هذين.
وقال في تفسير قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلَاً) [الملك:2]، هو أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلَاً صَالِحَاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً) [الكهف:110].
واحسرتاه لمن أنفق ماله، وأتلف دراهمه، وأنفق دنانيره ولم يرد بذلك وجه الله! واحسرتاه لمن أقام الولائم، وقرب الموائد، وأراد بها غير الله! واحسرتاه لمن تعلم العلم، ودرس الفقه، وعرف المسائل، فلم يخلص النية، ولم يصدق القصد، وأراد مجاراة العلماء، أو مماراة السفهاء، أو نيل عرض من أعراض الدنيا، وحطام من حطامها! قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" رواه ابن داود وابن ماجه. عرف الجنة : يعني ريحها.
واحسرتاه لمن تعلم القرآن، وترنم بكلام الرحمن، فأراد به عرض الدنيا، وقصد به التكسب، وكان مراده أن يقال له قارئ! فهو من أول من تسجر بهم النار يوم القيامة. واحسرتاه لمن تظاهر بالدعوة إلى الله، ثم لم تكن دعوته خالصة، ونيته صادقة، فقصد بها غير الله، أو أشرك معه غيره! واحسرتاه لمن صدح بالخطب الرنانة، والكلمات المدبجة، والمواعظ المختارة، ثم لم يحسن قصده، ولم تصف نيته!.
إن فساد النية، وخبث الطوية يهبط بالطاعات المحضة، فيقلبها معاصي شائنة، ويجعلها ذنوبا كبيرة، فلا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها إلا الفشل والخسران، وبدلا من أن يكسب بها الأجر والثواب، يستجلب بها الويل والعقاب، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون:4-7].
فلما كانت الصلاة رياء أصبحت جريمة نكراء، وفعلة شنعاء، لأنها فقدت الإخلاص؛ وهكذا الزكاة إذا لحقها المن، وأنفقت رئاء الناس، وهكذا كل الأعمال إذا قصد بها غير الله تتحول إلى جرائم نكراء، وفعائل شنعاء !فالله تعالى لا يقبل من العمل إلا النقي من الشوائب، (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ) [الزمر:3].
إن الإنسان الموظف تهبط قيمته، وتدنو منزلته إذا أصبح كل همه من عمله، وقصده من وظيفته مجرد الراتب أو الرتبة أو الترقيات، ولم يكن له نية عليا، وهدف أسمى؛ يجب أن يجعل المسلم قصده أجَلّ، وغرضه أعظم، ونيته أسلم، وفعله أحكم. يقول ابن القيم -رحمه الله- : العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملا ينقله ولا ينفعه.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" رواه النسائي. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جمع الله الأولين والآخِرين ليوم لا ريب فيه نادى منادٍ: مَن كان أشرك في عمل عمله لله -عز وجل- فليطلب ثوابه من عند غير الله -عز وجل- فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" رواه ابن ماجة والترمذي. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" رواه مسلم.
قال ابن تيمية -رحمه الله -: إخلاص الدين هو الذي لا يقبل الله تعالى سواه، وهو الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه.
وأختتم بهذا الحديث الرهيب الذي تنخلع لهوله القلوب، وترتعد لعظمته الفرائص: عن عقبة بن مسلم أن شفيا الأصبحي حدثه أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: مَن هذا؟ قالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه؛ وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أسألك بحق وبحق، لما حدَّثْتَنِي حديثا سمعتَه مِنْ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- وعقلتَه وعلِمْتَه، فقال أبو هريرة : أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقلته وعلمته.
ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكثنا قليلا ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى، ثم أفاق ومسح عن وجهه، فقال : أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خارَّا على وجهه، فأسندته طويلا.
ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم -وكل أمة جاثية-، فأول من يدعى به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله عز وجل للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال : فلان قارىء وقد قيل ذلك.
ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله -عز وجل-: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب؛ قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصِل الرحم، وأتصدق. فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك.
ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أي ربّ! أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك".
ثم ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ركبتي فقال :"يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة".
وقد بكى معاوية حينما سمع هذا الحديث حتى غشي عليه، فلما أفاق، قال: صدق الله ورسوله، قال الله عز وجل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النساء:15-16]. رواه الترمذي.
وقوله -صلى الله عليه وسلم- : "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، فإنه لما ذكر أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر، ذكر بعد ذلك مثالا من أمثال الأعمال التي صورتها واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال.
وخلاصة الأمر أن أي عمل يعمله المرء من هجرة أو سفر أو جهاد أو صلاة أو صيام أو علم أو غيرها يثاب فيه على ما نوى، ويجزى بما قصد، فإن قصد الله ورسوله فقد أفلح وأنجح، وإن كان الأمر على غير ذلك فقد هلك وخسر، وليس له إلا ما قصد.
اللهم لك أسلمنا، وعليك توكلنا، وبك آمنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت؛ اللهم إنا نعوذ بك من أن نُشْرِك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه.