الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | محمد بن مبارك الشرافي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
احْذَرِ الظُّلْمَ عُمُومًا وَظُلْمَ الْعُمَّالِ خُصُوصًا؛ لِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ وَلا حِيلَةَ لَهُمْ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لَكَ أَخْذُ مَالِ هَذَا الْمِسْكِينِ وَتَنَامُ قَرِيرَ الْعَيْنِ؟ وَإِنَّ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ جِدًّا أَنَّ بَيْنَنَا أُنَاسًا لا يُبَالُونَ مِنْ أَيِّ الْمَالِّ أَكَلُوا أَوْ أَطَعَمُوا أَبْنَاءَهُمْ، أَمِنْ كَدِّ الْفَقِيرِ وَتَعَبِهِ؟ أَمْ مِنْ حَقِّ الْعَامِلِ وَسَعْيِهِ؟..
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ؛ نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَنُثْنِي عَلَيْهِ الْخَيْرَ كُلَّهَ، نَشْكُرُهُ وَلا نَكْفُرُهُ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُهُ، وَأَشْهُدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ اللهُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بَشِيرًا ونَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الطَّيَّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ إِنَّ اللهَ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ.
أَمَّا بَعْدُ: اتَّقُوا اللهَ وَرَاقِبُوهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ وَاجْتَنِبُوا نَهْيَه، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِشَرِيعَةٍ كَامِلَةٍ شَامِلَةٍ، لَمْ تَتْرُكْ شَيْئَاً إِلَّا وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ بِحُكْمٍ وَتَوْجِيه، عَرَفَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَغَفَلَ عَنْهُ مَنْ قَصُرَ عِلْمُه، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اسْتَمِعُوا لِهَذِهِ الْقِصَّةِ الْمُعَبِّرَةِ، عَنِ الْمَعرُورِ بْنِ سُوَيْد -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ، قَالَ: فَقَالَ الَقَوْمُ: يَا أَبَا ذرٍّ، لَوْ كُنْتَ أَخَذْتَ الذِي عَلَى غُلامِكَ، فَجَعَلْتَهُ مَعَ هَذَا، فَكَانَتْ حُلَّةً، وَكَسَوْتَ غُلَامَكَ ثَوْبًا غَيْرَهُ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: إِنِّي كُنْتُ سَابَبْتُ رَجُلاً وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إِلَى رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ.. إنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فَضَّلَكُمُ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ لَمْ يُلائِمُكُمْ فَبِيعُوهُ، وَلا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللهِ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُودَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
هَذِهِ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي مُعَامَلَةِ الْمَمَالِيكِ، وَهُمْ الْعَبِيدُ عِنْدَ سَادَتِهِمْ فَجَاءَ الإِسْلَامُ بِاحْتِرَامِهِمْ وَتَقْدِيرِهِمْ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِمْ وَالتَحْذِيرِ مِنِ احْتِقَارِهِمْ، وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ نَتَكَلَّمُ عَنِ الْعُمَّالِ الذِينَ يَعْمَلُونَ عِنْدَنَا وَالذِينَ جَاؤُوا مِنْ بِلادِهِمْ لِطَلَبِ لُقْمَةِ الْعَيْشِ لَهُمْ وَلِأُسَرِهِمْ، وَنَتَنَاوُلُ الْمَوْضُوعَ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ.
فأَوَّلًا: اعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّ هَؤُلاءِ الْعُمَّالِ فِي الْغَالِبِ الْكَثِيرِ مُسْلِمُونَ، بَلْ جُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَلَهُمْ عَلَيْنَا حَقُّ أُخُوَّةِ الإِسْلَامِ وَحَقُّ الضِّيَافَةِ، فَهُمْ جَاؤُوا إِلَى بَلَدِنَا وَأَنْتُمْ عَرَبٌ أَهْلُ كَرَمٍ، وَكَانَ النَّاسُ وَلا زَالُوا يَتَسَابَقُونَ فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَإِعْزَازِهِ، بَلْ هَذَا مِنْ صَمِيمِ دِينِنَا، فَلا بُدَّ إِذِنْ أَنْ نَسْتَحْضِرَ هَذَا عِنْدَ مُعَامَلَةِ إِخْوَانِنَا الذِينَ جَاؤُوا لِلْعَمَلِ فِي بِلَادِنَا.
ثَانِيًا: إِنَّ هَؤُلاءِ وَإِنْ جَاؤُونَا الْيَوْمَ فِي بِلَادِنَا فَقَدْ كُنَّا نَأْتِيهِمْ فِي بِلَادِهِمْ بِالْأَمْسِ، وَكَم مِنْ كِبَارِ السِّنِّ يَذْكُرُونَ أَنَّ بَعْضًا مِنَّا يُسَافِرُ إِلَى بِلَادٍ فِي دُوَلِ الْخَلِيجِ أَوِ الْهِنْدِ لِلْعَمَلِ هُنَاكَ، بَلْ إِنَّ عُلَمَاءَ السُّوادَانِ قَدْ أَفَتَوْا قَبْلَ مَا يُقَارِبُ مِائَةَ سَنَةٍ بِبَعْضِ الزَّكَاةِ إِلَى بِلَادِ نَجْدٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعَانِي مِنْ فَقْرٍ وَمَجَاعَةٍ، فَهَلْ نَعْتَبِرُ، وَنَتَذَكَّرُ أَنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ، وَأَنَّ النِّعَمَ لا تَزُولُ، وَأَنَّ مِنْ أَسْبَابِ زَوَالِهَا الظُّلْمَ وَالطُّغْيَانَ وَالتَّكَبُّرَ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم:7].
ثَالِثًا: جَاءَ الْإِسْلَامُ بِحَقِّ الْعَامِلِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ظُلْمِهِ أَوْ أَكْلِ أُجْرَتِهِ، وَمِنْ أَشَدِّ الْأَحَادِيثِ الْمُحَذِّرَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ".
فَتَأَمَّلْ وَاحْذَرْ يَا مَنْ تَأْكُلُ حَقَّ الْعَامِلِ الْمِسْكِينِ الضَّعِيفِ؛ إِنَّ الذِي يُخَاصِمُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ الْعَامِلَ، وَإِنَّمَا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَكَيْفَ الْمَفَرُّ؟ وَأَيْنَ الْمَهْرَبُ؟ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُ: احْذَرِ الظُّلْمَ عُمُومًا وَظُلْمَ الْعُمَّالِ خُصُوصًا؛ لِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ وَلا حِيلَةَ لَهُمْ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لَكَ أَخْذُ مَالِ هَذَا الْمِسْكِينِ وَتَنَامُ قَرِيرَ الْعَيْنِ؟ وَإِنَّ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ جِدًّا أَنَّ بَيْنَنَا أُنَاسًا لا يُبَالُونَ مِنْ أَيِّ الْمَالِّ أَكَلُوا أَوْ أَطَعَمُوا أَبْنَاءَهُمْ، أَمِنْ كَدِّ الْفَقِيرِ وَتَعَبِهِ؟ أَمْ مِنْ حَقِّ الْعَامِلِ وَسَعْيِهِ؟
فَكَمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَأَصْحَابِ الْمُؤَسَّسَاتِ يَتَطَاوَلُونَ عَلَى مُوَظِّفِيهِمْ وَعُمَّالِهِمْ كَأَنَّهُمْ مَلَكُوا الدُّنْيَا بِلَا حِسَابٍ وَلا عِقَابٍ!، وَكَمْ مِنَ الْكُفَلَاءِ يَمْنَعُونَ الْعُمَّالَ حُقُوقَهُمْ!، وَيُحَمِّلُونَهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، وَيُمَاطِلُونَ فِي أَدَاءِ مَا لَهُمْ مِنْ رَوَاتِبَ أَوْ مُسْتَحَقَّاتٍ، وَمَا عَرَفَ هَذَا الْمِسْكِينُ أَنَّ الْعَامِلَ الْمَظْلُومَ رُبَّمَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللهِ وَطَرَقَ بَابَ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ الذِي لا يَغْفَلُ وَلا يَنَامُ، فُتُصِيبُهُ صَوَاعِقُ الدُّعَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي! بِسَبَبِ ظُلْمِهِ وَتَجَبُّرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْكَفِيلُ الظَّالِمُ نَسِيَ قُدْرَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ أَقْدَرَ عَلَيْهِ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى هَؤُلاءِ الضَّعَفَةِ.
رَابِعًا: مِنْ أَشَدِّ وُجُوهِ الظُلْمِ لِلْعُمَّالِ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قُدُومِهِ، مِنْ بِيْعِ الْفِيزَا وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ مُطَالَبَاتٍ، فَنَجِدُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَسْتَقْدِمُ الْعُمَّالَ، وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ أَوَّلًا شِرَاءَ الْفِيزَا مِنْهُ، ثُمَّ دَفْعُ تَكَالِيفِ الْقُدُومِ مِنَ التَّذَاكِرِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ إِذَا جَاءَ يَدْفَعُ تَكَالِيفَ الْكَشْفِ الطِّبِّيِّ، ثُمَّ يَدْفَعُ التَّأْمِينَ الطِّبِيَّ، وَقِيمَةَ الْإِقَامَةِ، وَأُجْرَةَ السَّكَنِ وَمُؤَنَ الْمَعِيشَةِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يُسَمَّى بِـ"النِّسْبَةِ"؛ حَيْثُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَبْلَغًا مُعَيَّنًا شَهْرِيًا أَوْ سَنَوِيًّا، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْعَامِلِ هَلْ يَعْمَلُ أَمْ لا؟ وَهَلْ حَصَّلَ قِيمَةَ هَذِهِ الْمُتَطَلَّبَاتِ أَمْ لا؟ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْعُمَّالِ يَقْدُمُ إِلى السُّعُودِيَّةِ ثُمَّ يَرْجِعُ مُحَمَّلًا بِالدُّيُونِ عَلَى كَاهِلِهِ، وَرُبَّمَا دَخَلَ السِّجْنَ وَبَقِيَ فِيهِ سَنَواتٌ بِسَبَبِ الالْتِزَامَاتِ الْمَالِيَّةِ.. فَقُولُوا لِي بَرِبِّكُمْ أَيُّ ظُلْمٍ لِلْعُمَّالِ فَوْقَ هَذَا؟ وَمَا هَذَا الْجَشَعِ وَالتَّجَبُّرِ مِنْ هَذَا الْكَفِيلِ الشِّرِيرِ؟
خَامِسًا: تَرْكُ الْعَمَالَةِ فِي السُّوقِ بِدُونِ عَمَلٍ، وَهَذِهِ كَارِثَةٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الآثَارِ السَّلْبِيَّةِ، حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤَمِّنْ كَفِيلُهُ لَهُ عَمَلاً، وَلا يَجِدُ فِي السُّوقِ عَمَلًا يَسَدُّ الْمُتَطَلَّبَاتِ الْمَالِيَّةِ التِي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَلْجَأُ إِلَى الطُّرُقِ غَيْرِ النِّظَامِيَّةِ وَغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَوْفِيرِ الْمَالِ، حَتَّى رُبَّمَا سَرَقَ أَوْ نَهَبَ أَوْ زَوَّرَ، وَرُبَّمَا لَجَأَ إِلَى تَصْنِيعِ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مُزَوَّرَةٍ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى إِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصْحَبْهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَسادسًا: إِنَّ مِنْ صُوَرِ ظُلْمِ الْعُمَّالِ إِرْهَاقَهُمْ وَإِتْعَابَهُمْ بِمَا لا يُطِيقُونَ مِنَ الْعَمَلِ، أَوْ تَغْيِيرِ عُقُودِهِمْ لِأَعْمَالٍ رَدِيئَةٍ غَيْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47].
سابعًا: نُوَجِّهُ كَلِمَةً لِلْعُمَّالِ -وَفَّقَهُمُ اللهُ-، فَنَقُولُ: أَخِي الْعَامِلَ: اتَّقِ اللهِ فِي نَفْسِكَ، اتِّقَ اللهَ فِي عَمَلِكَ، اتَّقِ اللهِ فِيمَا تَعْمَلُ، وَتْأَخْذُ مِنْ مَالٍ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُكَ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْتَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي عُنُقِكَ وَأَنْتَ مَسْؤُولٌ عَنْهَا، قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنَوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتَكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونُ)[الأنفال:27].
ثامنا: اسْمَعُوا حُكْمَ بَيْعِ الفِيزَا الذِي تَقَدَّمَ الكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الخُطْبَةِ الأُولَى: "فَقَدْ أَفْتَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ عِنْدَنَا بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الفِيَزَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِهَا كَذِبًا وَمُخَالَفَةً وَاحْتِيَالًا عَلَى أَنْظِمَةِ الدَّوْلَةِ، وَأَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)[البقرة:188]. وَثَمُنِ الْفِيزَ التِي بِعْتَهَا وَالنِّسَبَ التِي تَأْخُذُهَا مِنَ الْعُمَّالِ كَسْبٌ مُحَرَّمٌ، يَجِبُ عَلَيْكَ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، بِأَنْ تُنْفِقَهَ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، مِنْ فُقَرَاءَ وَإِنْشَاءِ وَبِنَاءِ مَرَافِقَ تَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ" ا.هـ.
قَالَ شَيْخُنا العُثَيْمِينَ: "وَمَنِ اسْتَقْدَمَ عَامِلًا وَوَضَعَهُ فِي الْمَحَلِّ وَوَفَّرَ لَهُ السَّكَنَ وَالْمَعِيشَةَ، وَفَتَحَ لَهُ الْمَحَلَّ وَتَحَمَّلَ الْإِيجَارَ، وَقَالَ: اشْتَغِلْ وَتُعْطِينَي -مَثَلًا- فِي الشَّهْرِ أَلْفَ رِيَالٍ؛ فَهَذَا لا يَجُوزُ لِمُخَالَفَتِهِ النِّظَامَ. ثَانِيًا: فِيهَا مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ فِيهَا جَهَالَةً وَمَيْسِرًا".
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنَا خَطِيئَتَنَا وَجَهْلَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنَا جِدَّنَا وَهَزْلَنَا وَخَطَئَنَا وَعَمْدَنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَالَّلهُمَّ اكْفِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ، الَّلهُمَّ اجْعَلْنَا مِمنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.