الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | سالم بن مبارك المحارفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
إن الفسادَ عقبةٌ كؤودٌ في طريق التنمية والتقدم الحضاري, وحين يستشري في البلد نظل في مؤخِّرة الركب ونحن نرى غيرنا قد وصلوا في درجات التقدم والرقي منازل عُليا؛ فيجب أن يصحوَ الضميرُ الديني والوطني لدى أبناء المجتمع, والعاملين في المجال الحكومي والمؤسسي. ولقد كانت مبادرةً عظيمةً تلك التي قامَ بها خادمُ الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله- بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الحكومي ..
الحمد لله خلقَ الخلق وهو رادُّهم إلى معاد, يضلُ بعدله, ويهدي برحمته, ومن يضللِ اللهُ فما له من هاد, وأشهدُ ألا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له, أمر بالعدل, ونهى عن الفساد, وأشهدُ أن محمداً عبد الله ورسوله، سيّدُ ولدِ آدم, البَرُّ الرحيمُ الجواد, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته وزوجاته والتابعين, صلاةً وسلاماً دائمين يبلغانه من كل واد, وسلمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله حقِّقوا -رحمكم الله- وصية الله لكم بتقواه؛ فنعم الوصية من الرب الرحيم الكريم العليم إذ قال: (وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً) [النساء:131].
معاشر المسلمين: إننا حينما نتأمل كتابَ الله تبارك وتعالى, ونقرأه بترتيلٍ وتدبر, نرى أنه -جل في علاه- أمرنا بكل ما فيه خيُرنا في الدنيا والآخرة, وحذَّرَنا من كُلِّ ما فيه شرُّنا في الدنيا والآخرة، وإنَّ مما حذَّرنا منه سبحانه: الفساد.
ويجلي أهميتَه كونُ الدين كله ما جاء إلا لإقامة الصـلاح في الأرض والنهي عن الإفساد فيها، قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف:55].
ومن شأن إدراك ماهية الفساد وتتبع استعمالاته في القرآن الكريم أن يفضي إلى إقامة تصور شامل للمفهوم، يؤدي في مجمله إلى معرفة مدى حرص القرآن على تجنيب الناس الفساد بمقدار ما يريد الإصلاح منهم: (إنُ اَرِيدُ إِلَّا الاِصْلَاحَ مَا اَسْتَطَعْتُ) [هود:88].
كما أن بيان مختلف الأبعاد المعرفية للفظ الفساد في القرآن الكريم والحديث الشريف يجلي لنا خطورته، الأمر الذي يمثل طاقةً نفسيةً تعبئُ النفوس لاستيعاب معانيه، ثم العمل من أجل تجنبه ومحاربته في الواقع.
ولقد جاء ذِكرُ الفسادِ في القرآن مبيَّناً غايةَ البيان, فذكرَ جميعَ أنواعه, وهي في القرآن كالآتي: الفساد السياسي, والفساد الاجتماعي, والفساد المالي, والفساد الأخلاقي أو الديني.
أيها الناس: لقد حذَّر اللهُ -جل جلاله- من الفساد, وتوعد عليه بعقوبات دنيوية وأخروية, قال تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ) [هود:116], وقال -سبحانه- مهدداً ومتوعداً عليه: (وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) [يونس:40], وقال -جل في علاه-: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77]، وقال أهل العلم في قوله تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56], أي: ولا تُفْسدوا في الأرض بأيِّ نوع من أنواع الفساد, بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل -عليهم السلام-، وعُمْرانها بطاعة الله, وادعوه -سبحانه- مخلصين له الدعاء; خوفًا من عقابه ورجاءً لثوابه. إن رحمة الله قريب من المحسنين.
فالله سبحانه لما خلق الأرض خلقها صالحةً طيبةً, كما قالت الملائكة بعد قول الله لهم بجعله في الأرض خليفة, (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:30], إلا أن الناس سعوا في الأرض بأنفسهم فساداً عريضاً, وعاثوا فيها فساداً كبيراً, قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
عباد الله: إن الله تعالى عرض في كتابه جميع أنواع الفساد, فابتدأ سبحانه محذراً من الفساد الديني والأخلاقي, والمتمثل بعبادة غير الله تعالى وعدم طاعته, وعدم طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, فقال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [العنكبوت:36], وقال سبحانه: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28], فمَن عَبَدَ غيرَ الله وجاء بالكبائر وأصرَّ على الصغائر, فقد ارتكب أعظم الفسادِ وأشنعه, ومن وفَّى لله حقه الذي له ومات على التوحيد والطاعة, فنعم حينئذٍ العاقبة! (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
وأما الفسادُ السياسي فشأنه أيضاً عظيم؛ لأنه استغلالٌ للسلطة والقوة التي منحها الرب تبارك وتعالى لمن ولّاه أمر الناس, فالمـُلك لله يؤتيه من يشاء, وينزعه ممن يشاء؛ ولهذا فمَن تولى شأن العباد كله, وقام بالمـُلك والسلطان شرَّ مقام, وأفسد عليهم حياتهم, وظلم وجار, فمنهم من منعهم حريتهم, ومنهم من سفك دمهم, ومنهم من أخذ مالهم, ولم يحكّم فيهم بكتاب الله وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, وحكمهم بالقوانين الوضعية, أو الرأسمالية, أو الديمقراطية, فقد سعى بين الناس بالفساد.
ولهذا تجدون الرب تبارك وتعالى يكرر علينا قصة فرعون في القرآن في مواضع مختلفة لبيان شأنه وعظيم خطره, وكيف حكم الناس بالنار والحديد, وواجه المصلحين والناهين عن الفساد بأنواع العذاب الشديد, حينما قطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف, وصلَّبهم في جذوع النخل, واستعبدهم واستحيا نساءهم, ولما نزل به العذاب وقال كلمةَ التوحيد, وأعلن إسلامه حيث قال: (آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90], لم يقبل الله منه إسلامه، فقال: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:91].
وأما الفساد الاجتماعي, فقد نهى الله سبحانه عن القتل وسفك الدماء, ورتب عليه عقوبةً أليمةً في الدنيا والآخرة, قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء:93], وإذا انضم إليه الكِبرُ، مع إفساد الثروة الحيوانية والزراعية كان عظيماً, كما قال سبحانه: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة:205].
فإذا تكاثر المفسدون في البلاد كان أثرهم كبيراً على المجتمع المدني, قال تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [النمل:48], فهنا يتوجب على أهل الغيرة والإيمان سرعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يطهر المجتمع من الذنوب والمعاصي, ويسلم بذلك من العقوبات العامة, عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" رواه الترمذي وصححه.
وأما الفساد المالي, فقد نبه الله -تبارك وتعالى- وحذَّر عباده من أن يأكلوا أموال الناس بالباطل, حيث إن المال محبوبٌ للنفس ولو كان المرءُ غنياً, قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) [الفجر:20], وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" رواه مسلم.
وقال تعالى محرِّماً أخذ مال امرئٍ بغير حق واستخدام الحيل الخبيثة لنيل حكم قضائي بها, (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188], وهذا على مستوى الأموال الشخصية والتي يُعرفُ أصحابها بأعيانهم.
وأما أموال بيت المسلمين, والذي تتولى الحكومة شؤونه وإدارته, فإن الحكم في تحريمه ثابتٌ شرعاً, فلا يجوز لأميرٍ, ولا وزيرٍ, ولا رئيسٍ, ولا مدير, أن يتحايل على أموال الحكومة ليمتلكها بأدنى الحيل, فإنه غلول؛ قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [آل عمران:161].
وعن أبي حُميد الساعدي قال: استعمَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني أسد يُقال له: ابن اللُّتْبيَّة -قال عمرو وابن أبي عمر: على الصدقة- فلمَّا قَدِم، قال: هذا لكم، وهذا أُهْدِي لي. فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فحَمِد الله وأثْنَى عليه، ثم قال: "ما بال العامل نَبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا لي، فهلاَّ جلَس في بيت أبيه وأُمِّه، فيَنظر أيُهْدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده! لا يأتي بشيء إلاَّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَر"، ثم رفَع يديه، حتى رأَيْنا عُفْرتَى إبطَيه: "ألا هل بلَّغْت؟!" ثلاثًا. رواه البخاري ومسلم.
ولم يصلِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على جنازة رجل وقال عنه إنه غلَّ شملةً من الغنائم قبل قسمتها, وأخبر أنها تشتعل عليه في قبره نارا. رواه مسلم. وروى مسلم أيضاً عن عدي بن عميرة الكندي، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا أيها الناس، مَن استعملناه منكم على عمل فليأت بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ وما لا فليدع, ومن كتم منه خياطا أو مخيطا فما سواه فهو غلول يأتي به يوم القيامة". فقام إليه رجل من الأنصار أسود قصير كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله، اقبل مني عملك. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما ذاك؟". قال: الذي قلت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأنا أقوله الآن: مَن استعملناه منكم على عمل فليأت بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى" .
أيها الناس: إن الفسادَ عقبةٌ كؤودٌ في طريق التنمية والتقدم الحضاري, وحين يستشري في البلد نظل في مؤخرة الركب ونحن نرى غيرنا قد وصلوا في درجات التقدم والرقي منازل عُليا؛ فيجب أن يصحوَ الضميرُ الديني والوطني لدى أبناء المجتمع, والعاملين في المجال الحكومي والمؤسسي.
ولقد كانت مبادرةً عظيمةً تلك التي قامَ بها خادمُ الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله- بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الحكومي, وإني من خلال هذا المنبر أدعو كل مسؤول أن يحاسب نفسه قبل أن يُحاسب, وألا يُدخل في جوفه مالاً حراماً بحجة أنه مال الحكومة, وأن له حقاً في بيت مال المسلمين, فهذه حجة باطلة, ومسوغٌ شيطاني استحل بعضهم به ما حرم الله عليه, فامتلأ جوفه مالاً حراماً, وغذَّى أولاده من مال حرام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة:34-35].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
معاشر الصائمين: هذه ليالي العشر الأخيرة من رمضان قد أطلت بخيرها الوفير, وفضلها الكبير, وشأنها الخطير, ليالي العشر فيها أعظمُ ليلة في العام, نزل فيها القرآن, وجعل الله قيامها يعدل في الأجر قيام ألف شهر, فيها تنزل الملائكة بقيادة الروح جبريل -عليه السلام-، فيعمرون الأرض, ويحل السلام, ويكثر الخير, ويعتق الله رقاب أناس من النار.
قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) سورة القدر.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها, ومن ذلك أنه كان يعتكف فيها، ويتحرى ليلة القدر خلالها, وفي الصحيحين من حديث -عائشة رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد مئزره. زاد مسلم: وجَدَّ وشد مئزره. وقولها: وشد مئزره فيه كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد، ومعناه التشمير في العبادات. وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع.
والله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه، كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه. وقوله: إيماناً واحتساباً، أي: تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، وطلباً للأجر، لا لقصدٍ آخر من رياء أو نحوه.
فاجتهدوا -عباد الله- في هذه الليالي القليلة المباركة قبل أن تفوتَ عليكم ويفوت معها أجرٌ عظيم.
ألا وصَلُّوا وسلِّموا على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].