الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله العجمة الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحياة الآخرة |
ففي الجنة النعيم المقيم، والخير العميم، والفضل من الله الرحمن الرحيم، فيها الأسِرَّةُ المرتفعة التي توحي بالنظافة والطهارة، والأكواب المصفوفة المهيأة للشراب والتي لا تحتاج إلى طلب أو إعداد، والوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح، والبسط والسجاجيد المبثوثة هنا وهناك للزينة والراحة سواء، هذا وغيره مما ذُكِرَ من النعيم والمناعم التي وردت في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه مما يرى الناس لأسمائها أشباهًا في الأرض ..
أما بعد: فلا زال الحديث عن الجنة متصلاً بسابقه، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، كما نسأله تعالى أن يجيرنا من النار، إنه سميع مجيب، وهو على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أيها المسلمون: لقد سبق الكلام في الجمعة السابقة عن الجنة وأبوابها وقصورها وسعتها واستقبال أهل الجنة وتفاضلهم وصفتهم، والآن أكمل إن شاء الله بعضًا مما تبقى فيما ورد عن نعيمها.
فعن خيامها وغرفها روى أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا". رواه البخاري ومسلم والترمذي إلا أنه قال: "عرضها ستون ميلاً" وهو رواية لهما.
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنها من ظاهرها"، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟! قال: "لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا والناس نيام". رواه الطبراني والحاكم وقال: "صحيح على شرطهما"، ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري، إلا أنه قال: "أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام".
وعن أنهار الجنة روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدُّرِّ والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج". رواه ابن ماجه والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما الكوثر؟! قال: "ذاك نهر أعطانيه الله -يعني في الجنة-، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجُزر"، قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ منها". حديث حسن رواه الترمذي. قال الله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلّ لِرَبّكَ وَنْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) [سورة الكوثر].
وقد ورد قول الله تعالى في سورة محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الأنهار الأربعة التي هي أصل كل أنهار الجنة بأنها أنهار الماء غير الآسن، أي: الماء الصافي الذي لا كدر فيه وغير متغير الرائحة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، بل في غاية البياض والحلاوة والدّسُومَة، وأنهار من خمر لذة للشاربين، أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، ولا تذهب بالعقل ولا تغيبه، بل حسنة المنظر والطعم، قال الله -جل جلاله-: (لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) [الصافات: 47]، (لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ) [المعارج: 19]، وأنهار من عسل مصفّى أي: وهي في غاية الصفاء وحسن اللون والطعم والريح، قال تعالى: (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـارِبِينَ وَأَنْهَـارٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد: 15].
وعن شجر الجنة قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضَمَّر السريع مائة عام لا يقطعها". رواه البخاري ومسلم والترمذي.
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- في تفسير قول الله تعالى: (وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً) [الإنسان: 14] قال: "إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قيامًا وقعودًا ومضطجعين". رواه البيهقي وغيره موقوفًا بإسناد حسن.
وأهل الجنة يأكلون ويشربون ومع ذلك لا يتغوَّطُون ولا يبولون ولا يمتخطون، بل يكون طعامهم ذلك جشاءً كريح المسك، ولهم في الجنة ما يشتهون وما تتوق له وتتمناه أنفسهم، قال تعالى: (ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَـاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوبٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف: 68-73]، وقال تعالى: (إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوجُهُمْ فِى ظِلَـالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ) [يس: 55-58]، وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جُشَاءٌ كريح المسك، يُلهمون التسبيح والتكبير كما تُلهمون النَّفَسَ". رواه مسلم وأبو داود.
وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أبا القاسم: تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟! قال: "نعم، والذي نفس محمد بيده، إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع"، قال: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى، قال: "تكون حاجة أحدهم رشحًا يفيض من جلودهم كرشح المسك فيضمر بطنه". رواه أحمد والنسائي، ورواته محتجّ بهم في الصحيح.
نعم، إن الرجال والنساء من أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولكن شَتَّان بين نعيم الجنة الذي لا يَنْفَد ولا ينقطع من فترة لأخرى وبين الحال الموجود في الدنيا، والفرق شاسع بين فواكه الجنة ونعيمها الآخر من الأكل والشرب الذي يختلف في اللذة والطعم والوصف عن متاع الدنيا، فلا يوجد في الدنيا إلا بعض الأسماء فقط من العنب والنخل والرمان والسدرِ المخضودِ المقطوعِ شوكُهُ والطلح المنضود الذي فُسِّرَ بالموز، وغير ذلك من أنواع الفاكهة التي ذكرت جملة في عدة آيات من القرآن وتفصيلاً في بعضها.
ومن المشروبات الماء والعسل والخمر واللبن، أضف إلى ذلك النعيم بالأكل والشرب منها والتلذذ بها من غير تعب ولا نصب ولا انقطاع ولا مِنَّةَ فيها بأنها تخرج من غير بول ولا غائط ولا نواتج أخرى وإخراج وإفراز من عرقٍ نتن الرائحة ولا صمغ ولا بصاق ولا مخاط، بل رشح وعرق يخرج كأطيب وأفضل ريح مسك وجد على وجه الأرض.
أيها المؤمنون: إذا كان الإخراج والإفراز مستقذرًا من الرجل في هذه الدنيا، فإن ذلك أشدُّ استقذارًا منه في نساء أهل الدنيا اللائي هن أعظم فتنة على الرجال من أي فتنة أخرى، فهن يحملن بين جنوبهن البول والغائط، ويتخلَّصْنَ منه ومن دم الحيض والنفاس والعرق والمخاط والبصاق والصمغ بما خلقهن الله عليه، ولا إرادة لهن في ذلك، ومع ذلك بذاءة اللسان والمكر والخداع والكيد وغير ذلك مما نعلمه جميعًا، وليس هذا خاصًا بهن دون الرجال، بل الجميع مشتركون فيه ما عدا الحيض والنفاس أو ما يسمى بالدماء الطبيعية، فالبول والغائط والمخاط والبصاق والصمغ والعرق موجود في الذكور والإناث من أهل الدنيا، في المسلم والكافر، في الكبير والصغير والغني والفقير والملك والمملوك والوزير والأمير والمأمور والصانع والتاجر والطبيب والمريض والعالم والجاهل، وأوردت ذلك للتقريب بين الحياة مع نساء الدنيا وبين النعيم مع الحور العين في الجنة، وأهمس في آذان الذين يسعون وراء الحرام، وربما وقع أحدهم في دماء المرأة وظهر أثرُ البَرَصِ عليه بين الناس بسبب الشهوة العارمة لكليهما وقذارتهما، فهل يفيق الغافلون ويتوبون إلى الله عز وجل؟! فالله يقبل توبة التائبين، وإنا لنرجو لهم التوبة وللجميع الثبات على الإيمان حتى الممات.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولَقَابُ قَوْسِ أحدكم أو موضع قيدِهِ -يعني سوطه- من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطَّلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحًا، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها". رواه البخاري ومسلم والطبراني مختصرًا بإسناد جيد، إلا أنه قال: "ولتاجها على رأسها خير من الدنيا وما فيها". والنَّصِيفُ: الخمار.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أَضْوَأ كوكبٍ درِّيٍٍّ في السماء، ولكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب". رواه البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى-.
وورد عن أم سلمة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: قلت: يا رسول الله: أخبرني عن قول الله -عز وجل-: (وَحُورٌ عِينٌ) [الواقعة: 22]، قال: "حور: بيض، عين: ضخام، شُفْرُ الحوراء بمنزلة جناح النسر"، والمراد بالشفر جفن العين، قلت: يا رسول الله: فأخبرني عن قول الله -عز وجل-: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَلْمَرْجَانُ) [الرحمن: 58]، قال: "صفاؤهن كصفاء الدر الذي في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي"، قلت: يا رسول الله: فأخبرني عن قول الله -عز وجل-: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) [الرحمن: 70]، قال: "خيرات الأخلاق حسان الوجوه"، قلت: يا رسول الله: فأخبرني عن قول الله -عز وجل-: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ) [الصافات: 49]، قال: "رقتهن كرقة الجلد الذي في داخل البيضة مما يلي القشر"، قلت: يا رسول الله: فأخبرني عن قول الله -عز وجل-: (عُرُبًا أَتْرَابًا) [المعارج: 37]، قال: "هن اللواتي قُبِضْنَ في دار الدنيا عجائز رُمصًا شمطًا، خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى، عربًا متعشّقات متحبّبات، أترابًا على ميلاد واحد"، قلت: يا رسول الله: أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟! قال: "نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظِّهارة على البطانة"، قلت: يا رسول الله: وَبِمَ ذاك؟! قال: "بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله -عز وجل-، ألبس الله -عز وجل- وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحليّ، مجامرهنّ الدر، وأمشاطهن الذهب، يَقُلْنَ: ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدًا، ألا ونحن الناعمات فلا نَبْأَسُ أبدًا، ألا ونحن المقيمات فلا نَظْعَنُ أبدًا، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كنّا له وكان لنا"، قلت: يا رسول الله، المرأة منا تتزوّج الزوجين والثلاثة والأربعة في الدنيا ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها، من يكون زوجها منهم؟! قال: "يا أم سلمة: إنها تُخَيَّرُ فتختار أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، فتقول: أي رب: إن هذا كان أحسنهم معي خلقًا في دار الدنيا فَزَوِّجْنِيهِ، يا أم سلمة: ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة". رواه الطبراني في الكبير والأوسط.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات سمعها أحد قط، إن مما يغنّين به: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بِقُرَّةِ أَعْيَان، وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا نَمُتْنَهْ، نحن الآمنات فلا نَخَفْنَهْ، نحن المقيمات فلا نَظْعَنَّهْ". رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورواتهما رواة الصحيح.
وورد في عددهن للمؤمن الواحد عدة روايات، منها: له زوجتان، ومنها: اثنتان وسبعون، وأربع وسبعون، ومائة عذراء، ولا منافاة في ذلك ولا غرابة، فبذلك وردت الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرواية الزوجتين كما ورد في الحديث السابق ذكره، ومن روايات المائة ما ورد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قيل: يا رسول الله: هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟! فقال: "إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء"، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع"، قيل: يا رسول الله: أوَيطيق ذلك؟! قال: "يعطى قوة مائة". وقد يكون ذلك حسب تفاوت الدرجات بين أهل الجنة، وقد تكون الزوجة أو الزوجتان من نساء الدنيا والبقية من الحور العين في الجنة، والله أعلم بذلك.
فعلينا الإيمان والتصديق في هذا وفي غيره من أمور الغيب؛ لأن عقولنا وأفهامنا وإدراكنا أقل من ذلك وأعجز مما نتصوره ونتخيله، فالإيمان والتصديق واجب بكل ما ورد في القرآن الكريم وفي صحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحق الذي لا مِرْيَةَ فيه ولا شَكَّ عند أي مؤمن أن الجنة كما ذكر الله عنها وذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس نزلاً لعباده المؤمنين، ونوّع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلاً وأسبابًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أحمده -جل وعلا- وأشكره، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
ففي الجنة النعيم المقيم، والخير العميم، والفضل من الله الرحمن الرحيم، فيها الأسِرَّةُ المرتفعة التي توحي بالنظافة والطهارة، والأكواب المصفوفة المهيأة للشراب والتي لا تحتاج إلى طلب أو إعداد، والوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح، والبسط والسجاجيد المبثوثة هنا وهناك للزينة والراحة سواء، هذا وغيره مما ذُكِرَ من النعيم والمناعم التي وردت في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- مما يرى الناس لأسمائها أشباهًا في الأرض، عندما تُذْكَرُ هذه الأشياء إنما هو لتقريبها لمدارك أهل الأرض، أما حقيقتها وحقيقة المتاع بها فذلك موكول إلى الله العزيز الحكيم قَيُّومِ السماوات والأرض، وإلى علمه -جل جلاله وتعالى سلطانه-، فهو الذي أحاط بكل شيء علمًا، وهو الذي خلقها وخلق جميع الخلائق وأوجدها من العدم سبحانه وبحمده، لا إله إلا هو اللطيف الخبير.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهبُّ ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فتقول لهم أهلوهم: والله، لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً". رواه مسلم -رحمه الله-.
وأعظم كرامة في الجنة النظر إلى وجه الله العزيز الكريم ذي العزة والجبروت، عن صهيب بن سنان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله -عز وجل-: تريدون شيئًا أزيدكم؟! فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟!"، قال: "فَيُكْشَفُ الحجابُ، فما أعطوا شيئًا أحَبَّ إليهم من النظر إلى ربهم"، ثم تلا رسول الله هذه الآية: (للَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26]. رواه مسلم والترمذي والنسائي.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن ناسًا قالوا: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟! فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟!"، قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟!"، قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك"، فذكر الحديث بطوله. رواه البخاري ومسلم.
وَقَدْ فُسِّرَ قولُ الله -عز وجل-: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 35] بالنظر إلى وجه الله -تبارك وتعالى-، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أفضل أهل الجنة منزلة من ينظر إلى وجه الله تعالى كل يوم مرتين". رواه ابن أبي الدنيا مختصرًا.
وقد قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول الله -عز وجل-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 23] عندها قال -عليه الصلاة السلام-: "وأكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجه الله -عز وجل- غدوة وعشية". رواه أحمد والترمذي.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة: فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟! فيقولون: وما لنا لا نرضى -يا ربنا- وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". رواه البخاري ومسلم والترمذي -رحمهم الله تعالى-.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عز وجل-: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤُوا إن شئتم: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه -رحمهم الله تعالى-.
فيا أيها المؤمنون: المسارعةَ المسارعةَ، والمنافسةَ المنافسةَ، والبدارَ البدارَ بالتقرب إلى الله -عز وجل- ومحبته تعالى واتباع نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر به، والابتعاد عما نهى عنه وزجر، والخوفَ الخوفَ من الله تعالى ومن أليم عقابه، والرجاءَ الرجاءَ في الله -سبحانه وتعالى- وما عنده من الأجر العظيم والثواب الكبير والمغفرة والرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء، نسأل الله أن يدخلنا فيها، كما أن علينا أن لا نأمن مكر الله وغضبه؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه -جل وعلا- أنه قال: "وعزتي، لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة". رواه ابن حبان في صحيحه.
فعلينا الأخذ بالأسباب وهي الأعمال الصالحة، والبعد عن كل ما يسخط الله -عز وجل-، ومع ذلك نرجو رحمة الله -عز وجل-؛ لأن الأعمال الصالحة أسباب لدخول الجنة التي لن يدخلها أحد بعمله، أي: مقابل العمل الصالح وثمنًا لها، وإنما هي الأسباب التي أُمرنا بفعلها والأخذ بها، وإلا فرحمة الله هي فوق ذلك ومَنُّه وكرمه على عباده، فباءُ الْعِوَضِ غَيْرُ بَاءِ السَّبَبِ التي وردت في الآيات والأحاديث، فليتنبه كل مسلم لهذا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله...