القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | فيصل سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
مع قلة عدد، وضعف عتاد، حقق صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النصر على أعدائهم، ومن عجب أن هذا النصر وذلك التأييد ما كان في ميدان دون ميدان، أو في وقت دون وقت، وإنما كان في كل الميادين وفي كل الأوقات!! الله تعالى يختار للنصر جنودًا يستحقونه، تغلبوا على نفوسهم، ودحروا شياطينهم، ولم تغرهم دنياهم، ووضعوا الآخرة نصب أعينهم ..
الحمد لله، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله واعبدوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أحبتي الكرام: مع قلة عدد، وضعف عتاد، حقق صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النصر على أعدائهم، ومن عجب أن هذا النصر وذلك التأييد ما كان في ميدان دون ميدان، أو في وقت دون وقت، وإنما كان في كل الميادين وفي كل الأوقات!!
الله تعالى يختار للنصر جنودًا يستحقونه، تغلبوا على نفوسهم، ودحروا شياطينهم، ولم تغرهم دنياهم، ووضعوا الآخرة نصب أعينهم، ألا يستحق نصرهم هذا أن نلتفت إلى أسبابه، فنتأمل فيها، لنقيمها في أنفسنا وننهض بها في أمتنا، لنأخذ بيدها نحو نصر الله تعالى.
إن أول أسباب النصر في جيل الصحابة: إخلاص الوجهة والعمل لله تعالى، فإن الله تعالى يقول: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 112].
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟! قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟! قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟! قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ". رواه مسلم.
وانتصر الصحابة باتباعهم سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى خالطت السنة أمشاجهم، وجرت في دمائهم، هذا أبو بكر يصر بكل شدة أن يقاتل مانعي الزكاة ويقول: "والذي نفسي بيده لأن أقع من السماء أحب إليّ من أن أترك شيئًا قاتل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا أقاتل عليه". فقاتل مانعي الزكاة حتى رجعوا إلى الإسلام.
أما عُمَر ابْنَ الْخَطَّابِ فقد التفت إلى الحجر الأسود وهو يطوف فقال له: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ، فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ -وهو المشي بهرولة- إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ -أي نظهر فيه قوتنا للمشركين-، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - فَلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ". رواه البخاري.
هكذا تنتصر الأمة حينما تتبع هدي حبيبها محمد -صلى الله عليه وسلم-، هكذا تظهر على كل الأمم حينما تسير على هداه، ولا تتنكب عنه، القوة مصدرها، والنصر حليفها، وما من أمة تعرض عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ويأتيها يوم يزول عرشها، وينهد بنيانها، فعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله -عز وجل- إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
قال أبو القاسم الجنيد: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- واتبع سنته، ولزم طريقه، فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه".
وانتصر الصحابة -يا أحبة- بتطهير النفوس، فقد قرن الله تعالى الفلاح بتزكيتها، فقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9، 10].
كيف نسأل كيف انتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نعلم أنه كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "لِمَ تَصْنَعُ هَذَا -يَا رَسُولَ اللَّهِ- وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ: أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا" رواه البخاري.
ويهذب نفسه بالصيام، والصدقة، ولا يفتأ عن الذكر، ولا يغفل عن حسن التفكر في نعم الله وآلائه، وعلى الطريق سار أصحابه الكرام، يطهرون أنفسهم من متعلقات هذه الدنيا ليصنعونها نفسًا أبية تعشق النصر ولا ترضى بغيره.
قال الحسن: "تزوج عثمان ابن أبي العاص امرأة من نساء عمر بن الخطاب بعد طلاقها منه، فقال: والله ما نكحتها حين نكحتها رغبة في مال ولا ولد، ولكن أحببت أن تخبرني عن ليل عمر، فسألها: كيف كانت صلاة عمر بالليل؟! قالت: كان يصلي العتمة، ثم يأمر أن نضع عند رأسه تورًا -إناءً- من ماء نغطيه، ويتعار من الليل، فيضع يده في الماء، فيمسح وجهه ويديه، ثم يذكر الله ما شاء الله أن يذكر، ثم يتعارّ مرارًا حتى يأتي على الساعة التي يقوم فيها لصلاته".
وعن الحسن قال: "قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: "لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وأني لأكره عليّ يوم لا أنظر في المصحف، ما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه".
وقد تعجب كما عجبت، فما علاقة النصر بمثل هذه الركعات وتلك الوقفات مع كتاب رب الأرض والسماوات!!
فالجواب -أيها الحبيب- ما أوصى به عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد حينما قال لهم: "أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا".
وانتصر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بزهدهم للدنيا، حيث نظروا إليها بأنها دار اختبار وامتحان، وأنها مزرعة الآخرة، وتمثلوا قول الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
فأبو بكر من أثرياء المهاجرين يدعى إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى وتجهيز الجيوش فيأتي بكل ماله، وحين سأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟!"، قال: أبقيت لهم الله ورسوله".
وأما عثمان فإنه يجهز جيشًا بأكمله حتى قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم". رواه أحمد.
فحين تحرر الصحابة من سيطرة الدنيا بزخارفها وزينتها وأسلموا أنفسهم لله تعالى أعزهم الله وأيدهم بنصر منه، فإنه هو القوي المتين، إننا بحاجة اليوم إلى يقين تام بأننا غرباء في هذه الدنيا أو عابرو سبيل، وأن هذه الدنيا لا وزن لها عند الله إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا، وأن نهاية الدنيا قريبة وإن بدت بعيدة: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 1].
اللهم ألهمنا أسباب نصرك، وانصرنا على أعدائنا، واغفر لنا ذنوبنا فإنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده يستحق الحمد كله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الأكارم: لعلكم تنتظرون مني أن أقول لكم: إن من أهم أسباب نصر الصحابة هو اجتماع كلمتهم، وإيمانهم بأن الوحدة سبيل إلى النصر، وأن تنازع القلوب، وتفكك الكلمة سبيل إلى الهزيمة، إنها التربية الربانية التي انقادت لها تلك النفوس الطيبة، ألم يقل الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103]، ألم يقل الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
أي نفس نشأت على حب التنازع وعشق الفرقة فهي نفس مهزومة ولا شك، أي نفس تسعى في تشتيت الشمل، وتمزيق الاعتصام فهي نفس هابطة مهينة.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إلا أَنْ يَرْجِعَ". رواه الترمذي وصححه.
ألا تتفق معي -يا رعاك الله- أن الأمة اليوم تلاقي جبهة عدائية شرسة من الخارج، لم تقف عند الاعتداء على حدودها أو أخلاقياتها، بل تعدت إلى سوء الأدب على ربها وكتابه ونبيه -صلى الله عليه وسلم-، فما أقبح أن نكون فرقًا شتى، يستغل العود فينا كل ثغرة أو ضعف فرقة، وإن هذه الوحدة تبدأ من ألفة الزوجين إلى الأبناء إلى الجيران إلى المجتمع من حولنا إلى البلد بكامله إلى الأمة بأسرها، هكذا كالبنيان المرصوص، فإن الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف: 4]، فما أروعها من نفس تتطهر الآن عن كل الأحقاد عن كل الضغائن، لتعود من جديد نفسًا طاهرة لا تعرف إلى الحقد طريقًا ولا إلى الحسد مسلكًا، تتزاور في الله ولله، وتعمر قلوبها بالمحبة الصادقة من دون غبش الدنيا ولا عتمتها، تتناصح من أجلها سعادتها، وتتحاور من أجل اجتماعها، ويعذر بعضها بعضًا، ويصفح بعضها عن بعض.
وللحديث عن أسباب نصر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقية إن بقي في العمر بقية.
صلوا على القدوة العظمى، والأسوة الحسنة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم احفظ هذه الأرض من شر الأشرار، وكيد الفجار، اللهم من أرادها وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده تدميرًا له، اللهم رد كيده في نحره، واجعله عبرة لمن يعتبر.