البحث

عبارات مقترحة:

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

المؤمن

كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

سيرة مجاهد (أبو دجانة الأنصاري)

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. جهاد أبي دجانة الأنصاري .
  2. كوْنه من الأنصار السابقين المستقبلين للنبي الكريم .
  3. جهاده بسيف النبي الكريم .
  4. تحمله المسؤوليات .
  5. سلامة صدره .

اقتباس

فلقد علِم صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في الجهاد فضلاً لا يضاهى، وخيراً لا يتناهى، وأيقنوا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الريَّ الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، فشمروا للجهاد عن ساق الاجتهاد، ونفروا إلى ذوي الكفر والعناد، جهزوا الجيوش والسرايا، وبذلوا في سبيل الله العطايا، أقرضوا أموالهم لمن يضاعفها ويزكيها، ودفعوا سلع النفوس من غير مماطلة لمشتريها، ضربوا الكافرين فوق الأعناق، واستعذبوا من المنية مرّ المذاق ..

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فلقد علِم صحابةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن في الجهاد فضلاً لا يضاهى، وخيراً لا يتناهى، وأيقنوا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الريَّ الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، فشمروا للجهاد عن ساق الاجتهاد، ونفروا إلى ذوي الكفر والعناد، جهزوا الجيوش والسرايا، وبذلوا في سبيل الله العطايا، أقرضوا أموالهم لمن يضاعفها ويزكيها، ودفعوا سلع النفوس من غير مماطلة لمشتريها، ضربوا الكافرين فوق الأعناق، واستعذبوا من المنية مرّ المذاق، وباعوا الحياة الفانية بالعيش الباق.

روى أبو بكر بن عبد الله بن قيس الأشعريُ -رضي الله عنه- قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف"، فقام رجل رث الهيئة، فقال: يا أبا موسى، أنت سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا؟ قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جَفْن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قُتل. أخرجه مسلم والترمذي.

كان السابقون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهاجرين وأنصاراً، المهاجرون لهم الهجرة، والأنصار لهم النصرة، وجميعهم تعاهدوا على عبادة الله وحده، وطاعة نبيه، ونشر دينه، والجهاد في سبيله، حتى قال قائلُ الأنصار في بدر لما استشارهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتال المشركين: امض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد.

والحديث عن الجهاد والمجاهدين، والأنصار والمهاجرين، حديث تحبه النفوس المؤمنة، التي لم تنخدع بعد بالرموز المزورة من أهل المبادئ المنحرفة، والأفكار الهدامة، وذوي الانحلال الأخلاقي ممن ينشرون الفساد باسم الفن والإثارة.

وهذه نظرة في سيرة علَم من أعلام الجهاد، وبطل من أبطال الإسلام، إذا ذُكِرَت أُحُدٌ لازم ذكرهُ ذكرَها؛ فقد كان بلاؤه فيها عظيماً، مع حسنِ بلائه في بَدْرٍ وحُنَيْنٍ وخيبر، واليمامة التي كان استشهاده بها.

ذلكم أبو دجانة، سماك بنُ خَرشة الساعديّ الأنصاري -رضي الله عنه وأرضاه-. كان من المستقبلين للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم هجرته، وكان مع سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو يقولون: "هلم يا رسول الله إلى العز والثروة، والقوة والجَلَد والعدد، آخذين بخطام ناقته؛ لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول لهم ولغيرهم: "خلّوا سبيلها فإنها مأمورة".

وكان الأسودُ بن المطلب من المستهزئين برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، المحاربين لدعوته؛ فدعا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعمى ويثكل ولَده فجلس في ظل شجرة، فجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقها وشوكها حتى عمي. وقيل: أومأ إليه فعمي فشغله ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقُتل ابنه معه كافراً، قتله أبو دجانة -رضي الله عنه-.

وفي أحُد جرّد النبي -صلى الله عليه وسلم- سيفاً باتراً ونادى أصحابه: "مَن يأخذ هذا السيف بحقه؟" فقام إليه رجال يأخذوه، منهم: على بن أبي طالب والزبيرُ بن العوام وعمُر بن الخطاب -رضي الله عنهم-؛ حتى قام إليه أبو دجانة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: "أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني". قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه.

كان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت، فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة.

أقبل أبو دجانة معلَّماً بعصابته الحمراء، آخذاً سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مصمماً على أداء حقه، فقاتل حتى أمعن في الناس، وجعل لا يلقي مشركاً إلا قتله. وأخذ يهدُّ صفوف المشركين هداً؛ حتى قال الزبير بن العوام: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت في نفسي: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه فسألته إياه قبله؛ فآتاه إياه وتركني، والله لَأنظرنَّ ما يصنع؟ فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت... فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله. ولا يرتفع له شيء إلا هتكه وأفراه.

وكان في المشركين رجلٌ لا يدع لنا جريحاً إلا ذفّف عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشركُ أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه فضربه أبو دجانة فقتله.

واخترق أبو دجانة صفوف المشركين يهدها ويفرقها حتى خلص إلى نسوة قريش، قال -رضي الله عنه-: "رأيت إنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف وَلْوَل، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أضرب به امرأة".

فلما رأى الزبير -رضي الله عنه- أفاعيل أبي دجانة في المشركين رضي وقال: "الله ورسوله أعلم".

وكان عبيد بن حاجز العامري من الشجعان، أقبل على المسلمين يعدو كأنه سَبُعٌ ضارٍ، فضرب رجلاً من المسلمين فجرحه، فوثب إليه أبو دجانة فناوشه ساعة ثم ذبحه بالسيف ذبحاً.

ولما دارت الدائرة على المسلمين في أُحُد ثبت أبو دجانة يدافع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم جعل من جسده ترساً دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقع النبل في ظهره وهو منحن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كثرت فيه النبل، ومع كثرة النبل الذي أصابه، والجراح التي أنهكته فإن أبا دجانة سلم من الموت.

ولقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على قتال أبي دجانة في أُحُد، حيث أعطى عليٌّ فاطمة -رضي الله عنهما- سيفه بعد أحد وقال: هاك السيف؛ فإنها قد شفتني. فقال له: لئن كنتَ أجدتَ الضرب بسيفك لقد أجاد سهل بن حنيف وأبو دجانة وعاصمُ بن ثابت الأقلح والحارث بن الصمة.

وشارك -رضي الله عنه- في حصار بني النضير، وندبه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع علي بن أبي طالب وسهل بن حنيف في عشرة من أصحابه لملاحقة اليهود الذين أرادوا أخذ المسلمين على حين غرة، فأدركوهم فقتلوهم، وطرحت رؤوسهم في بعض البئار.

وفي خيبر، وحينما حميت المبارزة بين اليهود والصحابة خرج يهودي يدعو إلى المبارزة فخرج له رجل من آل جحش فقتله اليهودي، ثم دعا إلى المبارزة فخرج إليه أبو دجانة وقد عصب رأسه بعصابته الحمراء فوق المغفر يختال في مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه فقطع رجله، ثم ذفّف وأخذ سلبه: درعه وسيفه، فجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنفله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وأحجم اليهود عن البراز، فكبّر المسلمون ثم تحاملوا على حصن اليهود فدخلوه يقدمهم أبو دجانة -رضي الله عنه- حتى فتحوه.

وفي حنين أصابت أبا دجانة جراح شديدة، وأبلى بلاءً حسناً، وحضر -رضي الله عنه- غزوة العسرة، وأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- راية الخزرج.

ولما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واصل أبو دجانة جهاده مع الصديق بكل شجاعة وإقدام، وكان تحت إمرة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في قتال مسيلمة ومن معه من المرتدين.

بل كان من المشاركين في قتل عدو الله مسيلمة، روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: رمى أبو دجانة بنفسه يوم اليمامة إلى داخل الحديقة - وكانت تسمى حديقة الموت - فانكسرت رجله فقاتل وهو مكسور الرِّجل حتى قتل -رضي الله عنه- وأرضاه.

فلله دره! ما أشجعه! وما أقواه! وما أشد رغبته فيما عند الله!

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - بفعل ما أمر، واجتناب الفواحش ما بطن منها وما ظهر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) [الأنفال:29].

أيها الإخوة المؤمنون: كان ذلك استعراضاً سريعاً لبعض فصول سيرة صاحب جليل، وتذكيراً بملاحم الجهاد والقوة، والشجاعة والإقدام، التي دونتها السير والتاريخ لأبي دجانة -رضي الله عنه- وأرضاه•

ومع كل هذه القوة والشدة فإن أبا دجانة لم يكن له حظ من الدنيا وافر؛ بل عاش فقيراً -رضي الله عنه-، ولما قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرض بني النضير بعد إجلائهم بين المهاجرين لم يعط الأنصار شيئاً سوى سهل بن حنيف وأبي دجانة فإنه أعطاهما لفقرهما -رضي الله عنهما-.

لقد كان أبو دجانة محل ثقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان أهلاً لتحمل المسؤوليات، وورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خرج إلى حجة الوداع استعمله على المدينة، وهو أهل لذلك -رضي الله عنه-.

ومع هذه المنزلة التي يتبوَّؤها أبو دجانة من كسب ثقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجهاده وتضحياته لم يكن مفاخراً بعمله، أو ذاكراً له؛ بل كان يزري بنفسه.

وقد حباه الله نعمة أخرى عظيمة وهي سلامة القلب، قال زيد ابن أسلم: دُخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عملِ شيء أوثقُ عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً.

أيها الإخوة: هذه النماذج من البشر هي التي ينبغي أن تبكى كما يجب أن تحتذى، هم السروج التي تضيء الطريق الصحيح، وتدل على الصراط المستقيم في ظلام التخبطات الفكرية، والانحراف الأخلاقي، والعيش من أجل الدنيا، والتكالب عليها.

إن تجرد هؤلاء الرجال من الدنيا جعلهم يفتكون بأشد الناس فتكاً، لا يقف أمامهم شيء، وهل يمكن أن يقف في وجه من يريد المنية شيء مهما بلغت قوته؟!.

إن عيش هؤلاء الرجال من أجل الآخرة، وتسخير الدنيا سبيلاً إليها، وعدم الاهتمام بلذائذها؛ جعل منهم جيشاً جهادياً قوياً، لايهاب المنايا، ولا يكَلّ من كثرة القتال، ولا يهتم لبعد البلدان؛ إنما همه أن ينشر دين الله في الأرض، ويقيم شرعه؛ فأسقطوا الدولتين العظيمتين في وقتهم: فارس والروم بعدد وعتاد قليل، لكن بإيمان قوي راسخ.

والمسلمون في هذا الوقت يشكلون أعداداً كثيرة لكن نزعت منهم البركة، وحلّ بينهم الخلاف والتنافر؛ لأن الدنيا صارت هدفاً بديلاً عن الآخرة عند كثير منهم، يتقاتلون من أجلها، فماذا كانت العاقبة؟!.

لقد كانت مزيداً من الذل والهوان، وتسلط الأعداء في كل مكان، فهل ندرك -ونحن نطالع تلك السيرة ومثيلاتها- أن للنصر أسباباً إذا عملها المسلمون نصروا بإذن الله تعالى؟ وإذا تركوها كان الفصل بينهم وبين عدوهم كثرة المتاع، وقوة العتاد؟.

أسأل الله تعالى أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يرفع عن المسلمين الذلة والهوان إنه سميع مجيب، وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم...