المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إنَّ الأولاد هم زهرةُ الحياة الدنيا، وفي صلاحهم قرّة عين للوالدين، وإن من المؤسف خلو مساجدنا من أبناء المسلمين، فقَلَّ أن تجد بين المصلين مَن هم في ريعان الشباب! وهذا والله ينذر بِشَرٍّ مُسْتَطِيرٍ، وفسادٍ في التربية، وضعف لأمة الإسلام إذا شبّ هؤلاء المتخلِّفون عن الطَوْق؛ وإذا لم يُصلُّوا اليوم، فمتى إذاً سيُقيمون الصلاة مع جماعة المسلمين؟!.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: فإن الأولاد هم زهرةُ الحياة الدنيا، وفي صلاحهم قرّة عين للوالدين، وإن من المؤسف خلو مساجدنا من أبناء المسلمين، فقَلَّ أن تجد بين المصلين مَن هم في ريعان الشباب! وهذا والله ينذر بِشَرٍّ مُسْتَطِيرٍ، وفسادٍ في التربية، وضعف لأمة الإسلام إذا شبّ هؤلاء المتخلِّفون عن الطَوْق؛ وإذا لم يُصلُّوا اليوم، فمتى إذاً سيُقيمون الصلاة مع جماعة المسلمين؟!.
ولما كان الإثم الأكبر والمسؤولية العظمى على الوالدين، فإني أذكِّر نفسي وأرباب الأسر ممن حملوا الأمانة بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته" رواه البخاري.
والله عز وجل يقول في محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، وقوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132].
وفي حديثٍ صريحٍ واضحٍ مِن نبيِّ هذه الأمة للآباء والأمهات: "مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقُوا بينهم في المضاجع" صححه الألباني.
معاشر المسلمين: في هذا التوجيه النبوي الكريم من حسن التدرج واللطف بالصغير الشيء الكثير، فهو يُدعى إلى الصلاة وهو ابن سبع سنين، ولا يُضرب عليها إلا عند العاشرة من عمره، ويكون خلال فترة الثلاث سنوات هذه قد نودي إلى الصلاة وحُببت إليه أكثر من خمسة آلاف مرة!.
فمَن واظَب عليها خلال ثلاث سنوات بشكل متواصل هل يحتاج بعد خمسة آلاف صلاة أن يُضْرَب؟ قلَّ أن تجد من الآباء من طبق هذا الحديث واحتاج إلى الضرب بعد العاشرة؛ فإن مجموع الصلوات كبير، واعتياد الصغير للصلاة وللمسجد جرى في دمه، وأصبح جزءاً من جدوله، ومن أعظم أعماله!.
والكثير اليوم يضرب الابن، لكن على أمور تافهة لا ترقى إلى أهمية الصلاة، ومن تأمل حال صلاة الفجر ومَن يحضرها من الأولاد ليحزن على أمة الإسلام! وندر أن تجد في المساجد هؤلاء الفتية الذين كان لأمثالهم شأن في صدر الأمة! فأين الآباء وأين الأمهات من إيقاظ أبنائهم للصلاة وحرصهم على ذلك؟!.
ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: بتُّ عند خالتي ميمونة، فجاء رسول الله بعدما أمسى فقال: "أصلَّى الغلام؟"، قالوا: "نعم" رواه أبوداود وصححه الألباني.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يُعلّم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وكان السلف الصالح يلاحظون أبناءهم في الصلاة ويسألونهم عنها، عن مجاهد قال: سمعت رجلاً من أصحاب النبي قال: لا أعلمه إلا ممن شهد بدراً، قال لابنه: أأدركت الصلاة معنا؟ أأدركت التكبيرة الأولى؟ قال: لا، قال: لَمَا فاتك منها خير من مائة ناقة، كلها سود العين.
وذكر الذهبي في السير عن يعقوب عن أبيه، أن عبدالعزيز بن مروان بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدب بها، و كتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، وكان يلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مُرجلتي تسكن شعري. فقال: بلغ من تسكن شعرك أن تؤثره على الصلاة. وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبدالعزيز رسولاً إليه، فما كلمه حتى حلق شعره.
ومن أعظم ما يسديه الأب الموفق لابنه اصطحابه للصلاة معه، وجعله بجواره ليتعلم منه، وليحافظ عليه من كثرة اللغط والعبث.
أيها الآباء: لا يخرج من تحت أيديكم غداً من لا يُصلي فتأثمان بإخراجه إلى أمة الإسلام كافراً من أبوين مسلمين؛ وذلك بالتفريط والرحمة المنكوسة، فتخافان عليه من البرد ولا توقظانه لصلاة الفجر، وتخافان عليه من شدة الحر ولا يذهب ليصلي العصر! (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُون) [التوبة:81].
يقول ابن القيم رحمه الله: فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسنُنه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً. اهـ.
أيها الآباء: إن في الحرص على إقامة صلاة الأبناء في المسجد فوائد عظيمة، منها:
أولا: براءة ذممكم أمام الله عز وجل، والخروج من الإثم بعد تحبيبه للصلاة وأمره بها، قال ابن تيمية رحمه الله: ومَن كان عنده صغير مملوك، أو يتيم أو ولد فلم يأمره بالصلاة، فإنه يُعاقَب الكبير إذا لم يأمر الصغير، ويُعَزَّر الكبير على ذلك تعزيراً بليغاً؛ لأنه عصى الله ورسوله.
ثانيا: احتساب أجر تعويده على العبادة، قال: "مَن دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا؛ ومَن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" رواه مسلم.
ثالثا: استشعار أن الابن في حفظ الله عز وجل ورعايته طوال ذلك اليوم، قال: "مَنْ صَلَّى الصبح فهو في ذمة الله" رواه مسلم.
رابعا: خروج الابن إذا شب وكبر عن دائرة الكفار والمنافقين، كما قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" سنن الترمذي. وكما قال عليه الصلاة والسلام: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا" رواه البخاري.
خامسا: تنشئة الابن على الخير والصلاح ليكون لكما ذخراً بعد موتكما؛ فإن النبي اشترط الصلاح في الابن، كما في الحديث: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" صححه الألباني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) [إبراهيم:40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وإمتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ومن الأسباب المعينة على إقامة ابنك الصلاة:
أولا: أن تكون لهم أيها الأب قدوة صالحة في المحافظة على الصلاة والحرص عليها، فإذا بلغوا سبعاً وعقلوا شُرع أمرُهم بالصلاة والذهاب بهم إلى المسجد؛ فإن الصغير ينشأ على ما كان عوَّده أبوه.
ثانيا: تقديم أمر الآخرة على أمر الدنيا في كُلِّ شيءٍ، وتنشئة الصغار على ذلك، وغرسه في نفوسهم، فلا تكون الامتحانات الدراسية أهم من الصلاة، ولا تكون المذاكرة أهم من الذهاب للمسجد، وليس من الفخر أن يكون ابنك مسؤولاً كبيراً وهو من المنافقين الذين لا يشهدون الصلاة، أو من الكفار الذين لا يصلون، ويكفيك عزاً وفخراً أن يأكل من كسب يده ويشهد جماعة المسلمين. وإن جمع الأمرين فَبِها ونعمت.
ثالثا: الصبر والمثابرة، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه:132]، فالأمر فيه مشقة ونصب، وأبشِرْ! فإن الله عز وجل قال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
رابعا: توفير الأسباب المعينة على القيام، ومن ذلك عدم السهر، وجعل ساعة منبهة عند الأذان أو قبله. وليكونوا في مقدمة الصفوف.
سُئِل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله السؤال التالي في الجزء 12 من فتاواه: السؤال: بعض الأولاد يبكرون يوم الجمعة ويأتي أناس أكبر منهم ويقيمونَهم ويجلسون مكانَهم، ويحتجون بقوله: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى" رواه مسلم، فهل هذا جائز؟
الجواب: هذا يقوله بعض أهل العلم، ويرى أن الأولى بالصبيان أن يصفوا وراء الرجال، ولكن هذا القول فيه نظر، والأصح أنهم إذا تقدموا لا يجوز تأخيرهم، فإذا سبقوا إلى الصف الأول أو إِلى الصف الثاني فلا يقيمهم مَن جاء بعدهم؛ لأنهم سبقوا إلى حق لم يسبق إليه غيرهم، فلم يجز تأخيرهم لعموم الأحاديث في ذلك؛ لأن في تأخيرهم تنفيراً لهم من الصلاة، ومن المسابقة إليها، فلا يليق ذلك.
لكن، لو اجتمع الناس بأن جاءوا مجتمعين في سفر، أو لسبب، فإنه يصف الرجال أولاً، ثم الصبيان ثانياً، ثم النساء بعدهم إذا صادف ذلك وهم مجتمعون، أما أن يؤخذوا من الصفوف ويزالوا ويصف مكانهم الكبار الذين جاءوا بعدهم فلا يجوز ذلك لِمَا ذكرنا.
وأما قوله: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى"، فالمراد به التحريض على المسارعة إلى الصلاة من ذوي الأحلام والنهى، وأن يكونوا في مقدم الناس، وليس معناه تأخير مَن سبَقَهم من أجلهم؛ لأن ذلك مخالف للأدلة الشرعية التي ذكرنا.
خامسا: بث في أبنائك أحاديث الصلاة وحكم تاركها وعقوبته في الدنيا والآخرة، ورغبهم في الأجر العظيم لمن حافظ عليها، ولا تقل إنّهم صغار لا يعون، فهم يدركون ويحفظون ويحتاجون إلى ذلك لتقوية عزائمهم.
سادسا: اجعلْ لهم الحوافز والجوائز حتى يحافظوا على الصلاة، وأَذْكُرُ أنَّ أحد الآباء كان يجعل لأبنائه الصغار ريالاً كل يوم عن صلاة الفجر، وكانت الثمرة المبكرة أن كان أحد هؤلاء الصغار من كبار الأئمة المعروفين.
وأذكرُ أَيْضاً امرأة أرملة وتحتها يتيم صغير، فكانت تخرج به لصلاة الفجر كل يوم، وأكرمها الله عز وجل بِهذا الابن، فحفظ كتاب الله عز وجل، وهو أحد أئمة المساجد الآن، ومن أبر الناس بأمِّه.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعودوهم الخير، فإن الخير عادة. رواه الطبراني.
سابعا: الدعاء لهم في كل وقت، واجعلهم أحياناً يسمعون دعاءك لهم بالصلاح والهداية والتوفيق والسداد، ومن دعاء الأنبياء والصالحين: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) [إبراهيم:40].
ثامناً: اربطهم بصحبة طيبة ممن يحفظون القرآن، ويحافظون على الصلاة مع الجماعة، وشجع أولئك الصغار بالهدايا والحوافز، فهم أبناء المسلمين.
تاسعا: ادْعُ لهم عند إيقاظهم، واتلُ عليهم بعض الآيات والأحاديث: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) [لقمان:17]، ودعهم يسمعون الأجر العظيم على لسان نبيهم: "بشِّر المشَّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" رواه أبو داود.
عاشراً: لِتَرَ منك والدتُهم أنك حريص على أمر صلاتِهم وإيقاظهم فإن ذلك يعينها على الاستمرار والحرص والتأكيد عليهم، واشكر لها جهودها، وشجِّعها على ذلك وهم يسمعون.
حادي عشر: كما أنك أيها الأب إذا أردت شراء منْزل تفكر في قرب الخدمات من سكنك، فكر قبل ذلك بالمسجد ومدى قربه إلى منْزلك؛ لأن في ذلك إعانة على الطاعة، وتيسيراً لأمر الصلاة، خاصة على الصغار، مع مظنة حفظهم ومتابعتهم إذا كانت المسافة قصيرة.
ثاني عشر: استشعر أن ابنك الذي تحب قد يكون حطباً لجهنم إذا لم يُصلِّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) [التحريم:6].
ثالث عشر: ليكن بينك وبين إمام المسجد تعاون في تشجيع أطفالك من قِبَلهِ وتقديم الجوائز لهم لمحافظتِهم على الصلاة بما فيها صلاة الفجر، ولا يمنع أن يتحدث الإمام حاثاً الآباء على إحضار أبنائهم للصلاة، ثم يشكر الآباء الذين يحضرون أبناءهم، ويسمي الصغار بأسمائهم.
أيها الأب: يقول الله عز وجل: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه:132]، وأبْشِرْ وأَمِّلْ فأنت في خير طريق: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
أصْلَحَ الله أزواجنا وذرياتنا، وجعلهم قرة عين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.