البحث

عبارات مقترحة:

السلام

كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...

المهيمن

كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...

الوكيل

كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...

بيت المقدس يشتكي

العربية

المؤلف أحمد بن عبدالله بن أحمد الحزيمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان

اقتباس

إنَّ اعْتِدَاءَاتِ اليهودِ عَلَى المَسجِدِ الأَقْصَى وعَلَى أَهلِنَا هناكَ، وإغْلَاقَ أَبْوابِهِ عن تَأْدِيَةِ صَلَاةِ الجُمعةِ في المَسجِدِ الأَقْصَى قَبْلَ أسبوعٍ، سَابِقَةٌ لمْ تَحصلْ منذُ الاحْتِلَالِ الصُّهيونيِّ للقُدْسِ؛ وهذا يَتَطَلَّبُ مِن المسلِمِينَ في العَالَمِ الإسلَاميِّ اجْتِمَاعَ كَلِمَتِهِمْ دِفَاعًا بِكُلِّ مَا يستَطِيعُونَ عن مَسْرَى نَبَيِّنَا -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، ودِفَاعًا عن أَهلِنَا في فلسطينَ.

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي في السَّماءِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، واصْطَفَى مِن البِقَاعِ الحَرَمِينِ الشَّرِيفَينِ والبيتَ المُقَدَّسَ، الحمدُ للهِ ولَا يَبلغُ حَمْدَه حامدٌ، وأَشكرُه عَلَى نِعَمِه التي لَا يَعدُّها عَادٌّ ولَا يُحيطُ بها رَاصِدٌ، اللهِ الذي جَعَلَ الأيَّامَ دُولًا، والأُمَمَ بعضَها لبعضٍ آياتٍ ومَثَلَا.

وأَشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شَرِيكَ لَه، وأَشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورَسُولُه، صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ، وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ والتَّابعينَ، ومَن تَبِعَهم بإحسَانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

أمَّا بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ -تعالى- وراقِبُوه، وأَطِيعوا أَمْرَهُ ولَا تَعْصُوه، ومَا اسْتُجْلِبَتِ الخِيراتُ إلَّا بطَاعَتِهِ، ومَا مُحِقَتِ الأَحْوَالُ إلَّا بمعصِيَتِهِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

عِبَادَ اللهِ: القُدْسُ مَدِينَةُ السَّلَامِ، ومَسْرَى نَبيِّنَا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، ومُجْتَمَعُ المَلَائِكَةِ، ومَهْدُ عَيْسَى، ومُلْكُ سليمانَ بنِ دَاودَ، ومُهَاجَرُ إبراهيمَ الخَلِيلِ -عليهم أفَضَلُ الصَّلاةِ وأتَمُّ السَّلَام-، ومَأْوَى الرِّسَالَاتِ والدِّيَانَاتِ.

فقدْ ارْتَبَطَتْ مَكَانَةُ المسجدِ الأَقْصَى في نُفُوسِ المسلمينَ بحَادِثَةِ الإسْرَاءِ والمِعْرَاجِ ارْتِبَاطًا وَثِيْقًا، تلكَ الآيةُ والمُعْجِزَةُ العَقَائِدِيَّةُ التي اخْتُصَّ بِها رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمِ-،وخُلِّدَتْ ذِكْرَاها في الكتابِ العزِيزِ بِكَلِمَاتٍ مُجَلْجِلَةٍ في آذانِ وقُلُوبِ المؤمنينَ إلى يومِ السَّاعةِ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1].

وكانتْ صَلَاةُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- بالأنبياءِ في بيتِ المَقْدِسِ لَيْلَةَ الإسراءِ إعلانًا بأنَّ الإسلامَ هو كلمةُ اللهِ الأخيرةِ إلى البَشَرِ، على يَدِ سَيِّدِ البَشَرِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، وأنَّ آخرَ صِبْغَةٍ لِـ «المسجدِ الأَقْصَى» هي الصِّبْغَةُ الإسلاميَّةُ؛ فالتَصَقَ نَسَبُ المسجدِ الأَقْصَى بهذهِ الأُمَّةِ الوَارِثَةِ.

نعمْ، إنَّ القُدْسَ والأَقْصَى –تاريخًا وأرضًا ومُقدَّسَاتٍ ومَعَالِمَ- إرْثُ المسلمين، والمسلمينَ فقطْ، إرْثٌ واجبُ القَبُولِ، مُتَحَتِّمُ الرِّعايةِ، لَازمُ الصَّونِ، إنَّه ليسَ خيارًا يترَدَّدُ فيهِ المُتَرَدِّدُونَ، أو شأنًا يَتَحَيَّرُ فيه المُتَحِيِّرُونَ.

هذهِ المَدِينَةُ المُقَدَّسَةُ التي وجَّهَ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- جُلَّ اهتِمَامِهِ -بعدَ أنْ حرَّرَ الكَعْبَةَ مِن الأَوْثَانِ، واستَقَرَّتْ له دَولَةُ الإسلامِ- وَجَّهَ جُلَّ هَمِّهِ تِجَاهَ بيتِ المَقْدِسِ، فَأَرْسَلَ جَيْشًا بقِيادَةِ زيدِ بنِ حَارِثَةَ وابنِ عَمِّهِ جَعْفَر الطَّيَارِ وعبدِ اللهِ بنِ رَوَاحَةَ، وَجَّهَهُم إلى مُؤْتَةَ، وهي مِن أرضِ فلسطينَ، وسَالَتْ دِمَاؤهمْ عَلَى ثَرَاهَا، ولمْ يَمُتِ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- حتى عَقَدَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ اللِّوَاءَ لِأُسَامَةَ بنِ زيدٍ يَدْفَعُهُ لِمُلَاقَاةِ الرُّوْمِ، هذا اللِّواءُ الذي أَنْفَذَهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ- رضيَ اللهُ عنهُ -بعدَ وفاتِ النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مُبَاشَرَةً.

وَوَجَّهَ الصِّدِّيقُ -رضيَ اللهُ عنهُ- الجيوشَ لِفَتْحِ بلادِ الشَّامِ، وفَتَحَ عمرُو بنُ العَاصِ أكثرَ مُدُنِ فلسطينَ، وكانتْ الجيوشُ التي وَقَفَتْ عَلَى أبوابِ فلسطينَ تحتَ قِيادةِ أَمِينِ هذهِ الأُمَّةِ أبي عبيدةَ عامرِ بنِ الجَرَّاحِ، ورَفَضَ القَسَاوِسَةُ بِبَيْتِ المَقْدِسِ أنْ يُسَلِّمُوا المِفْتَاحَ إلَّا لِخَلِيْفَةِ المسلِمِينَ، فأَرْسَلَ أبو عبيدةَ إلى أميرِ المؤمنين عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ بأنْ يأتيَ لفَتْحِ بيتِ المَقْدِسِ، فأَتَى عَلَى دَابَّتِهِ، وَتَمَّ الفَتْحُ المُبِينُ.

وظَلَّتْ القُدْسُ في أيدي المسلِمِينَ عَزِيزَةً شَامِخَةً مُصَانةً حتى احْتَلَّهَا الصَّلِيبِيُّونَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِن الهِجْرَةِ، وكانَ ذلكَ في عَهْدِ الفَاطِمِيِّينَ غُلَاةِ الشِّيعَةِ الزَّنَادِقَةِ بمِصْرَ، الذين سَلَّمَوا القُدْسَ للصَّلِيبِيِّينَ دُوْنَ أَدْنَى مُدَافعةٍ، فَتَكَالَبَتِ الجُيوشُ الصَّلِيبِيَّةُ عَلَى احْتِلَالِ بيتِ المَقْدِسِ، إلى أنْ دَخَلُوها بعدَ حِصَارٍ دَامَ أربعينَ يَوْمًا، ولَيْتَهُم إذْ دَخَلُوها أَوْفَوا بِعُهُودِ الأَمَانِ التي وَعَدُوا بِهَا المُسلِمِينَ، فَلَمَّا دَخَلُوها سَارَ قائدُهم الصَّلِيبيُّ في شَوَارِعِ القُدْسِ ودِماءُ المُسلِمِينَ إلى رُكْبَتَيْهِ، وقَتَلُوا آنذاكَ سَبعِينَ أَلْفَ مُسْلِمٍ، وجَعَلُوا الصَّلِيبَ عَلَى قُبَّةِ الصَّخْرَةِ، وجَعَلُوا مِن المِحْرَابِ مَرْبَطًا لِخُيُولِهم وخَنَازِيرِهِم، وَبَقِيَ الصَّلِيبِيُّونَ إحْدَى وتِسْعِينَ سَنَةً في القُدْسِ، وفَعَلُوا بالمُسلِمِينَ الأَفَاعِيلَ.

ثُمَّ بَدَأَ المُسلِمُونَ يَسْتَيقِظُونَ مِن سَباتِهم في عَهْدِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيِّ، واستَرَدُّوا مَدِينَةَ الرُّهَا، وهي أَوَّلُ مَدِينَةٍ استَرَدُّوهَا مِن الصَّلِيبِيِّينَ، وفَرِحَ المُسلِمُونَ بذلكَ فَرَحًا عَظِيمًا، حتَّى سَمَّوْهَا فَتْحَ الفُتُوحِ، ثُمَّ مَاتَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيُّ قَبْلَ أنْ يُكْمِلَ تَحْرِيرَ بيتِ المَقْدِسِ، فَتَوَلَّى الأَمْرَ مِن بَعْدِهِ وَلَدُهُ السُّلْطَانُ العَظِيمُ نُوْرُ الدِّينِ مُحْمُودُ زَنْكِيُّ الزَّاهِدُ العَابِدُ الذي كانتْ لَهُ مَوَاقِفُ عَظِيمَةٌ ضِدَّ الصَّلِيبِيِّينَ، والذي أَعَدَّ مِنْبَرًا لِيَدْخُلَ بِهِ بيتَ المَقْدِسِ يومَ تَحرِيرِهِ لِيَخْطُبَ عليهِ؛ إلَّا أَنَّهُ مَاتَ -رحمه اللهُ- قَبْلَ أنْ يُكَحِّلَ نَاظِرَيْهِ بِفَتْحِ بيتِ المَقْدِسِ.

فأَكْمَلَ المَسِيرَةَ بَعْدَهُ البَطَلُ الكَبيرُ صَلَاحُ الدِّينِ الأَيُّوبيُّ، حيثُ تَوَجَّهَ صَلَاحُ الدِّينِ لِفَتْحِ بيتِ المَقْدِسِ، وَالْتَقَى بالصَّلِيبِيِّينَ في مَعرَكَةِ حِطِّيْنَ العَظِيمَةِ في سَنَة ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وكانَ عددُ الصَّلِيبِيِّينَ سِتِّينَ أَلْفًا، ومعهم مُلُوكُ أورُوبَّا، فانْتَصَرَ عليهم صَلَاحُ الدِّينِ الأَيُّوبيُّ في هذهِ المعرَكَةِ، وكانتْ معرَكَةً عَظِيمَةً لمْ يُسْمَعْ بِهَا إلَّا في زَمَنِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ، فَمَنْ رَأَى الأَسْرَى قالَ: ليسَ هناكَ قَتِيلٌ، وَمَنْ رَأَى القَتْلَى قالَ: ليسَ هناكَ أَسِيرٌ، فقدْ أَسَرَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وقَتَلَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، ووَقَعَ كُلُّ مُلُوكِ أورُوبَّا في الأَسْرِ.

وَسَارَ صلاحُ الدِّينِ الأَيُّوبيُّ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فحَاَصرَ بيتَ المَقْدِسِ مِن كُلِّ الجَوَانِبِ، حتَّى عَرَضَ وَالِي القُدْسِ مِن قِبَلِ الصَّلِيبِيِّينَ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ أنْ يَتَنَازَلَ لَهُ عنِ القُدْسِ صُلْحًا، وبعدَ حِوَارَاتٍ ومَشُورَاتِ، وافقَ صلاحُ الدِّينِ على الصلح.

ثُمَّ دَخَلَ المسلمون بيتَ المقدسِ، فطُهِّرَ المكانُ، وأُنْزِلَ الصَّلِيبُ مِن فَوقِ قُبَّةِ الصَّخْرَةِ، وَعَلَا الأذانُ، وَخَنَسَ صَوتُ القِسِّيسِينَ والرُّهْبَان.

وظَّلَ الأَقْصَى تَحتَ أَيدِي المسلِمِين يَخرُجُ ويَعُودُ إلى أنْ نَشَبَتْ حَرْبُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وتِسْعِمِائَةٍ وألْفٍ مِن الميلادِ، ثُمَّ كانَ تَقسِيمُ فلسطينَ بِقَرَارٍ مِن الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ، وكانَ تَحتَ الانْتِدَابِ البرِيطَانيِّ ووَعْدِ بَلْفُوْر، واجتَمَعَ الخَوَنَةُ كلُّهم عَلَى بِلَادِ المُسلِمِين، وَسَقَطَتِ القُدْسُ، ثُمَّ أَتَتْ بَعْدَ ذلكَ حربُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وتِسْعِمِائَةٍ وألْفٍ مِن الميلادِ لِتُكْمِلَ عَلَى البَقِيَّةِ البَاقِيَةِ.

عِبادَ اللهِ: بعدَ هذهِ الوقائعِ المُتَجَلِّيَةِ في شمسِ الحقائقِ، يَزعُمُ يَهُود بِأَحَقِّيَتِهِمْ ببيتِ المَقْدِسِ بِوجُودِ مَبْنَى «هَيْكَلِ سُليمانَ»، وليسَ المقصودُ بهِ هَيْكَلًا عَظمِيًّا لِإنسَانٍ مَيِّتٍ, وإنَّمَا بَقَايَا مَبِانٍ وجُدرَانٍ يَزْعُمُونَ أَنَّها القَصْرُ الذي بَنَاهُ نَبِيُّ اللهِ سُلَيمَانَ -عليهِ وعَلَى نَبيِّنَا أَفضَلُ صَلَاةٍ وسَلَامٍ-, وهو مَعْبَدُ اليهودِ الذي حَاكُوا حَوْلَهُ الأَسَاطِيرَ التي لَا يَسْتَسِيغُها فَمٌ، وَلَا يَقْبَلُهَا عَقْلٌ.

ولِيُؤصِّلُوا في عَقِيدةِ شُعوبِهم أنَّ مكانَ الهيكلِ هو أرضُ المَسجِدِ الأَقْصَى, وأنَّ المُسلِمِين بَنَوا المَسجِدَ الأَقْصَى عَلَى أَنْقَاضِه, فَيَا لَهَا مِن أُكْذُوبَةٍ إِبْلِيْسِيَّةٍ مُضْحِكَةٍ!.

ويَعتَقِدُ اليهودُ -كذلكَ- أنَّ بِنَاءَ الهَيكَلِ مِن جَدِيدٍ سَيُخْرِجُ مَلِكًا مِن نَسْلِ دَاوودَ -عليه السلام-، يَحكُمُونَ بِهِ العَالَمَ، ويَقتُلُونَ بِهِ غيرَ اليهودِ.

عِبادَ اللهِ: منذُ أَكثَرَ مِن ثَلَاثينَ سَنَةً والتَّنْقِيبَاتُ والحَفْرِيَّاتُ جَارِيَةٌ تَحتَ المَسجِدِ الأَقْصَى وحَوْلَه؛ ظَنًّا مِنهمْ أَنَّهمْ سَيَعْثُرُونَ عَلَى الهيكَلِ المَزْعُومِ، مُتَّخِذِينَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِهَدْمِ الأَقْصَى.

وقدْ أَثبَتَ عُلَمَاءُ آثَارٍ مِن اليهودِ أَنفُسِهِم ومِن أورُوبَّا وأَمريكَا الذين شَاركُوا في الحَفْرِيَّاتِ والأَنْفَاقِ تَحتَ الحَرَمِ القُدْسِيِّ، أَثْبَتُوا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلهَيكَلِ المَزْعُومِ هذا. فقدْ أَعْلَنَ عَالِمُ اليهودِ «فَانِشْتَايِن» مِن جَامِعَةِ تَلِّ أَبِيْب: أنَّ الهيكلَ قصَّةٌ خُرَافِيَّةٌ. وقالَ عَالِمُ آثَارٍ يهوديٌّ آخَرُ: إنَّهُ بعدَ سبعينَ عامًا مِن الحَفْرِيَّاتِ المُكَثَّفَةِ في فلسطينَ تَوَصَّلَ علماءُ الآثَارِ إلى نَتِيجَةٍ مُخِيْفَةٍ هي: لمْ يكنْ هناكَ أيُّ شيءٍ عَلَى الإطلَاقِ يُشِيرُ لِلهيكَلِ!. اهـ. وهذا حَقٌّ، فَمَا كانَ لِنَبيِّ اللهِ سليمانَ -عليه السلام- أنْ يَبْنِيَ بيتًا يُشْرَكُ فيهِ مَعَ اللهِ لِأَمثَالِ هؤلاءِ اليهودِ الكَفَرةِ، وقد قالَ اللهُ في شَأنِهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ) [التوبة:30].

وأَمَّا السَّاسَةُ والعَلمَانِيُّونَ مِن بَنِي صُهْيُونَ فَيَرونَ أنَّ هذهِ العَقَائِدَ الدِّينِيَّةَ التي تُحَرِّكُ صَهَايِنَتهمْ فُرْصَةٌ سَانِحَةٌ لِإقناعِ شُعُوبِهمْ وَتَحْرِيكِهمِ نَحْوَ احْتِلَالِ مَنطِقةِ الشَّرْقِ الإسلَامِيِّ، وَبَسْطِ نُفُوذِهمْ فيها؛ لِتَحقِيقِ مَكَاسِبَ سياسيَّةٍ واقتصاديَّةٍ بهذهِ المُعتَقَدَاتِ.

أيُّها المؤمنونَ: لَعَلَّ أَخطَرَ مَا عَملَهُ اليهودُ والنَّصارَى مِن حِيْلَةٍ هي أَنَّهمْ خِلَالَ العُقُودِ الماضِيَةِ -عَبْرَ الضَّخِّ الإعلَامِيِّ المُتَكَرِّرِ، والمُرَاوَغَاتِ السِّيَاسِيَّةِ المُتَعَدِّدَةِ- استَطَاعُوا تَحْوِيلَ قَضِيَّةِ احتِلَالِ بيتِ المَقْدِسِ مِن كَوْنِهَا قَضِيَّةً إسلَامِيَّةً عَالَمِيَّةً إلى حَصْرِهَا في العُنْصِرِ العَرَبيِّ؛ لِئَلَّا تَأخُذَ بُعْدًا دِينِيًّا، ولِتَحْيِيدِ مِليارِ مُسْلِمٍ مِن غيرِ العَرَبِ عنها، ثُمَّ حَوَّلُوهَا إلى قَضِيَّةٍ إقْلِيمِيَّةٍ شَرْقَ أَوْسَطِيَّةٍ تَهُمُّ دُوَلَ الجوَارِ المُحِيطَةِ بالأرضِ المُحتَلَّةِ، ثُمَّ ضَيَّقُوا هذهِ الدَّائِرَةَ أَكثَرَ لِتُصبِحَ شَأْنًا فلسطِينِيًّا دَاخِلِيًّا، يكونُ تَعَامُلُ اليَهودِ فيه معَ الفلسطِينِيِّينَ مُبَاشَرَةً، ولَا علَاقَةَ لِدُوَلِ الجوَارِ بِهِ إلَّا فيما يَخْدمُ المَصَالِحَ الصُّهيونِيَّةَ!.

نَعَمْ، إنَّهم يُحَاوِلُونَ -بشَتَّى الطُّرقِ- تَحوِيلَ قَضِيَّةِ القُدْسِ مِن كَوْنِهَا قَضِيَّةً دِينيَّةً شَرعيَّةً لِجَعْلِهَا قَضِيَّةً وَطَنِيَّةً كما فَعَلُوا مِن قَبْل، وأكبرُ شيءٍ يُؤَرِّقُهمْ هو بقاءُ الوَهَجِ الدِّينيِّ في هذه القَضِيَّةِ التي ثَبَتَ فيها فَشَلُ المَشَارِيعِ العَلمَانِيَّةِ القَوْمِيَّةِ والوَطَنِيَّةِ، ولمْ يَنْجَحْ إلَّا الشِّعَارُ الدِّينيُّ الإسلاميُّ المعتدل الذي يُرعِبُ اليهودَ وتَرْتَعِدُ فرائِصُهم بِسَبَبِهِ.

عِبادَ اللهِ: إنَّ إمَاتَةَ القَضِيَّةِ الفلسطينيَّةِ في قلوبِ المسلِمِين هو تَمْهِيدٌ لِهَدْمِ المَسجِدِ الأَقْصَى، وهو ما يَسْعَى إليهِ الصَّهَاينَةُ وأَعوانُهم المُنَافِقُونَ، وإنَّ إحياءَ قَضِيَّةِ الأَقْصَى في قلوبِ المسلِمِين سيكونُ سَبَبًا في فَشَلِ اليهودِ والمُنَافِقِين عن تَحقِيقِ مُرَادِهم، فَأَحْيُوا -عِبادَ اللهِ- قَضِيَّةَ القُدْسِ وأَرْضِها المبَارَكَةِ في قلوبِكم وقلوبِ أولَادِكم، وفي بيوتِكُم ومَجَالِسِكُم؛ لِيُثْمِرَ ذلكَ دَعْمًا وتَأييدًا وتَثْبِيتًا لِلمُرَابِطِينَ في المَسجِدِ الأَقْصَى وأَكْنَافِهِ.

اللَّهمَّ احفظْ المَسجِدَ الأَقْصَى مِن أيدي الغَاصِبِينَ، واجْعَلْه شَامِخًا عَزِيزًا إلى يومِ الدِّينِ، برحمَتِكَ يا أرحمَ الراحمينِ...

الخُطبةُ الثَّانيةُ:

الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ، الرحمنِ الرحيم، مالكِ يومِ الدِّينِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شَرِيكَ لَه، المَلِكُ الحَقُّ المُبِينُ، وأَشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورَسُولُه، صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ، وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ والتَّابعينَ، ومَن تَبِعَهم بإحسَانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

معاشرَ المسلِمِين :إنَّ اعْتِدَاءَاتِ اليهودِ عَلَى المَسجِدِ الأَقْصَى وعَلَى أَهلِنَا هناكَ، وإغْلَاقَ أَبْوابِهِ عن تَأْدِيَةِ صَلَاةِ الجُمعةِ في المَسجِدِ الأَقْصَى قَبْلَ أسبوعٍ، سَابِقَةٌ لمْ تَحصلْ منذُ الاحْتِلَالِ الصُّهيونيِّ للقُدْسِ؛ وهذا يَتَطَلَّبُ مِن المسلِمِينَ في العَالَمِ الإسلَاميِّ اجْتِمَاعَ كَلِمَتِهِمْ دِفَاعًا بِكُلِّ مَا يستَطِيعُونَ عن مَسْرَى نَبَيِّنَا -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، ودِفَاعًا عن أَهلِنَا في فلسطينَ.

قالَ سماحةُ مُفتِي عامِ المَمْلَكَةِ العَرَبيَّةِ السُّعوديَّةِ -حَفِظَه اللهُ-: هذه الجَرَائِمُ المُتَكَرِّرَةُ تُوجِبُ عَلَى المُسلَمِينَ تَنْسِيقَ مَوَاقِفِهِمْ؛ لِمَنْعِ قُوَّةِ الاحتِلَالِ مِن العُدْوَانِ عَلَى المَسجِدِ الأَقْصَى وإنهاءِ الاحتِلَالِ الظَّالِمِ, ومَا تَقُومُ بِهِ قُوَّاتُ الاحتِلَالِ مِن إغْلَاقٍ للمَسجِدِ الأَقْصَى والتَّعَدِّي عَلَى المُصَلِّينَ يُعَدُّ انتِهَاكًا لِحُرْمَةِ المَسجِدِ الأَقْصَى واستِفْزَازًا لِمَشَاعِرِ المُسلِمِينَ. اهـ.

عِبادَ اللهِ: فَلْتَعْلَمُوا أنَّ الطَّرِيقَ إلى فلسطينَ لَا يَمُرُّ عَبْرَ إشَاعَةِ الفَوْضَى في بِلَادِ المسلِمِينَ، ولَا بِزَعْزَعَةِ الأُمَّةِ، أوِ التَّخْرِيبِ والتَّفْجِيرِ والاعتِدَاءِ عَلَى مَصَالِحِ الأُمَّةِ المُسلِمَةِ؛ بل الواجِبُ المُتَحَتَّمُ هو اليَقَظَةُ والاجتِمَاعُ، والعملُ الجَادُّ، والائتِلَافُ وتَرْكُ الخِلَافِ؛ فَلَا يَلِيقُ بِأُمَّةِ الإسلَامِ أنْ تَغْرقَ في خِلَافَاتٍ جَانِبِيَّةٍ، ونَظَرَاتٍ إقلِيمِيَّةٍ، أو أَنَانِيَّةٍ؛ إنَّما يَجِبُ أنْ تُقَدِّمَ مَصَالِحَ الأُمَّةِ الكُبرَى عَلَى كُلِّ مَصْلَحَةٍ فَرْعِيَّةٍ، وأنْ تَسمَعَ نِدَاءَاتِ الحَقِّ والعَدْلِ، ومَبَادَرَاتِ الحَزْمِ والعَقْلِ؛ بأنْ تَطْرَحَ الخِلَافَاتِ جانِبًا، وتَتَوَحَّدَ في وَجْهِ الأَزَمَاتِ، ولْيَتَجَسَّد فيها معنى قَولِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران:103].

نسألُ اللهَ -تعالى- بِمَنِّهِ وكَرَمِهِ أنْ يحفظَ المسجِدَ الأَقْصَى مِن مَكْرِ اليهودِ، وأنْ يَرُدَّهم عَلَى أَعقَابِهمْ خِاسِرِينَ، وأنْ يخرجَهم مِن الأرضِ المُبَارَكَةِ أَذِلَّةً صَاغِرِينَ، وأنْ يَنصُرَ إخوانَنَا عليهم؛ إنَّه سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

صلوا...