الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الهدي والأضاحي والعقيقة - |
الأضَاحي سنَّةُ إبراهيم -عليه السلام- وسنّة نبيِّكم -صلى الله عليه وسلم-، عِبادةٌ قديمة تعبَّدَ الله بها الأمَمَ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)، أي: لكلِّ أمّةٍ من الأمم جعلنا منسكًا، شريعةً في الذبح، إذًا فالأضحيّة عبادةٌ لله وقُربة يتقرَّب بها المسلم إلى الله، وقد دلَّت نصوصُ القرآن وسنّةُ محمّد صلى الله عليه وسلم على مشروعِيّتِها وسنّيتِها ..
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله: إنَّ مِن حكمة الله -جلّ وعلا- تفضيلَ بعض الأيام على بعض، وتفضيلَ بعض الشهور على بعض، وبعض الأماكنِ على بعض، حكمةٌ من الله، وذاك لتوفيرِ أسباب نيلِ البركات والخيرات، وسبحان الحكيمِ العليم.
أيّها المسلم: نحن في أيام مباركة وأيّامٍ فاضلة، أيّام عشر ذي الحجة، تلكم الأيّام التي أقسم الله بها في كتابِه العزيز: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:2]، هذه الأيّامُ العمَلُ الصالح فيها فضلٌ عن سائر الأيّام، هذه الأيام مشتمِلة على مهمّات الإسلام، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيهنّ أحبُّ إلى الله من هذهِ الأيّام العشر"، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجل خرجَ بنفسه ومالِه فلَم من ذلك يعُد بشيء".
فتأمَّل -أخي- قولَه -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أيّام العملُ الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله"، فدلَّ على أن الأعمالَ الصالحة في هذه الأيّامِ لها مزيدُ فضل وكرَمٍ وجود. الأعمال الصالحةُ تشمل كلَّ عمل صالح يحبّه الله، من صلاة، تلاوةِ قرآن، صدقةٍ، بذل للمعروف، صيامها، ذكر الله -جلّ وعلا- في هذه الأيّام؛ ولذا قال الله -جل وعلا-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) [الحج:28]، فشُرِع للمسلمِ في هذه الأيّام أن يكثرَ مِن ذكرِ الله والثناءِ عليه، كان أبو هريرةَ وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يخرجان فيكبِّران فيكبِّر الناس بتكبيرهما.
أيّها المسلم: اجتَمَعت في هذه الأيامِ أمّهات الطاعة: الصلاةُ، الصيام، الحجّ، الصدقة. في هذه العشرِ أيّامٌ لها شأنها: يوم عرفة ويومُ النحر، فيوم عرفة من أفضلِ أيام الله، يقول فيه -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفَة، وخير ما قلتُ أنا والنبيّون قبلي يوم عرفة: لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".
سُنَّ للمسلم غيرِ الحاج أن يصومَ هذا اليوم، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صيامُ يومِ عرفة أحتسِبُ على الله أن يكفّر السنة الماضيةَ والسنّة الآتية"، أمّا الحاجّ فلا يشرَع له صيام ذلك اليوم؛ لأنه في ذكرٍ ودعاء، ففطرُه يعينُه على دعائِه وذكره؛ ولهذا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وقف يومَ عرفة مفطرًا، شكّ النّاس في فِطرِه أو صومِه، فبعثَت أمّ الفضل له قدحًا من لبن، فشرِبه والناسُ ينظرون.
أيّها المسلم: هذه أيّامٌ مباركة، فتقرَّب إلى الله بما يرضيه من الأقوال والأعمال، وتحرَّ الدعاءَ في هذه الأوقات المباركةِ، فعسى أن توفَّقَ لقبولِ دعائك.
أيّها المسلم: اعلَم أنّ الأضَاحي سنَّةُ إبراهيم -عليه السلام- وسنّة نبيِّكم -صلى الله عليه وسلم-، عِبادةٌ قديمة تعبَّدَ الله بها الأمَمَ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) [الحج:34]، أي: لكلِّ أمّةٍ من الأمم جعلنا منسكًا، شريعةً في الذبح، إذًا فالأضحيّة عبادةٌ لله وقُربة يتقرَّب بها المسلم إلى الله، وقد دلَّت نصوصُ القرآن وسنّةُ محمّد -صلى الله عليه وسلم- على مشروعِيّتِها وسنّيتِها، قال الله -جلّ وعلا-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162، 163]، والمرادُ بالنّسيكَةِ الذّبيحة، وقال -جلّ وعلا- لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2]، فكان نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- كثيرَ الصّلاة كثيرَ النّحر.
ونبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- حثَّ على الأضحيّة بقوله، وعملَها وأقرَّ عليها، ففي تفضيلها يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما عمِل ابنُ آدمَ يومَ النّحر عملاً أحبّ إلى الله من إراقةِ دَم، وإنه ليأتي يومَ القيامةِ بقُرونها وأظلافِها وأشعارها، وإنّ الدمَ ليقع من الله بمكانٍ قبلَ أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا"، وقال له زيد بن أرقم: يا رسول الله: ما هذه الأضاحي؟! قال: "سنّةُ أبيكم إبراهيم"، قال: ما لنا منها؟! قال: "بكلِّ صوفة حسنة".
أيّها المسلم: إنها عبادةٌ لله وطاعَة لله، إنها إراقةُ الدمِ طاعةً وتقرّبًا إلى الله، مراغَمةً لعُبّاد الأوثان الذين يريقونَ الدّماء للقبور والغائبين والأمواتِ. فهذه طاعةٌ لله، قُربة تتقرَّب بها إلى الله.
نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- رفَع شأنَ هذه الأضحيةِ وعظَّمها؛ لأن تعظيمَها من تعظيمِ الله ومِن إقامة شعائر الله، فكان نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- يحافِظ عليها مدَّةَ بقائِه في المدينة منذ هاجَر إلى أن لقِيَ ربَّه، يقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة عشرًا يضحِّي كلَّ عامٍ.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يعلِن هذه الأضحيةَ ويرفَع مِن شأنها، فأخبرنا أنس بنُ مالك -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلّى يومَ النّحر دعا بكَبشين أقرنين أملَحين، قال أنس: فرأيتُه واضعًا قدَمَه على صِفاحِهما، يسمِّي ويكبِّر، ثم ذبحَهما بيدِه -صلى الله عليه وسلم-. وأخبر جابر بنُ عبد الله بذلك، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان ينحَر ويذبَح بالمصلِّى؛ لأنّه يريد إعلانَ هذه السنةِ وإظهارَها والرفعَ من شأنها، ولذا قال علماءُ المسلمين: إنّ الأضحية سنّة، وإنَّ ذبحَها أفضلُ من التصدُّق بقيمتها، قالوا: لأنّه -صلى الله عليه وسلم- حافظَ عليها ولازَمَها ولم يَدَعها أبدًا، بل لمّا دفّتِ الدافّةُ بالمدينَةِ ونزل بها الفُقَراء نهاهم أن يدَّخِروا فوقَ ثلاثٍ؛ لأجل إطعامِ الفقراء، ولم يأمُرهم أن يتصدَّقوا بقيمَتِها. وقالوا أيضًا: إنّ هذا فعلُ النبيّ واستمرارُه عليها، وخُلَفاؤه بعده واظَبوا على هذه السنّةِ ولازموها، وإراقةُ الدمِ في وقتها أفضلُ من الصدقةِ، ألا ترَى هديَ التمتّعِ والقِران لو أراد حاجٌّ متمتِّع أن يتصدَّق بقيمَةِ الهديِ لقيل: إنه أخلَّ بواجبٍ من واجباتِ الحجّ!!
إذًا فهي عبادةٌ وطاعة لله -جلّ وعلا- وقربة يتقرَّب بها العبد إلى الله. إنّ الله -جل وعلا- يقول لنا: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [الحج:37]، فالذّبحُ عبادَةٌ لله، ولذا إذا ذبحَ لغير الله كان ذلك شِركًا أكبَر كحالِ عُبّادِ الأوثان والقبور، فالذّبحُ عِبادةٌ لله وقربَةٌ يتقرَّب بها العَبد إلى الله في يومِ النّحرِ وأيّام التشريقِ، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أيّامُ التشريقِ أيّام أكلٍ وشرب وذكرٍ لله".
أيّها المسلم: إنّ شأنَ الأضحية يسيرٌ لمن يسَّره الله عليه، وجمهورُ المسلمين يرَونها سنّةً مؤكّدة، بل بعضهم ذهب إلى وجوبها، لكن الجمهور على أنها سنّةٌ مؤكَّدة، ينبغي للقادر عليها أن لا يدَعَها، وأمرُها ميسَّر، ففِي عهدِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الرّجلُ يذبَح الشاةَ الواحدة عنه وعن أهل بيتِه كما فعل ذلك النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقد ضحَّى بكبشَين قال في أحدِهما: "اللهمَّ هذا عن محمّد وآل محمّد، وقال في الآخر: اللهمّ هذا عمّن لم يضحِّ من أمّتي"، فصلوات الله وسلامه عليه.
أيّها المسلم: في عهدِ النبيِّ -كما سبَقَ- الشاةُ الواحدة عن الرجلِ وأهلِ بيتِه، هذه الأضحيةُ التي هي تبرّع من الشّخص، يقول أبو أيّوب -رضي الله عنه- وقد سُئل عن الأضاحي في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان الرجل منّا يضحِّي بالشاة الواحدة عنه وعن أهلِ بيتِه، فيأكلُون ويطعِمون، ثم تباهى الناس فصارُوا كما ترى.
إذًا -فيا أيّها المسلم- لا تَدَع هذه السنةَ، هي شاة واحدةٌ عنك وعن أهل بيتِك، ولا يخدعنَّك من يهوِّن شأنَها ويقلِّل من قدرِها، أو يقول: اللحمُ كثُر ولا حاجةَ للأضاحي، أو يقول: ألقوا قيمتَها في مواضعَ أُخَر إلى آخر ذلك، هذه سنّةُ محمّد -صلى الله عليه وسلم- وعمَل أمّةِ الإسلام، فلا يجوز للمسلم أن يستخِفَّ بشأنها، ولا أن يقلِّلَ من قدرها، ولا أن يظنَّ أنَّ إنفاقَها لقيمَتِها قائم مقامَ هذه السنّة وهذه الشعيرةِ العظيمة.
أيّها المسلم: إنّ نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لنا أحكامَ الأضاحي كما كان أيضًا مبيَّنًا في كتاب الله العزيز، فالجِنس الذي منه الأضاحي هي بهيمةُ الأنعام: الإبل والبقر والغنَم، وقد بيَّن لنا -صلى الله عليه وسلم- السنَّ المجزِئَ في ذلك فقال: "لا تذبَحوا إلاّ مسنّةً، إلا أن يعسُرَ عليكم فتذبَحوا الجذَعَ من الضّأن"، فدلَّ على أنه لا بدَّ أن يكون مسِنًّا، وهي في الإبلِ ما تمَّ له خمسُ سنين، وفي البقر ما تمَّ له سنتان، وفي الضّأن ما تمَّ له ستّةُ أشهر، وفي المعزِ ما تمَّ له سنة.
ولا بدَّ أن تكونَ هذه الأضحيةُ خاليةً من العيوب المانعةِ للإجزاء، وقد بيَّن -صلى الله عليه وسلم- أصولَ هذه العيوبِ، وجاء أيضًا ذِكرُ عيوبٍ أخرى لكنها أقلُّ منَ الأوّل، ففي حديثِ البراء أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قام فيهم فقال: "أربعٌ لا تجزئ في الأضاحي: العوراءُ البيِّن عوَرُها، والمريضةُ البيِّن مرَضُها، والعرجاءُ البيِّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي". فبيّن لهم -صلى الله عليه وسلم- أنّ العوراءَ التي استُبين عورُها -انخسفت عينُها أو نتأت- فإنها لا تجزِئ، ومَن كانت عمياءَ كان أولى في عدَم الإجزَاء. وبيَّن أن المريضةَ البيّن مرضها وظهَر أثرُ المرضِ عليها؛ في أكلِها، مشيها، في شيء من جِلدها، فإنها لا تجزِئ. وبيّن أنّ العرجاء التي استبان ضلعُها وتعجز عن مُواكَبَة الصّحاح أنها لا تجزِئ، وأنَّ الكسيرةَ الهزيلة التي لا مخَّ فيها فإنها لا تجزئ.
وهناك عيوبٌ أخرى ينبَغي اتِّقاؤها، مثل ما قُطِع أكثر من نِصف قرنها أو أذنها؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يضحَّى بأعضَبِ القرنِ والأذُن. سئل سعيد بن المسيب فقال: "النصفُ فأكثر". فما قطِع أكثرُ من نصفِ قرنها أو أذنها فإنَّ عدمَ التضحية بها هو الأولى، مشقوقَةُ الأذُن أو مخروقتها تركُها أولى، ساقِطَة الأسنان تركُها أولى، البَتراءُ التي لا ذَنَب لها أصلاً ناقِصةٌ تركها أولى، كلّما كانت الأضحية كاملةً في صفاتِها كان ذلك أكمَل، قال عليّ -رضي الله عنه-: أمرَنا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن نستشرِفَ العينَ والأذن؛ لأنّ العيوبَ في هذين أكثرُ من غيرها، فاختيارُك الطيِّبةَ لأنّ الله -جل وعلا- يقول: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) [البقرة:267].
ولها وَقتٌ محدَّد في الشرع، وهو من بعدِ صلاة عيدِ يومِ النحر إلى غروبِ شمس اليوم الثالثَ عشرَ من ذي الحجة، هكذا سنّةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيذبَح يومَ النحر وأيّام التشريق الثلاثة، وإن كان يومُ النحر أفضلَ، لكنّ المدّةَ مستمرَّة إلى غروبِ شمس يومِ الثالثَ عشر، فوَقتُ الذبح أربعةُ أيام، ولا يجوز التأخُّر عن ذلك ولا التقدُّم، والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- خطب أصحابَه يومَ النحر فقال: "إنّ أوّلَ شيء نبدأ به في يومنا أن نصلّيَ، ثم نرجع فنَنحَر، فمن ذبح على ذَلك فقد أصاب سنّتَنا، ومن ذبح قبلَ ذلك فهو لحمٌ لأهله". فالسنّة دلَّت على أنه لا يجوز ذبحُ الأضاحي إلا بعد صلاةِ الإمام يومَ النحر، بعد صلاة المسلمين وأدائهم لتلك الصلاة، فيصلّون ثم ينحرون، قال الله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2].
وبيَّن لنا -صلى الله عليه وسلم- آدابَ الذّبحِ، وأرشدنا إلى الطريق المستقيم، فأوّلاً لا بدَّ من تسميةِ الله، فاسم الله شرطٌ لحِلّ الذبيحة؛ لأنّ الله يقول: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام:118]، وقال: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام:121]، وعنه -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنهرَ الدّمَ وذكِرَ اسم الله عليه فكُل".
والسنّةُ للمسلِمِ القادر المحسِن أن يتولَّى ذبحَ أضحيتِه بنفسه، فإنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يتولَّى ذلك بيدِه مع وجود من هو أحبُّ إليهم من أنفسِهم وأهليهم، لكنها عبادة، وكلُّ عبادةٍ يتولاَّها المسلم بنفسِه فذاك أكمل وأفضل، وإن لم يفعَل فليحضُر ذبحَها فإنها عبادَةٌ لله، يُروَى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لابنَتِه فاطمة: "قومِي إلى أضحيتِك فاشهَديها، فإنه يغفَر لك بأوَّل قطرةٍ من دمها".
وسنَّ لنا رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- الرِّفقَ بالحيوان، فسَنَّ لنا حَدَّ شِفارِ السّكين، وأن تكونَ آلةً حادّة لكي تجهِز الذبيحَة من غير إضرارٍ بها، فيقول لنا -صلى الله عليه وسلم-: "إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قَتلتم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتُم فأحسِنوا الذِّبحة، وليُحِدّ أحدكم شفرتَه، وليُرِح ذبيحته".
كما أرشَدَنا -صلى الله عليه وسلم- أن لا نذبحَ بآلةٍ كالّةٍ، وأن لا نحِدَّ السكينَ في وجهِ البهيمة، وأن لا نَذبَحَ أخرى وأخرى تنظر، وأوجَب علينا إراقةَ الدمِ بقطعِ الحلقوم والمريء، ونتمِّم ذلك بقطعِ الأوداج، ليكون في ذلك راحة للذبيحة وإحسان إليها، قال له رجل: يا رسولَ الله: أذبَحُ الشاةَ وأجِدُني أرحمها! قال: "الشاةُ إن رحِمتَها رحِمَك الله"، ولما رأَى رَجلاً يسوقُ أضحيَتَه يجرُّها قال: "سُقها إلى المنحَر سَوقًا رفيقًا"، فصلوات الله وسلامه عليه.
السّنَّةُ للمسلمين أن يأكُلوا من أضاحِيهِم ويهدوا ويطعِموا، الله يقول: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج:28].
واعلَم -أيها المسلم- أنّ هذه العيوبَ في الأضاحي لو كانت حاصلةً بعد شرائِك لها مِن غير أن يكون تفريطٌ منك أو إهمال فلا شيءَ عليك؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله رجلٌ أنه اشتَرى أضحيَةً فعَدا الذّئب فأكَلَ أليتَها قال: "ضحِّ بها". قال العلماء: العيوبُ إذا طرَأت في الأضاحي من غير إهمالٍ ولا تضييع فإنها تجزِئ، وأمّا إن أهمل وفرَّط فإنه يضمَن ذلك لأنها أمانةٌ عندَه.
وإذا عجِز الوقتُ عن الأضاحي كلِّها وكان الموقِفُ واحِدًا جمعَها ولو في أضحيّةٍ واحدة، وإن تعذَّر أخَّرها ولو سنَةً أو سنتين، المهِمُّ أداءُ هذه الأمانة، أداءُ هذه المسؤولية، إحياءُ هذه السنّة، الرّفع من شأنها وقدرِها والاهتمام بها، وأن لا نُصغِي لمن يرى أنها أمرٌ يسير، بل هي سنّةٌ وشعيرة من شعائرِ الدين.
نسأل الله أن يتقبّلَ منّا ومنكم صالحَ أعمالنا، وأن يوفّقنا وإياكم لاتباع سنّة لمصطفى -صلى الله عليه وسلم- والعمَل بها والثّبات على الحق، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحَمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كمَا يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد:
أيّها الناس: اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
أخي المسلم: تعلَمُ أنَّ الله -جل وعلا- من كرمِه وإحسانه لم يفرِض الحجَّ على المسلم إلا مرّةً واحدة في عمره، من أدّى تلك الفريضةَ اعتُبِر مؤدِّيًا للواجب وبرِئت ذمّتُه من المسؤولية. وهنا نرى بعضَ إخواننا قد لا يقتنِعون بهذا، وقد صدَرت فتوَى على أنّ ولي الأمر إذا وضَعَ نظامًا يُقصَد من خلالِه التقليلَ والتيسير، وأنَّ من أدَّى سنةً يتأخَّر خمسَ سنين رِفقًا بالناس وفسحًا للمجال وإعطاءً للفرصة لمن لم يحجَّ، هذا أمرٌ لا يخالف الشرع، وليس فيه منعٌ للخَير، ولكنه تنظيمٌ في المصلحة، إلاّ أنه -وللأسف الشديدِ- نرى بعضَ إخواننا يحتَالون، فيأتون مراكِزَ عند المواقيت، فيخلعون ثيابهم، فإذا جاوزوا لبَسوا إحرامَهم، الإحرامُ واجبٌ عند الميقات، وهذا لا يرتدي الإحرامَ تحايُلاً ويقول: لست بحاجٍّ، فإذا تجاوَزَ ذلك لبِس الإحرام وارتَكَب خطأً ومحرَّمًا؛ لأنَّ الواجبَ إيقاعُ النيّة عندَ المواقيت، وكونُك ترتكب محرَّمًا في سبيلِ الحصولِ على نافلة تخالِف الأمر، فهذا -يا أخي- في النفسِ حَرجٌ منه، وأنا لا أؤيِّدُك على هذَا الفِعل ولا أشجِّعُك عليه.
أمرٌ آخر يا إخواني، حملاتُ الحجّ لهم حِيَل في هذا المقام، فيأخُذون تصريحاتٍ مِنَ المسؤولين، ثم يبيعون كثيرًا منها على الآخرين، فيأخذُ من قد حجَّ لأنه لم يحجَّ، وكلّ هذا تحايُل، وكلّ هذه غيرُ سليمة، وبذلُ العِوَض في هذا غير جائز، وقَبض العوَض فيها غير جائز، فلا ينبغي لنا التساهلُ والتحايل على الأمورِ التي لا تخالِف الشرعَ، فهذا تحايُلٌ غير سليم.
إخواني: حملاتُ الحج -هدانا الله وإياهم- يلاحَظ على بعضهم شيءٌ كثير، فبعضُهم إذا قرُب الحجّ ترى له إعلانًا وبرنامجًا وتنظيمًا جيّدًا، فإذا قدِم الحجّاج وجدوا كثيرًا ممّا قِيلَ غيرَ موجود، ووجدوا ما أمِّن وكُتِب وأعلِن أنّه فقط حِبرٌ على الورق، وأنّ هذا صاحبَ الحملَةِ لم ينفِّذ كلَّ ما قال ولا نِصفَ ما قال، وهذا -يا إخواني- خيانة للأمانة، والله يقول: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8]. إهمالُهم لحجّاجِهم، عَدَم المبالاة بهم، عدَم تثقيفهم، تساهَلُهم في كثيرٍ مِن أمورهم، إلجاؤهم الحجّاجَ أحيانًا إلى عدَمِ القيام بالواجب، كلّ هذا من الأمورِ المخالفة للشَّرع، فالتَزِم ما تَعهَّدتَ به، والتَزِم ما ضَمِنتَه على نفسك، وإياك وهذا التساهُلَ، وإياك وهذا التلاعب.
أيها المسلم: إنَّ بيت الله الحرام أفضلُ بقَعِ الأرض على الإطلاق، حَرَمٌ شرَّفَه وعظَّمه وخصَّه بخصائصَ عظيمة، فمِن خصائصه أنّ الله -جل وعلا- توعَّد من همَّ فيه بسوء أن يعجِّل له العقوبة، قال -جل وعلا-: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25]، من همَّ بسيّئة في الحرم في نفسِه وإن لم يفعَل فإنّ الله يعاقبه على هذا الهمِّ السيّئ وعلى هذا المقصدِ الخبيث؛ لأن الله ألزم المسلمين باحتِرام أمنِ هذا البلد، قال -جل وعلا-: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران:97]، والخليل دعا لأهله بقوله: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) [البقرة:126]، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- بيّن حرمةَ هذا البلد وشأنَه فقال: "إن الله حرّم هذا البلدَ يوم خلق السموات والأرض، ولم يحرِّمه الناس، وإنه حرامٌ بتحريم الله له إلى يوم القيامة، لا يعضَد شوكه، ولا ينفَّر صيدُه، ولا يُختَلَى خلاه، ولا يُسفَك فيه دم، ولا يلتَقط لقطته إلا معرِّف"، كلّ ذلك تعظيمًا لشأنِ هذا البيتِ وإِرشادًا للمسلِم أن يرعَى أمنَه ويرعى حرمتَه؛ لأنّ هذا من واجب الإسلام، ولا يستخِفّ ببيتِ الله الحرام ولا يستخفّ بأمنه إلا من في قلبه مرضٌ والعياذ بالله.
نسأل الله أن يوفِّقَ المسلمين لكلّ خير، وأن يحفَظَ حجّاجَ بيتِه الحرام، ويعينهم على أداءِ نسكهم، ويصرف عنهم كيدَ الكائدين وحِقد الحاقدين، وأن يوفِّق وُلاةَ أمرنا لما يرضيه، وأن يمدَّهم بعونِه وتوفيقِه وتأييدِه، وأن يسهِّل أمرَ الحجيج، ويعينهم على أداء نسكهم في أمنٍ يسر وسكينة، إنه على كل شيءٍ قدير.
واعلَموا -رحمكم الله- أنّ أَحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجمَاعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا -رَحمكم الله- على نبيكم -صلى الله عليه وسلم- امتثالاً لأمر ربّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين...