الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | أحمد بن محمود الديب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
والأشهر الحرم ينبغي مراعاة حرمتها، والمقصود من ذلك اتباعُ أمر الله تعالى ورفضُ ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، ولذا بيّن رسول الله في خطبته في حَجّة الوداع: "أيها الناس: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
أيها الإخوة الكرام الأحبة: ونحن اليوم نعيش مع قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوت وَلأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:36].
أيها الإخوة الكرام: لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يفضّل بعض الشهور على بعض، ففضل شهر رمضان على سائر الشهور، فهو شهر القرآن وشهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، وهو الشهر الذي كان يعظم في الجاهلية، فلما جاء الإسلام زاده تعظيمًا.
فالمحرم سمى المحرم لأن العرب كان يحرمون القتال فيه، وصفر سمي صفرًا لأن العرب كان يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفر المتاع، وشهر ربيع الأول لأن العرب كانوا يرتبعون فيه، أي لرعيهم فيه العشب، فسمى ربيعًا، وجمادى لجمود الماء فيه، ورجب سمي رجبًا لترجيبهم الرماح من الأسنة؛ لأنها تنزع منها فلا يقاتلوا، وشعبان لأنه شعب بين رمضان ورجب، ورمضان لرموض الحر وشدة وقع الشمس فيه، وشوال لشولان النوق فيه بأذنابها إذا حملت، وذو القعدة سمي ذا القعدة لقعودهم في رحالهم عن الغزو، لا يطلبون كلأًً ولا ميرة، وذو الحجة سمي ذا الحجة لأنهم يحجون فيه.
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِِ) [التوبة:36]، ففي هذه الآية العظيمة أخبرنا الله تعالى أنه منذ خلق السموات والأرض وخلق الليل والنهار وجعل الشمس والقمر يسبحان في الفلك وينشأ منهما ظلمة الليل وبياض النهار، فمن حينئذ جعل الله تعالى عدة الشهور عنده اثني عشر شهرًا، وأخبرنا أيضًا أنه جعل منها أربعةً حرمًا.
والأشهر الحرم ينبغي مراعاة حرمتها، والمقصود من ذلك اتباعُ أمر الله تعالى ورفضُ ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، ولذا بيّن رسول الله في خطبته في حَجّة الوداع: "أيها الناس: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوت وَلأرْضَ) [التوبة:36]. إنما قال: (يَوْمَ خَلَقَ السَّماوت وَلأرْضَ) [التوبة:36]؛ ليبيّن أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتّبها عليه يوم خلق السماوات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة.
وهو معنى قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً). وحكمها باقٍ على ما كانت عليه لم يُزِلها عن ترتيبها تغييرُ المشركين لأسمائها، وتقديمُ المقدّم في الاسم منها، وأن ما فعله أهل الجاهلية من جعل المحرّم صفرًا، وصفرٍ محرّمًا ليس يتغيّر به ما وصفه الله تعالى.
وهذه الآية تدلّ على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقِبط، فلا يليق بالمسلمين أن يقدموا الشهور العجمية والرومية والقبطية على الشهور العربية، وقوله تعالى: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)، الأشهر الحُرُم المذكورة في هذه الآية ذو القعدة وذو الحِجة والمحرّم ورجب الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وهو رجب مُضَر، وقيل له: رجب مضر؛ لأن ربيعة بن نزار قبيلة من قبائل العرب كانوا يحرمون شهر رمضان فيه ويسمّونه رجبًا، وكانت مضر تحرّم رجبًا نفسَه، فلذلك قال النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: "الذي بين جمادى وشعبان"، وبهذا رفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان.
وقوله تعالى: (ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ) أي ذلك الشرع والطاعة، (لْقَيّمُ) أي القائم المستقيم، وقوله تعالى: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) قيل: راجع إلى جميع الشهور. وقيل: إلى الأشهر الحُرُم خاصّةً لأنه إليها أقرب ولها مزية في تعظيم الظلم لقوله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ) [البقرة:197]. ولا يعني أن الظلم في غير هذه الأشهر جائز.
(فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ): لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال، ولا تظلموا فيهنّ أنفسكم بارتكاب الذنوب والآثام؛ لأن الله سبحانه إذا عظّم شيئًا من جهة واحدة صارت له حُرمة واحدة، وإذا عظّمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعدّدة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيّئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإنّ من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثوابَ من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثوابَ من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال.
وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى: (يانِسَاء النَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب:30].
وسميت هذه الأشهر الأربعةُ حرمًا لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: اختص الله تعالى أربعة أشهر جعلهن حرمًا وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيها أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم، وخصّ الله تعالى الأربعة الأشهر الحُرُم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًّا عنه في كل الزمان، كما قال: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ) [البقرة:197]، على هذا أكثر أهل التأويل، أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم. وروى حماد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن يوسف بن مِهْران عن ابن عباس قال: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة:36]: "في الاثني عشر".
أيها الإخوة الكرام: لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يفضل بعض الشهور على بعض، ففضل الأشهر الأربعة وجعلها حرامًا فإنه -سبحانه تعالى- يفعل ما يشاء، ويخص بالفضيلة ما يشاء، يفعل ما يريد بحكمته، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى.
فاتقوا الله -يا عباد الله- في الأشهر الحرم وفي غيرها، واحذروا من الظلم فيها وفي غيرها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوت وَلأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:36].
الخطبة الثانية:
يقول الله -عز وجل-: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة:36]، فأعظم الظلم: الشرك بالله تعالى لقوله -عز وجل-: (إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13]، فاحذروا -يا عباد الله- من الظلم؛ فإن الظلم ظلمات كما ثبت ذلك عند البخاري عن عبدِ الله بنِ عمرَ -رضيَ الله عنهما- عنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الظُّلمُ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ". وروى مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللّهَ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ".
فاحذروا -يا عباد الله- من الظلم؛ فإن الله تعالى جعله في هذه الأشهر أشد حرمة، واعلموا أن الله -عز وجل- كما حرم علينا الظلم فقد حرمه على نفسه -عز وجل-، فهو -سبحانه وتعالى- تنزه وتقدس عن الظلم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) [يونس:44]، (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]، بل إنه -سبحانه وتعالى- نفى عن نفسه إرادةَ الظلم: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 108]، روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه والترمذي وابن ماجه عن عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ عَنْ أَبِي ذَرَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي: إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلاَ تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرُ لَكُمْ، يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ".
(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَـاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَـاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].