الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | مهران ماهر عثمان نوري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
ديننا الحنيف يدعو للاهتمام بأمر المسلمين، تكمن أهميّته في أن الحديث عن الأساليب القذرة التي يتعرض لها إخواننا في الأسر تُجذِّر في نفوسنا عقيدتي الولاء للمؤمنين وبغض الكافرين والبراءة منهم. وكذلك لتعريف الناس بواجبهم حيال الأسرى في زمن نسيهم فيه المسلمون، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم. لقد دأب المشركون منذ عهود بعيدة على تعذيب الأسرى وإلحاق الضرر بهم، وليس هذا بغريب ..
أما بعد: فأتناول اليوم -بإذن الله- موضوعًا في غاية من الأهمية، ألا وهو موضوع أسرى المؤمنين في سجون الكافرين، ولسائل أن يسأل: لماذا هذا الموضوع؟! وما هي أهميته؟!
تكمن أهمية طرحه في أنَّ ديننا الحنيف يدعو للاهتمام بأمر المسلمين، تكمن أهميّته في أن الحديث عن الأساليب القذرة التي يتعرض لها إخواننا في الأسر تُجذِّر في نفوسنا عقيدتي الولاء للمؤمنين وبغض الكافرين والبراءة منهم. وكذلك لتعريف الناس بواجبهم حيال الأسرى في زمن نسيهم فيه المسلمون، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
عباد الله: لقد دأب المشركون منذ عهود بعيدة على تعذيب الأسرى وإلحاق الضرر بهم، وليس هذا بغريب، فالمشرك ظالم لربه بصرف حقِّه إلى غيره، أفلا يظلم عبدًا مثله؟! قال خباب بن الأرت: أتينا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلا تَدْعُو اللَّهَ؟! فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: "لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ". رواه البخاري.
وهذه بعض طرق التعذيب التي يستعملها اليهود حيال إخواننا الأسرى في فلسطين: الضرب الشديد، إطفاء أعقاب السجائر في الصدر، سكب الماء البارد في الليلة الشاتية، الحرمان من مقابلة الأهل والمحامي، التعرية من الملابس لا سيما في وسط النساء، عدم السماح بقضاء الحاجة والاستعجال عند قضائها، الضرب على الجروح والمفاصل، التواني في علاج المرضى، الإجبار على النوم جالسًا، خلع الشعر شدًّا، التفتيش العاري.
واسمعوا إلى هذه الحادثة التي تدمي القلب: فتاة قبض اليهود عليها بتهمة الانتماء إلى تنظيم (إرهابي)، فجيء بوالدها، وأجبروها على التعري أمامه، ولم تُجْدِ دموع أبيها وتوسّلاته، لم تُجدِ صرخاتها وبكاؤها، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل جاء علجٌ حقيرٌ فاغتصبها أمام أبيها.
وكم من أسيرة من أخواتنا المؤمنات مُنعت من مقابلة أبنائها مدة طويلة، فإذا ما سُمح لها بذلك مُنعت من ضَمِّهم إليها.
أتعلمون -عباد الله- أنَّ في سجن اليهود أكثر من عشرة آلاف أسير، منهم مائة وعشرون أسيرة وثلاثمائة وثلاثون طفلاً؟! فماذا عن الأسرى في غوانتانامو وقد فاق عددهم الخمسمائة أسير؟! أوضاعهم لا يُسأل عنها، يعيشون في جحيم لا يُطاق، وقد منعت أمريكا الإعلام من أن يحلّ بساحتهم لئلا ينكشف عوارها للعالم.
لقد تسربت رسائل لبعض الأسرى ونُشرت على صفحات الإنترنت، وفيها من البلاء ما الله به عليم، عذاب بالليل والنهار، كلاب تنهش في أجسادهم، إهمال قاتل للمرضى منهم، الحرمان من الظل في اليوم الحار.
ختم أحدهم رسالته بقوله: يا مسلمون: إن أبيتم إلا نسياننا فلا تنسَوا أبناءنا، فإننا قد احتسبنا أنفسنا في سبيل الله. لله دركم ولسان حالكم:
سأحيا بالكرامة يا رفاقـي | وأسحق دائمـًا أهل النفـاق |
سأمضي في طريقي نَحو عز | ولو قطع العدا كفي وساقـي |
سأمضي للشهادة فِي ثبات | فـإنـي والمنيـة في سبـاق |
ولو جعلوا حياتي في جحيم | وصار الكون أسود كالمحـاق |
فلن يصلوا أيـا أبتاه يومًا | إلى قلبي ولن يثنوا أبدًا مساقي |
سأبقى صامدًا زادي كتابِي | وقول المصطفى فيه ائتلاقـي |
سأبقى يا أبي حصنًا منيعـًا | سأبقى في سمـاء المجد راقـي |
وسوف أعيد للأيام ذكرى | صلاح الدين والأسد البواقي |
يا أسرى المؤمنين: عزاؤكم أنكم خرجتم للجهاد في سبيل الله، عزاؤكم أنَّ الأسير مَن أسَره هواه.
أيها المؤمنون: قارنوا بين التعاليم الإسلامية في معاملة الأسير وبين معاملة هؤلاء الأنجاس؛ يأمر الله تعالى بالإحسان إلى الأسير، ويجعل ذلك من أسباب النجاة في يوم القيامة: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) [الإنسان:8-11].
يقع أهل مكة تحت سيطرته –صلى الله عليه وسلم- وهم الذين فعلوا به ما نعلمه جميعًا، فيقول لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: بَعَثَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟!"، فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ؛ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟!"، قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ؛ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟!"، فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ"، فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟! فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ؟! قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلا وَاللَّهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. رواه البخاري ومسلم.
يضرب الصحابة شابًّا قبل واقعة بدر لما قال: هذا جيش أبي جهل، وكان ودهم أن يقول: عير أبي سفيان، فيزجرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن تِعْلَى: غَزَوْنَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَأُتِيَ بِأَرْبِعَةِ أَعْلاجٍ مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا صَبْرًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ دَجَاجَةٌ مَا صَبَرْتُهَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَأَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ. رواه أبو داود.
وينهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التفريق بين الأم وابنها في البيع فيقول: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". رواه أحمد والترمذي.
ولا يُكره الأسير على اعتناق دين الإسلام لقول الله: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة:256].
ويشهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنار لامرأة حبست هرة ولم تطعمها: "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ، رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ". رواه البخاري ومسلم.
عباد الله: من فرائض ديننا الحنيف السعي لفكاك الأسير؛ لئلا تكون فتنة، وهذا كتبه الله على أهل الشرائع السابقة، قال تعالى عن اليهود: (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة:85]. وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟! قَالَ: لا إِلا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟! قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: "أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ". رواه البخاري. قَالَ سُفْيَانُ الثوري: الْعَانِي: الأَسِيرُ.
وهذه بعض النقول لعلمائنا تدل على وجوب فكاك الأسير:
قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني (9/228): "ويجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن".
وقال النووي -رحمه الله- في الروضة (10/216): "لو أسروا مسلمًا أو مسلمَيْن هل هو كدخول أرض الإسلام؟! وجهان: أصحّهما: نعم؛ لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار".
وقال القرطبي في تفسيره (2/23): "قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد".
وقال ابن جُزَيّ المالكي -رحمه الله- في قوانين الأحكام الشرعية (ص172): "يجب استنقاذهم -أي: الأسرى- من يد الكفار بالقتال، فإن عجز المسلمون عنه وجب عليهم الفداء بالمال، فيجب على الغني فداء نفسه، وعلى الإمام فداء الفقراء من بيت المال، فما نقص تعين في جميع أموال المسلمين ولو أتى عليها".
وقال العز بن عبد السلام -رحمه الله- في أحكام الجهاد وفضائله (ص97): "وإنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الكفار من أفضل القربات، وقد قال بعض العلماء: إذا أسروا مسلمًا واحدًا وجب علينا أن نواظب على قتالهم حتى نخلصه أو نبيدهم، فما الظن إذا أسروا خلقًا كثيرًا من المسلمين؟!".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوى (28/642): "فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات".
وقال ابن العربي -رحمه الله- في أحكام القرآن (2/440): "إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين؛ فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن بأن لا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم. كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حلّ بالخلق في تركهم إخوانَهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والعدة والعدد والقوة والجلد".
وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج (9/237): "ولو أسروا -أي: الكفار- مسلمًا فالأصح وجوب النهوض إليهم -وإن لم يدخلوا دارنا- لخلاصه إن توقعناه بأن يكونوا قريبين، كما ننهض إليهم عند دخولهم دارَنا بل أوْلى؛ لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار".
قال أبو بكر الجَصّاص في أحكام القرآن (1/58): "وهذا الحكم من وجوب مفاداة الأسارى ثابت علينا".
فهذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، فما بالنا قد أعرضنا عن هذه القضية؟! ما بالنا لا نهتم بها وإخواننا يعذبون صباح مساء في الأسر؟!
وأنَّات الأُسارى شاهدات | علـى نياتكم أين الضمير |
وأين الفارس الْمغوار يأتي | يفـكّ القيد أعيانِي الزفير |
ولو أنَّ القطيع لنـا جوار | لمـا طابت بسكنانا الحمير |
أيهنأ عيشكم يـا قوم إني | أجرَّع كأس حنظلهم مرير |
ولـكني أخَبِّرُكـم بأنَّـا | كمثل الأسد إذ خفي الزفير |
لنا العزمات رغم القيد إنَّا | بقيد الشرع أحـرار نسير |
وميثاق مع الله اشترينـا | تكـاد نفوسنا فرحًا تطير |
وفي ذات الإله تهونُ نفسي | ونفسُ القاعدين لَها شخيرُ |
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد ضرب بعض الأمراء أروع الأمثلة في فك الأسارى، منهم الخليفة المعتصم، يقول ابن خلدون متحدّثًا عن فتح عمورية في تاريخه (3/327): "وفي سنة ثلاث وعشرين خرج نوفل بن ميخاييل ملك الروم إلى بلاد المسلمين، فأوقع بأهل زبطرة... ومثّل بالأسرى، وبلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه، وبلغه أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وا معتصماه! فأجاب: لبيك لبيك، ونادى بالنفير ونهض من ساعته، فركب دابته وخلّصها وأسر من أسرها، وفتح عمورية".
عباد الله: فما واجبنا تجاه الأسرى؟! أرى أن واجبنا يتمثل في الآتي:
1- الدعاء لهم، ودعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجاب.
قال ابن كثير في ترجمة بقي بن مخلد -رحمه الله- في البداية والنهاية (11/56-57): "كان رجلاً صالحًا عابدًا زاهدًا مجاب الدعوة، جاءته امرأة فقالت: ابني قد أسرته الإفرنج، وإني لا أنام الليل من شوقي إليه، ولي دويرة أريد أن أبيعها لأستفكّه، فإن رأيت أن تشير على أحد يأخذها لأسعى في فكاكه بثمنها، فليس يقر لي ليل ولا نهار، ولا أجد نومًا ولا صبرًا ولا قرارًا ولا راحةً، فقال: نعم، انصرفي حتى أنظر في ذلك إن شاء الله، وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله -عز وجل- لولدها بالخلاص من أيدي الفرنج، فذهبت المرأة فما كان إلا قليلاً حتى جاءت الشيخ وابنها معها، فقالت: اسمع خبره -يرحمك الله-. فقال: كيف كان أمرك؟! فقال: إني كنت فيمن نخدم الملك ونحن في القيود، فبينما أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي، فأقبل عليّ الموكل بي فشتمني وقال: لِمَ أزلت القيد من رجليك؟! فقلت: لا والله، ما شعرت به ولكنه سقط ولم أشعر به! فجاؤوا بالحداد فأعادوه وأجادوه وشدّوا مسماره وأكدوه، ثم قمت فسقط أيضًا فأعادوه وأكدوه، فسقط أيضًا، فسألوا رهبانهم عن سبب ذلك فقالوا: له والدة؟! فقلت: نعم، فقالوا: إنها قد دعت لك وقد استجيب دعاؤها، أطلقوه، فأطلقوني وخفروني حتى وصلت إلى بلاد الإسلام. فسأله بقي بن مخلد عن الساعة التي سقط فيها القيد من رجله فإذا هي الساعة التي دعا فيها الله له".
2- تكوين اللجان المختصة لمتابعة قضيتهم من الناحية الإنسانية والقانونية.
3- إحياء قضيتهم إعلاميًّا.
4- تكثيف الأنشطة الدبلوماسية وممارسة الضغط على الدول الآسرة حتى تفك قيدهم وتطلق سراحهم.
عباد الله: إنَّ اليهود -وهم شر عباد الله- أقاموا الدنيا بسبب أسير واحد، استهدفوا إخواننا في فلسطين بكل ما عندهم من صلف وعنجهية في عمليتهم التي أطلقوا عليها (أمطار الصيف)، وفي سجونهم عشرة آلاف أسير من الرجال والنساء والأطفال، ولم يُحرِّك ذلك ساكنًا فينا! فلكم الله يا أسرى المؤمنين.
أحباءنا الأسرى: بشارةٌ أختم بها حديثي، هي قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنفال:70].
فهذه الآية في أناس خرجوا للصدِّ عن دين الله وقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما بالك بمن خرج لإعلاء كلمة الله؟! لا شك أنَّ الله جاعل لهم فرجًا ومخرجًا.
اللهم فكَّ أسرانا...