النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - فقه النوازل |
ومن أعظم أمراض القلوب التي تورد أصحابها المهالك في الدنيا والآخرة:الشبهات التي تعلق بالقلوب حتى يظن أصحابها أنهم على هدى وهم على ضلال،ويحسبون أنهم يحسنون صنعا وهم مخطئون ، وما وقع في البدعة من وقع فيها من أهل الإسلام إلا بالشبهات والأهواء
بل إن أول فتنة عظيمة وقعت في هذه الأمة نتجت عن شبهات داخلت قلوب أصحابها فأوردتهم المهالك في الدنيا ،وعلقوا بسببها في رقابهم دم الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، والله تعالى أعلم بعاقبتهم في الآخرة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
أيها الناس: للقلوب أمراض كما أن للأبدان أمراضا، وأمراض القلوب أعصى من أمراض الأبدان،وهي أشد فتكا بالإنسان ؛ لأنها متعلقة بدينه ،وتحدد مصيره في آخرته ، ومن كان مريض القلب فزاده الله تعالى مرضا إلى مرضه بسبب صده عن سبيل الله تعالى فإنه من المنافقين أهل الدرك الأسفل من النار الذين قال الله تعالى فيهم (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ) [البقرة: من الآية10] (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) [الصف: من الآية5].
ومن أعظم أمراض القلوب التي تورد أصحابها المهالك في الدنيا والآخرة:الشبهات التي تعلق بالقلوب حتى يظن أصحابها أنهم على هدى وهم على ضلال،ويحسبون أنهم يحسنون صنعا وهم مخطئون ، وما وقع في البدعة من وقع فيها من أهل الإسلام إلا بالشبهات والأهواء.
بل إن أول فتنة عظيمة وقعت في هذه الأمة نتجت عن شبهات داخلت قلوب أصحابها فأوردتهم المهالك في الدنيا ،وعلقوا بسببها في رقابهم دم الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، والله تعالى أعلم بعاقبتهم في الآخرة.
لقد نقموا على الخليفة ما نقموا ، فركبهم أهل السوء والنفاق ، ومبتغو الفتنة والشقاق ،يلقون إليهم قالتهم ، ويسيرونهم بشائعتهم، ويقذفون في قلوبهم شبهاتهم ؛ حتى مكنوا من قلوبهم شبهات ما ردوها من بدايتها،ولا استفتوا فيها العلماء الراسخين في العلم من الصحابة وكبار التابعين ،بل استسلموا لها ، فتمكنت من قلوبهم ، وعظمت بها نفوسهم ،حتى تهيئوا للشر والفتنة فخرج بهم الرؤوس الظالمون في جيش كثيف على عثمان رضي الله عنه ؛ يظهرون لهم الإصلاح ،ويهتفون فيهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأحسنوا الظن بهم وما أحسنوا ،وظنوا السوء بخليفتهم وبئس ما ظنوا ،فكانوا أهل المنكر والفتنة والفساد .
لقد حسبوا أنهم بصنيعهم هذا للإسلام ينصرون ، وفي البلاد يصلحون ،ولله تعالى يتقربون ،وهم المفسدون ولكن أكثرهم لا يعلمون .
لما وصلوا المدينة النبوية ،وأعلنوا خروجهم على الخليفة ،وأخذوا يشغبون على الناس ، ويلقون إليهم بشبهاتهم ،ويبثون فيهم شائعاتهم ؛ نصح لهم عثمان رضي الله عنه وهو الخليفة الناصح لرعيته ، وعرض شبهاتهم وأجاب عنها ،لعلهم يتذكرون ،وعن غيهم يرجعون.
قام عثمان رضي الله عنه في الناس خطيبا فقال رضي الله عنه وأرضاه : " إن هؤلاء ذكروا أمورا قد علموا منها مثل الذي علمتم إلا أنهم زعموا أنهم يذاكرونيها ليوجبوها علي عند من لا يعلم ،وقالوا: أتم الصلاة في السفر وكانت لا تتم، ألا وإني قدمت بلدا فيه أهلي فأتممت لهذين الأمرين أو كذلك؟ قال الناس:اللهم نعم.
وقالوا:وحميت حمى ،وإني والله ما حميت إلا ما حمي قبلي – يعني ما حماه قبله أبو بكر وعمر لإبل الصدقة-والله ما حموا شيئا لأحد، ما حموا إلا ما غلب عليه أهل المدينة ثم لم يمنعوا من رعيه أحدا ،واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحوا منها أحدا إلا من ساق درهما، ومالي من بعير غير راحلتين ،ومالي ثاغية ولا راغية ،وإني قد وليت وأنا أكثر العرب بعيرا وشاء، فمالي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟ قال الناس: اللهم نعم.
وقالوا: كان القرآن كتبا فتركتها إلا واحدا – يعنون جمع عثمان المصاحف في مصحف واحد - ألا وإن القرآن واحد ،جاء من عند واحد، وإنما أنا في ذلك تابع لهؤلاء، أكذلك ؟قالوا :نعم".
وعندما أجاب رضي الله عنه عن شبهاتهم بهذه الأجوبة المفحمة لهم سألوه أن يقيلهم من بقية شبهاتهم ولكنه رضي الله عنه أراد أن يوضح للناس حقيقتهم ،ويكشف لهم خطيئتهم ، ويزيل الشبهات من قلوبهم، فمضى يجيبهم وقال: " وقالوا إني رددت الحكم – يعني ابن أبي العاص وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نفاه إلى الطائف ثم أرجعه إلى مكة -وقد سيره رسول الله، والحكم مكي سيره رسول الله من مكة إلى الطائف ثم رده رسول الله، فرسول الله سيره، ورسول الله رده، أكذلك ؟ قال الناس: اللهم نعم ".
وقالوا:استعملت الأحداث فلم أستعمل إلا مجتمعا محتملا مرضيا ،وهؤلاء أهل عملهم فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، ولقد ولى من قبلي أحدث منهم وقيل في ذلك لرسول الله أشد مما قيل لي في استعماله أسامة، أكذاك؟قالوا: اللهم نعم يعيبون للناس ما لا يفسرون.
وقالوا:إني أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه وإني إنما نفلته خمس ما أفاء الله عليه من الخمس لما فتح إفريقية، فكان مائة ألف وقد أنفذ مثل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما،ومع ذلك زعم الجند أنهم يكرهون ذلك فرددته عليهم، وليس ذاك لهم،أكذاك؟ قالوا: نعم.
وقالوا:إني أحب أهل بيتي وأعطيهم؛فأما حبي لهم فإنه لم يحملني على جور، بل أحمل الحقوق عليهم،وأما إعطاؤهم فإني ما أعطيهم إلا من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس ،ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنا يومئذ شحيح حريص أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي ،وفني عمري ،وودعت الذي لي في أهلي؛ قال الملحدون ما قالوا!! إني والله ما أخذت من مصر من الأمصار مالا ولا فضلا فيجوز ذلك لمن قاله، ولقد رددت على تلك الأمصار الأموال ولم يحضروا إلى المدينة إلا الأخماس من الغنائم، ولا يحل لي منها شيء، فولي المسلمون وضعها في أهلها دوني، ولا تبلغت من مال الله عز وجل بفلس فما فوقه، ولا أتبلغ به ،ما آكل إلا في مالي.
وقالوا: أعطيت الأرض رجالا، وإن هذا الأرضين شاركهم فيها المهاجرون والأنصار أيام افتتحت فمن أقام بمكانه من هذه الفتوح فهو أسوة أهله، ومن رجع إلى أهله لم يذهب ذلك ما حوى الله عز وجل،فنظرت في الذي يصيبهم مما أفاء الله عليهم فبعته لهم بأمرهم من رجال أهل عقار ببلاد العرب فنقلت إليهم نصيبهم فهو في أيديهم دوني ...
فلما أزال عثمان رضي الله عنه شبهاتهم لان له أكثر الناس،حتى ممن خرجوا عليه، وأبى المسلمون إلا قتل الخوارج عليه ،ولكنه رضي الله عنه كان رحيما برعيته ، صبورا على أذية المؤذين منهم ،فأبى رضي الله عنه إلا العفو عنهم وتركهم يرتحلون غير مأخوذين ولا محاسبين على فعلتهم الشنيعة .
ولكن عفوه عنهم ما زاد رؤوسهم إلا عتوا ونفورا، فرجعوا إلى بلادهم على أن يغزوهم مع الحجاج كالحجاج وتكاتبوا ،وتواصوا بالشر فيما بينهم، وقالوا موعدكم ضواحي المدينة في شوال ،وعادوا مرة أخرى وقد اشتد شرهم ، وعظمت فتنتهم ، فحاصروا خليفتهم ، ثم قتلوه ونهبوا ماله ، واستحلوا بيت مال المسلمين، وبقتله رضي الله عنه وضع السيف في هذه الأمة فلا يرفع إلى يوم القيامة.
نعوذ بالله من الفتن ما بطن منها وما ظهر ،ونسأله سبحانه الهداية للحق والثبات عليه ، والعصمة من الضلالة والهوى ، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ،صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه...
أيها الناس: كثير من الشبه التي ترد على القلوب في مسائل الدين ، وفي حقوق السلاطين وما لهم وما عليهم ،يحتاج الناس في إزالتها إلى من يحسن التعامل معها من أهل العلم والفضل ، وأصحاب الحكمة والعقل ،وإلا فتكت بأصحابها ، وأدخلت المسلمين في دوامة من الشر والفتنة لا خلاص لهم منها إلا أن يشاء الله تعالى.
وما وقع من أحداث مأساوية في كثير من بلاد المسلمين ،وبالأخص في تلك البلاد المباركة ، على أيدي بعض أبنائها ، إنما هو ناتج عن شبهات وردت على قلوبهم ،أخطئوا معها طريق الإصلاح ،وظنوه في رفع السلاح ،ونكث البيعة ،والخروج على السلطان؛فكانوا سببا في ضرب المسلمين بعضهم ببعض ،وأشمتوا بالأمة الكفار والمنافقين،ومكنوا لأهل الفساد والإلحاد التسلق على الأحداث ،ونشر البغي والفساد،ثم كانت نهاية كثير منهم أليمة ،والله أعلم بما يلقون به ربهم ،وفي رقابهم دماء معصومة، وفي ذلك أبلغ العبرة والعظة لكل من يستسلم للشبهات ،ولا يراجع العلماء الربانيين فيها.
ولو أنهم ما استسلموا للشبهات التي داخلت قلوبهم، ولا أعاروا عقولهم غيرهم،لما فعلوا في بلاد المسلمين ما فعلوا.
ولو أنهم فهموا نصوص الكتاب والسنة،ولم يخرقوا إجماع الأمة،لما ضلوا الصراط المستقيم، ولما رفعوا السلاح على المسلمين ،واستحلوا الدماء المحرمة التي شأنها عند الله تعالى عظيم.
ولو أنهم فقهوا المصالح والمفاسد ، وعرفوا ترتيب الأوليات ،لأدركوا أن الإفساد لا يكون إصلاحا ،وأن قصد الآمنين ، والإفساد في بلاد المسلمين ،لن تكون عاقبته إلا خراب الدين والدنيا.
والمسئول عن ذلك كله الشبهات التي ترد على القلوب فتفسدها،فيظن أصحابها أنهم يصلحون وهم يفسدون،وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ،أن المتشربين بالشبهات معهم منقولات ظنوها صدقا ولم يكن لهم خبرة بأنها كذب، ومعهم من الآيات والأحاديث الصحيحة تأويلات ظنوها مرادة من النص ولم تكن كذلك، ومعهم نوع من القياس والرأي ظنوه حقا وهو باطل ، ثم قال رحمه الله تعالى: فهذا مجموع ما يورث الشبه في ذلك إذا خلت النفوس عن الهوى، وقل أن يخلو أكثر الناس عن الهوى (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) [النجم: من الآية23].
وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى: "الشبهة وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له ،فمتى باشر القلب حقيقة العلم لم تؤثر تلك الشبهة فيه بل يقوى علمه ويقينه بردها، ومعرفة بطلانها، ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه قدحت فيه الشك بأول وهلة، فإن تداركها وإلا تتابعت على قلبه أمثالها حتى يصير شاكا مرتابا، والقلب يتوارده جيشان من الباطل :جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغا إليها ،وركن إليها تشربها ،وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والايرادات، فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيردا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة ،فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فاذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات أو كما قال، قال ابن القيم: فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها؛ فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل، وأكثر الناس أصحاب حسن ظاهر، فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس فيعتقد صحتها،وأما صاحب العلم واليقين فإنه لا يغتر بذلك بل يجاوز نظره إلى باطنها وما تحت لباسها فينكشف له حقيقتها". اهـ
أسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين ،وأن يحفظ بلادهم من الفساد والمفسدين ،وأن يعصم شبابهم من الشهوات والشبهات،وأن يمن عليهم بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام إنه سميع مجيب.
والحمدلله رب العالمين.