الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إنه القمر يا عباد الله، آية من آيات الله، كوكب عجيب في حجمه، وشكله، ونوره، ومنازله، ودورته، وآثاره في الحياة، وارتفاعه في الفضاء بلا عمد؛ ثم في أفوله وغيابه عن الأنظار طاعة للواحد الصمد: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [الأنعام:77]، مخلوق لا يعبد: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) [فصلت:37], ومسخر لا يتأخر: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [النحل:12].
الخطبة الأولى:
أما بعد: فالتفكر في آيات الله عبادة ربانية، وضرورة إيمانية، يزيد من خلالها إيمان العبد، وبه يخبت القلب للرب.
بالتفكر يتعرف الموفّق على شيء من عظمة خالقه، ويجدد من خلاله إيمانه ليصل إلى يقينه، وربما أوصله تفكره إلى إحسانه في عبادة ربه، "والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
فما أعظم التفكر! وما أشد طمأنينة قلوب المتفكرين! وما أسعد عيشهم وهم يحيون قلوبهم في معرفة آيات ربهم! فدعونا نتفكر. وفيم نتفكر؟
وفي كل شيء له آية | تدل على أنه الواحد! |
نختار من هذا العالم الواسع آية ليست أعظم مخلوقات الله، ولكنها من أعظمها، ذكر الله هذه الآية في كتابه العظيم ثمانياً وعشرين مرة، وتكرار ذكرها وكثرة ورودها إلماحة وتنبيه إلى التأمل فيها، بل حملت سورة كريمة من أوائل ما نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- اسم هذه الآية، وسميت بها.
وتضمنت آيات القرآن مراحل هذه الآية من أول خلقها إلى نهايتها، وانقضاء الحكمة من وجودها.
إذن؛ في القرآن قصة حياتها ووجودها، فسبحان الذي أحسن كل شيء خلقه! (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) [نوح:15-16]. وتبارك الله أحسن الخالقين! (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) [الفرقان:61]!.
إنه القمر يا عباد الله، آية من آيات الله، كوكب عجيب في حجمه، وشكله، ونوره، ومنازله، ودورته، وآثاره في الحياة، وارتفاعه في الفضاء بلا عمد؛ ثم في أفوله وغيابه عن الأنظار طاعة للواحد الصمد: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [الأنعام:77]، مخلوق لا يعبد: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) [فصلت:37], ومسخر لا يتأخر: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [النحل:12].
سخره الله بنظام بديع، شروق وغروب، هلال لا يكاد يرى، ينمو كما ينمو الصغير من مخلوقات الله حتى يصير بدراً كاملاً، وقمراً منيراً.
ثم يسأل الإنسان عن هذا التدرج، وأيُّ حكمة في ذلك للرحمن؟ فيأتي جواب اللطيف المنان: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة:189]. مواقيت للناس، كل الناس، مسلمهم وكافرهم، فهو تأريخ عالمي؛ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس:5]، فأين الذين يستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير؛ فيعدلون عن أشهر هلالية أشاد الله بها؟ فهي جزء من بنية نظام الكون، وهي جزء من التشريع للخلق، وبيننا وبينها رابطة تاريخية، فهي من معالم حضارة المسلمين؛ فكيف يعدل عنها إلى أشهر وهمية، أو بروج مجهولة لا يعرفها إلا خاصة الناس؟ اللهم اهدنا صراطك المستقيم.
أيها الإخوة: أودع الله في القمر جمالا للناظرين، والله جميل يحب الجمال، فلم يزل الشعراء يتغنون بجماله، ولم يزل المحبون يصفون به من يحبونهم، وقد جعل الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد جمال الخُلُق: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، جعل مع ذلك جمال الخِلقة، يحدث كعب بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "فلما سلمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يبرق وجهه من السرور، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر, وكنا نعرف ذلك منه".
وفي ليلة الثلاثاء، الخامس عشر من هذا الشهر، تراءى للناس ما سموه بدر البدور، في حدث فلكي نادر، حينما يقرب القمر من الأرض، ويزداد في حجمه للناظرين؛ فرأوا من جمال المنظر، وهيبة الصورة، وعاينوا صنع الله الذي أتقن صنع كل شيء خلقه، (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [لقمان:11].
وصدق الله العظيم: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) [الانشقاق:18]، أي: امتلأ نوراً بإبداره، وذلك أحسن ما يكون، وأكثر منافع.
ثم يسجل القرآن نهاية هذا المخلوق الذي خلق لحكمة، لتكون نهايته أيضا لحكمة، يخسف الله بالقمر فيذهب ضوءه كله، ويجمع إلى الشمس، فلا يكون هناك تعاقب لليل والنهار، وهنا تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الأخرى، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة:5-12].
ثم يقذفان في النار؛ إهانة لعابديهما، وليست عقوبة لهما، وجاءت نهايتهما كذلك ليعلم عابدو الشمس والقمر أنهما يعبدان مخلوقين لا يملكان لأنفسهم دفعاً ولا نفعا، فكيف بغيرهما؟ (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) [الأنبياء:98].
جعلني الله وإياكم من المتفكرين في آياته، المنتفعين بعظاته...
الخطبة الثانية:
فبعد ذاك التأمل في شيء من أسرار الله في خلق القمر وأطواره، التأمل آكد في أمرين اثنين في أحوال الآخرة، ورد ذكر القمر فيها على جهة التشبيه والتقريب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إضَاءَةً، لا يَبُولُونَ، وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَتْفِلُونَ، وَلا يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الألُوَّةُ، وَأَزْوَاجُهُمُ الحُورُ العِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيْهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعاً فِي السَّمَاءِ" متفق عليه. جعلني الله وإياكم من أهل الجنة.
وأما الحديث الثاني فهو أعظم منه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن ناساً قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟"، قالوا : لا، يا رسول الله، قال: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟"، قالوا: لا، يا رسول الله، قال: "فإنكم ترونه كذلك" رواه مسلم. ومعنى " تضارون"، أي: لا يزاحم بعضكم بعضا، أو يلحق بعضكم الضرر ببعض بسبب الرؤية، وتشبيه رؤية الباري برؤية الشمس والقمر، ليس تشبيها للمرئي بالمرئي، وإنما تشبيه الرؤية في وضوحها وجلائها برؤية العباد الشمس والقمر، إذ يرونهما من غير مزاحمة ولا ضرر.
هذا -يا عباد الله- هو أعظم نعيم أهل الجنة، وهو الزيادة التي قال الله فيها: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26]؛ فهل من سبيل إلى هذا النعيم؟ استمع لما في الصحيحين عن جرير، قال: نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر؛ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا".
أجل، صلاة قبل طلوع الشمس وأخرى قبل غروبها، إنهما البردان، و"مَن صلى البردين دخل الجنة"، والبردان: الفجر، والعصر. فهل بقيت لذة في السهر؟ وهو يفوتك صلاة قبل طلوع الشمس؟ أعاننا الله وإياكم على أنفسنا.
اللهم إنا نسألك الجنة...