الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
لئن كنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية عن سيرة أحد الأعلام الكبار في تاريخ أمتنا الإسلامية، الإمامِ الرباني، والصديق الثاني، أحمدَ بنِ حنبلٍ الشيباني، رحمه الله، واستعرضنا عدة صفحات مشرقة من حياة هذا الإمام، مليئةٍ بالدروس والعبر؛ فإنه يجدر بنا اليوم أن نقف مع صفحة ساخنة، هي من أعظم الصفحات في حياة هذا الإمام..
أما بعد:
عباد الله: لئن كنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية عن سيرة أحد الأعلام الكبار في تاريخ أمتنا الإسلامية، الإمامِ الرباني، والصديق الثاني، أحمدَ بنِ حنبلٍ الشيباني، رحمه الله، واستعرضنا عدة صفحات مشرقة من حياة هذا الإمام، مليئةٍ بالدروس والعبر؛ فإنه يجدر بنا اليوم أن نقف مع صفحة ساخنة، هي من أعظم الصفحات في حياة هذا الإمام.
إنها صفحة الابتلاء، سنة الله في عباده المؤمنين، وقد روى الإمام أحمد نفسه، والترمذي وقال حسن صحيح، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يُبتلى الرجل على حَسَب دينه، فإن كان في دينه صلابةٌ زِيد في بلائه، وإن كان في دينه رقةٌ خُفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد، حتى يمشيَ على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة.
وقد روي أن الإمام أحمد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا أحمد، إنك ستُبتَلى فاصبر، يرفعِ اللهُ لك عَلَماً إلى يوم القيامة.
بدأت أحداث المحنة بعدما تولى المأمون الخلافة، وكان يميل إلى المعتزلة ويقربهم، وكان أستاذه أبو الهذيل العلاف، وقاضيه أحمد بن أبي دؤاد من زعمائهم.. اعتنق المأمون هذه العقيدة الفاسدة وهي القول بخلق القرآن، لكنه تردد في إلزام الناس والعلماء بها، وخاف من الفتنة، فأشار عليه ابن أبي دؤاد وجلساء السوء بإظهار القول بخلق القرآن، وإلزام الناس به، فكتب المأمون إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يجمع من بحضرته من القضاة والعلماء، ويلزمهم بالقول بخلق القرآن، ومن أبى حبسه أو عزله أو قتله.
واشتعلت الفتنة في العراق، وحُبس وعذب وقتل فيها خلائقُ لا يحصون، بسبب فعل الخليفة المأمون، وتقريبه لبطانة السوء، لا كثرها الله في كل زمان. حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أظن أن الله تعالى يغفل عن المأمون على ما أدخل على المسلمين.
واشتدت الفتنة، ولم يثبت فيها سوى أربعة من العلماء، الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، واثنان آخران ما لبثا أن تراجعا وقالا مثل ما قال الناس.
أمر المأمون أن يقبض على الإمامِ أحمدَ بن حنبل ومحمدِ بن نوح، وأن يرسلا إليه، فأُرسلا مقيدين على بعير واحد، فأما محمد بن نوح فمات رحمه الله في الطريق قبل أن يصل إلى المأمون في طرسوس.
وبقي الإمام أحمد بن حنبل وحده، وجاءه رسول من قبل المأمون في الطريق. فقال له: إن الخليفة قد أعد لك سيفاً لم يقتل به أحداً، فقال الإمام أحمد: أسأل الله أن يكفيني مؤونته، فدعا الله عز وجل في أثناء الطريق أن لا يريه وجه المأمون وأن لا يجتمع به، فاستجاب الله عز وجل دعاءه، وما هي إلا مدة قصيرة وإذا بالخبر يصل بوفاة المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد، فأعيد الإمام أحمد إلى السجن مرة أخرى.
ثم تولى الخلافة بعد المأمون، المعتصم، وكان المأمون قد أوصاه بتقريب ابن أبي دؤاد، والاستمرار بالقول بخلق القرآن، وأخذ الناس بذلك، وكان الإمام أحمد في السجن، فاستحضره المعتصم من السجن، وعقد له مجلساً مع ابن أبي دؤاد وغيره من علماء السوء، وجلسوا يناقشونه في خلق القرآن، والإمام أحمد يستدل عليهم بالنصوص الواردة، ويقول لهم: أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وانفض المجلس ذلك اليوم دون شيء، واستمرت المناظرات ثلاثة أيام، والإمام أحمد ثابت على الحق، يقولون: ما تقول في القرآن؟، فيقول: كلام الله غير مخلوق، قال الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، قال: وقول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ )، ولم يقل: خلق القرآن، وقال تعالى: (يس * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ )، ولم يقل والقرآن المخلوق.
وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة، فناظروه بحضرته ثلاثة أيام، وهو يدمغهم ويحجهم بالحجج القاطعة، فقال المعتصم: قهرنا أحمد، عند ذلك تحدث الوشاة عند الخليفة من علماء السوء، فقالوا: إن أحمد قد غلب خليفتين، فأخذت المعتصم العزة بالإثم، فشتمه وهدده بالقتل، فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث" فبم تستحل دمي وأنا لم آت شيئاً من هذا؟، يا أمير المؤمنين تذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل كوقوفي بين يديك، فهدأ المعتصم ولان، فتدخل ابن أبي دؤاد وقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته قِيل إنك تركت مذهب المأمون، أو يقال إنه غلب خليفتين، فهاج المعتصم، وأمر بإعادة الإمام أحمد إلى السجن مرة أخرى.
ومضت الأيام، وأخرج الإمام في رمضان وهو صائم، فجعلوا والعياذ بالله يضربونه، وأتى المعتصم بجلادين كلما ضرب أحدهم الإمام أحمد سوطين، تأخر وتقدم الآخر، والمعتصم يحرضهم على التشديد في الضرب، وهو يقول شدوا عليه قطع الله أيديكم، ثم جردوه من ثيابه ولم يبق عليه إلا إزاره، وصاروا يضربونه حتى يغمى عليه، فيفيق، ثم أخرجوه، ونقلوه إلى بيته، وهو لا يقدر على السير من شدة ما نزل به.. فلما برئت جراحه، خرج إلى المسجد، وصار يدرس الناس، ويملي عليهم الحديث، وهدأت الفتنة.
ثم توفي المعتصم، واستخلف من بعده الواثق، فاتصل به علماء السوء، ابن أبي دؤاد وغيره، وحرضوه على الفتنة، فعادت الفتنة مرة أخرى، إلا أن الواثق لم يتعرض للإمام أحمد، واختفى الإمام أحمد رحمه الله تعالى مدة خلافة الواثق، وهي خمس سنوات تقريباً، وفي آخر خلافة الواثق منّ الله عليه بالهداية فرجع عن القول بخلق القرآن.
وكان سبب هداية الواثق، أنه جيء إليه بالشيخ الأذرمي رحمه الله وهو مقيد بالأغلال، من جملة من يؤتى بهم إلى الخليفة، فيكرههم على القول بخلق القرآن، فإن أبوا قتلهم.
فلما دخل الأذرمي على الواثق، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: لا سلمك الله، ولا عليك سلام الله، فقال له الشيخ: إن الذي أدبك ما أحسن تأديبك، ويشير إلى ابن أبي دؤاد لأنه هو شيخه، وكان عنده حاضراً، قال الشيخ: إن الله تعالى يقول: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)، وأنت ما حييتني بمثلها ولا بأحسن منها، فتعجب الخليفة، وأمر ابن أبي دؤاد أن يناظر الشيخ، فقال له ابن أبي دؤاد: ما تقول في القرآن، قال الشيخ: ما أنصفتني، أنا الذي أبدأ بالسؤال، فقال الخليفة: دعه يسأل، فقال الشيخ: ما تقول أنت في القرآن يا ابن أبي دؤاد؟، قال إنني أقول: إن القرآن مخلوق، فقال الشيخ: مقالتك هذه التي حملت الناس والخلفاء عليها، هل قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أم لم يقولوها؟ فقال ابن أبي دؤاد: ما قالوها، فقال له: هل كانوا جاهلين بذلك أم عالمين؟ قال: كانوا جاهلين بها. فقال الشيخ: شيء يجهله رسول الله وأبو بكر وعمر، ويعلمه ابن أبي دؤاد!! فقال: لا، بل كانوا عالمين، فقال الشيخ: هل وسعهم أن يسكتوا أم أنهم حملوا الناس على ما حملتهم عليه، فقال: لا بل سكتوا، فقال الشيخ: شيء وسع الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ما وسعك أنت؟.
فسكت ابن أبي دؤاد، وقال الواثق: اصرفوا الرجل، ولم يأمر بقتله، ثم اختلى الواثق بنفسه وصار يفكر ويردد قول الشيخ، شيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ما وسعك أنت؟، ثم خرج وأمر بإطلاق سراح الشيخ، ورجع عن القول بخلق القرآن، وارتفعت الفتنة عن الأمة بحمد الله.
ثم توفي الواثق، وتولى بعده أحد الخلفاء الصالحين، وهو المتوكل، فأعلن السنة، وكتب إلى العلماء في الآفاق بأن يمنع الناس من الخوض في هذه المسألة، وأصدر إعلاناً عاماً في كافة أنحاء الدولة، نهى فيه عن هذه البدعة، فعم الفرح في كل مكان، وزالت بذلك هذه المحنة، وانتصر الحق على الباطل، ولهذا لما قيل للإمام أحمد أيام المحنة: يا أبا عبد الله، انتصر الباطل على الحق، قال: والله ما انتصر الباطل على الحق.
عباد الله.. إن من أعظم دروس هذه المحنة، ما قام به الإمام أحمد من الثبات على الحق، والصبر على البلاء، لقد انتصر الإمام أحمد، بإيمانه وشجاعته، وانهزمت أمامه حكومة هي من أقوى الحكومات في عصرها، وخرج أحمد بن حنبل من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدرِ من الظلماء، وقد سد ثلمة عظيمة كادت تحدث في الإسلام، وبقيت عقيدة أهل السنة صافية نقية من شوائب المعتزلة وضلالاتهم.
فجزى الله الإمام أحمد عن الأمة خير الجزاء، ورزقنا الله جميعاً علماءَ ودعاةً ومصلحين، الاقتداء به والتأسي بسيرته.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه...
عباد الله: ومضت الأيام، ومات الإمام أحمد، ومِن قَبله مات المأمون والمعتصم والواثق، ومات أيضاً أولئك المجرمون، من الحاشية الخبيثة والبطانة السيئة، أمثالِ أحمدَ بنِ أبي دؤاد وغيرِه، لكن السؤال الأهم، ماذا حفظ لنا التاريخ من سيرة الإمام، وماذا حفظ لنا من سيرة أولئك المجرمين.
لقد أصبح الإمام أحمد علماً من أعلام الإسلام، في عصره وبعد موته حتى يومنا هذا، وكانت خاتمته وجنازته من أيام الإسلام المشهودة، وبقي علمه وفقهه وكتبه حتى يومنا هذا، حتى كأنه حي بين أظهرنا.
وفي المقابل، نقل لنا التاريخ سوء خاتمة من شارك في تلك المحنة، وعقاب الله عز وجل له في الدنيا قبل الآخرة.
أما القاضي المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد، الذي كان يفتي بجواز ضرب العلماء وسجنهم وقتلهم، فإنه سئل بعد قتل الواثق للإمام أحمد بن نصر الخزاعي، فقال: ضربني الله بالفالج (أي الشلل) إن قتله الواثق إلا كافراً، فيشاء الله جل وتعالى بقدرته وعظمته، أن يصاب هذا الرجل في آخر حياته بالفالج، فمكث أربع سنوات قبل موته، طريحاً في فراشه.
نعم.. لقد حبسه الله وعذبه في جلده، كما تسبب هو في حبس الإمام أحمد وتعذيبه، وزاد الله عليه همه وغمه فعزله المتوكل من وظيفته، كما تسبب هو في فصل عشرات ومئات الأشخاص من وظائفهم، بل أمر المتوكل بمصادرة جميع أمواله، ثم أتي بولده محمد فصودرت أمواله ومات قبل أبيه بشهر، ثم مات الأب بعده بهمه وغمه.
وتلك والله سنة الله في خلقه، وإن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، وما ربك بظلام للعبيد.
عباد الله: ومن الناس الذين جعلهم الله عز وجل عبرة لغيرهم في هذه المحنة، الجلادون الذين كانوا يضربون الإمام أحمد بالسياط، فكان منهم رجلان، أبو ذر، وأبو العروق.
أما أبو ذر فكان ممن يضرب الإمام بين يدي المعتصم، فأصيب بالبرص والمرض، وتقطع جسمه، وأهلكه الله بسوء عمله.
وأما أبو العروق، فكان هلاكه أسوأ من صاحبه.
يقول عمران بن موسى: دخلت على أبي العروق لأنظر إليه، فمكث خمسة وأربعين يوماً ينبح كما ينبح الكلب، ابتلاه الله بمرض فصار ينبح كالكلاب.
سبحان الله.. هل نفع الجلادين أن يقول أحدهم: أنا عبد مأمور؟ كلا، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
عباد الله.. ومن الناس الذين كانوا يوقدون الفتنة، الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات وهرثمة.
أما ابن الزيات فقد قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين: أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً.
أما هرثمة فقال: قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً.
هكذا قالوا، فكيف كانت نهاية كل واحد منهم؟.
أما ابن الزيات الوزير، فقد ساءت الأحوال بينه وبين المتوكل فأصدر أمراً بالقبض عليه واعتقاله، فقيد بالحديد وأدخل السجن، وصودرت أمواله وبساتينه، ثم أمر الخليفة أن يُعذب وأن يمنع من الكلام والنوم، ثم وضع بعد ذلك في تنور من خشب، فيه مسامير قائمة في أسفله فأقيم عليها، حتى مات وهو كذلك.
وأما هرثمة الذي قال، قطعني الله إرباً إرباً، فقد هرب من المتوكل، فمر بقبيلةِ خزاعة، قبيلةِ الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، فعرفه رجل من الحي، فصرخ بالناس: يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر، فاجتمع الناس عليه وقطعوه إرباً إرباً. وجزاء سيئة بمثلها.
هكذا -أيها الأحبة- كانت نهاية أولئك القوم الذين أوقدوا الفتنة، وتسببوا في إيذاء المؤمنين، وإن فيها لعبرةً لكل ظالم لعباد الله، ولكل من يصد عن سبيل الله، أو يعادي أولياء الله، (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).. و (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية...