الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
فالحديث إذن لثلة من أبنائنا أعيتهم الحيلة في طلب المال والوظيفة، وقدِّموا المعاريض، فطويت مطالبهم، وذهبت أدراج الرياح معاريضهم اكتفاءً بالموجود، واستغناءً عن المزيد، أو قلة في مؤهلاتهم، وضعفًا في معدلاتهم، فركبهم همُّ الوظيفة، وتأمين المستقبل -كما زعموا-، فندبوا حظهم، ووزعوا مكاييل اللوم على من حولهم، فبعضها على مكاتب التوظيف ..
الحمد لله غمرنا بره وإحسانه، وتتابع فضله وإنعامه، خلقنا ورزقنا، وآوانا وهدانا، ومن كل خير أعطانا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ما ترك أمرًا نحتاجه إلا بينه، ولا أمرًا يحذر منه إلا حذّر، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأتم الناس صيام شهرهم، وبادر الجادون بقضاء ما فاتهم، وسارع الموفقون فأتبعوا شهرهم بصيام ستهم، والله يقول: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [الشرح: 7]، أي: إذا قضيت أمر دين فخذ أمر دين آخر، أو أمر دنيا يعينك على الدين.
وإنَّ ديننا دينُ العمل والعطاء، والبذل والنماء، استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من العجز والكسل، وحث ربنا على الكسب والعمل، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10]، فليس للبطالة والبطالين موقعٌ في مجتمع المسلمين، كيف والسعي في الرزق عبادة لرب العالمين.
"اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، فالحديث إذن لثلة من أبنائنا أعيتهم الحيلة في طلب المال والوظيفة، وقدِّموا المعاريض، فطويت مطالبهم، وذهبت أدراج الرياح معاريضهم اكتفاءً بالموجود، واستغناءً عن المزيد، أو قلة في مؤهلاتهم، وضعفًا في معدلاتهم، فركبهم همُّ الوظيفة، وتأمين المستقبل -كما زعموا-، فندبوا حظهم، ووزعوا مكاييل اللوم على من حولهم، فبعضها على مكاتب التوظيف، وأخرى على لجان الاختيار والترشيح، وثالثة على سوء في التدبير، وضعف في التخطيط.
ومن الإساءة لهؤلاء الأبناء أن نوهمهم أن حلاًّ مفاجئًا سيأتيهم ليقضي على مشكلتهم، ويحقق لهم أحلامَهم فيصبحوا من أصحابِ الوظائفِ المرموقةِ، والرواتبِ الموفورة.
إنَّ مشكلة شحِّ الوظائف، واستغناءَ غالب الجهات عن توظيف الطاقات، وحاملي الشهادات إنّها مشكلة الجميع، والحل لقضيتهم يجب أن يسعى فيه الداني والرفيع، كلٌّ فيما يقدر ويستطيع.
ولكن الحلّ الأولَ يمتلكه الشاب صاحب الشأن قبل غيره، فهو بهمته ونشاطه يطرق للرزق أبوابًا، بعد أن يتخلَّى عن بعض شرطه، ويقنع ببعض طموحه، ويتغاضى عن أحلام نسجها البعدُ عن مسايرةِ الواقعِ، والنزول إلى ميدان العمل.
أيها الشاب: إنِّي ألفت نظرك إلى أمورٍ هي حقائق في شخصيتك، فأرعها سمعك علها أن تغير تقويمك لنفسك، ونظرتك إلى ذاتك.
فأولها: إنَّ عدم تيسر الوظيفة التي تريدها لك، وكذا دنو نسبة التخرج، لا تعني عدم أهليتك، ولا دنوًّا في إدراكك، وضعفًا في عقلك، وأنت على علم أنّ نسبة الامتحانات تحكمها ظروف وتحفها أشياءُ كثيرة؛ أسوأها أنك دخلت الامتحانات بروح المستخفّ، وعقلية الطيش، ولم تحسب للعاقبة حسابها الكاملة حتى اصطدمت بصخرة الواقع، وفوجئت بإغلاق أبواب الجامعات، وتعذر الوظيفة لضعف المعدل.
ثانيًا: إنّ دنو النسبة وإن بالغت فقل: فشل النتيجة؛ هو فشل في دائرة ضيقة في دروس درستها لعلها لم توافق ميولك الشخصي، أو تركيبك الخلقي.
(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ) [الأنعام: 165].
وكيف لا يكون كذلك وأنت تعرف تفوّقك في مجالات عديدة، ربما فاقت مجال الدراسة ومواد الامتحان كمًّا وكيفًا.
ثالثًا: ثم بعد ذلك وقبل ذلك فالشهادة التي حصلت عليها، وأحسست أنك أحبطت فيها هي ميزانٌ بشري، يعتريه ما يعتري أعمال البشر، والأهم من ذلك ما حظك من ميزان الله؟! أترى موازينك ثقيلة عند الله؟! ودرجاتك مرتفعة؟! (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون: 102، 103].
أيها الشاب، يا طالب الكسبِ الحلال، والاستغناءَ عما في أيدي الناس ولم يغب عن ذهنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره فيبيعها، خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". متفق عليه.
إن الله لم يجعلك بأرض هوان: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3].
فالأعمال الميدانية، والأشغال اليدوية -وإن قل راتبها وضعفت رتبتها- لم تكن يومًا عارًا على أحد، فالحدادة والنجارة والزراعة، وكذا السباكة والصناعة، كلها أعمال شريفة، ودخلها مبارك، فإياك -أيها الشاب- أن تزهد فيها لقلة راتبها، أو حياءً من مزاولتها، فالحياء حقيقة من قعود بلا عمل، وقناعة بالبطالة.
ورضي الله عن عمر حين قال: "إني أرى الرجل فيعجبني شكله، فإذا سألت عنه فقيل لي: لا عمل له، سقط من عيني".
ولقد كان بعض آبائنا وأجدادنا يشتغل الواحد منهم بقوت يومه، بل بعضهم بنصف قوته، ناهيك أن تتطلع أنفسهم لراتب يدخره، أو يترفّه بجزء منه، بل في بعض الجهات من البلدان من يتولى إيصال الناس بسيارته الأجرة، وهو ذو الشهادات العلمية في طب أو هندسة مقابل أجرة ينفقها على نفسه وولده، وكان ذلك من مناقبهم، وجميل مآثرهم.
إنّ من الضرورة بمكان أن تكون قناعة تامة عند كل شاب أنه لا عيب على أحد في أي عمل مباح يكف به وجهه، ويحفظ به دينه، ويسلم به من شر الفراغ والبطالة.
وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نبي الله زكريا -عليه السلام- كان نجارًا.
وكان نبي الله داود -عليه السلام- حدَّادًا يعمل الدروع، وروي عن ابن عباس أن إدريس -عليه السلام- كان خياطًا، وفي صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟! قال: "نعم كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة".
وإن أولى متطلبات العمل المهني الخبرة الكافية، وحينما ندعو الشاب للعمل المهني لا نطلب منه أن ينتظر العمل المهني في أرقى صوره، فلا ينتظر جهات أو مؤسسات رسمية أو غيرَ رسمية تأخذُ بيده لتقوم بتدريبه في ظل ظليل، وهواء عليل، بل إن الحاجة أم الاختراع.
فالتحاق الشاب بجهة عمل، وميدان عمال، بين معدات مصنع، أو ماكينات ورشة، وصخب آلات بأجرة أو غير أجرة ليأخذ خبرة عملية، ويكتسب صنعة يدوية، هي أولى مقدمات النجاح يكسر الشاب في ذلك شموخًا زائفًا، وكبرًا تافهًا، ويقف على حقيقة متطلبات الحياة وأنها كفاحٌ وجهادٌ، وبذل وإعداد. فيخرج بعد ذلك بعقل آخر، وتفكير أقدر.
وفقني الله وإياكم لكل خير...
الخطبة الثانية:
الحمد لله جعل المال قوام الحياة، به يصلح المرء دينه ودنياه، وأشهد أن لا إله إلا الله قسَّم الأرزاق، وقدّر الأجل، وأسبغ فضله وأعطى من تحرى وسأل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله معلمًا مرشدًا، ومحذرًا من الضلال والردى.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن نخاطب أحدًا في مشكلة البطالة فإنا نخاطب من أنعم الله عليهم من أصحاب الأموال، وأصحاب الشركات ممن يستطيعون توظيف بعض الشباب، ونقول لهم: هل لكم في نفع إخوانكم، وصدقة عن أنفسكم؟! بتوظيف من تستطيعون توظيفه من هؤلاء الشباب، أو تشجيعهم بمشاركتهم بمال ومنهم العمل أو نحو ذلك، ثم حثهم وترغيبهم في تلك الأعمال، وإنما ترزقون بضعفائكم.
ولقد أثبت طائفة من الشباب قدرتهم على النجاح، ومصارعتهم لأمواج الحياة، ففتح بعضهم محلات بيع الخضار والفواكه، فهم يباشرون شراءها، وتحميلها وتنزيلها ثم تصنيفها وبيعها، فلله درهم.
وإني أهمس في آذان هؤلاء بالصبر على ما تصدَّروا له، فقد لا توافقك الأمور من أولها، وقد تجد مخذلاً من قريب أو بعيد، وأوصيك أيضًا بالصدق في المعاملة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في البيعين إن صدقا وبينا بورك لهما في رزقهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة رزقهما.
فإن قامت هذه الأعمال على المشاركة يشد بعضهم بعضًا، فهم موعودون بتسديد الله وتوفيقه وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه".
وثناؤنا وتشجيعنا موصول لأولئك الشبيبة الذين اختار الواحد منهم أن يتولى إيصال الطلبات، قانعًا براتبها وإن قل، متحليًا بالأمانة وأدب طرق البيوت والمحافظة على حرماتها.
وإننا نرغب أن نجد أيضًا من يصلح جهازك في بيتك ويعالج تمديد الماء، وتسليك الكهرباء وغير ذلك كثير.
فإن عافت نفسك -أيها الشاب- كل أسباب الرزق التي سبقت، ووجدت في نفسك كبرًا عنْ مزاولة بعض الأعمال فإياك أنت تظنّ أن البديل عن الوظيفة هو السهر في الليل والنوم في النهار، أو الالتحاق بطائفة من البطالين اجتمعوا على ما يغضب ربهم، ويقضي على رجولتهم من أصحاب السوابق ومتعاطي المخدرات وشاربي المسكر، فلم تصلح دنياهم، ولم يسلم لهم دينهم.
احذر -يا عبد الله، أيها الشاب- هذه الطائفة، ولو وجدت عندهم أنسًا زائفًا، وفكاهة آثمة، فإن لجهنم دعاة من أجابهم قذفوه!!
واسأل أصحاب السّجون من الأحداث والشباب، كيف كانت ورطتهم الأولى؟! إنها من مثل هذه الطائفة، والتعرف على تلك الشرذمة! زيارة إثر زيارة!! مجاملة إثر مجاملة!! حتى رأى نفسه في جملة المجرمين!! اللهم احفظ شبابنا بحفظك...