الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
لنتذكر -أيها الأحبة- يوم أن نرى أبناءَنا وبناتِنا، يدخل الواحدُ منهم قاعةَ الامتحان وحده، فلا يدخل معه أبوه ولا أخوه، ولا قريبه ولا حبيبه، لا ينفعه في الإجابة مالُه ولا جاهُه ولا صورتُه، لنتذكر تلك القاعةَ المظلمةَ التي نُمتحَن فيها بعد موتنا، حينما يدخل كلُّ واحدٍ منا تلك الحفرة الضيقة الموحشة، ويتركه أهله وأحبابه فيها، وسرعان ما ينفضون أيديهم وثيابهم، ويعودون إلى دنياهم، ويبقى العبد المسكين، وحيداً فريداً، فيضمه القبر، وينزل عليه الملكان فيسألانه ويمتحنانه: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟...
أما بعد: اتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88]، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضرًا وما عمِلتْ مِنْ سُوءٍ تودُّ لوْ أنّ بيْنها وبيْنهُ أمدًا بعِيدًا) [آل عمران:30].
عباد الله: عنوان هذه الخطبة: (الأسئلة المكشوفة).
ونحن نعيش مع أبنائنا وبناتنا فترة الامتحانات الدراسية، أتحدث إليكم اليوم عن أستاذ له قصة عجيبة: قام هذا الأستاذ بتوزيع الأسئلة على تلاميذه قبل الامتحان بزمن طويل، وأخبرهم أن هذه الأسئلة سوف تأتيهم في الاختبار، وأنها سبعة أسئلة، ثلاثة في الفترة الأولى، وأربعة في الفترة الثانية، وأقسم للطلاب بالله أن هذه هي الأسئلة، ولن يحصل فيها تغيير أو تبديل.
ولما كان الأستاذ أخبرهم قبل الاختبار بفترة طويلة انقسم الطلاب إلى قسمين: القسم الأول كذبوه، والقسم الثاني صدقوه، والذين صدقوا انقسموا أيضاً إلى قسمين، قسم حفظوها وطبقوها فنجحوا في الفترة الأولى، وهم ينتظرون الفترة الثانية، وقسم قالوا:، إذا قرب الامتحان حفظناها وذاكرناها، فأدركهم الامتحان وهم على غير استعداد.
هل تعرفون هذا الأستاذ؟ نعم، سأكشف لكم اسم هذا الأستاذ، وسأخبركم بأسئلته السبعة، إني أجزم أنكم كلَّكم تعرفون هذا الأستاذ، إنه الأستاذ الكبير والمعلم الجليل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب -صلى الله عليه وسلم-، هو الذي أنذرنا الامتحان، وأخبرنا بالأسئلة وما أخذ عليها أجراً، كما قال الله تعالى عنه: (قُلْ لا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْرًا) [الأنعام:90، الشورى:23]، ووزّع الأسئلة وما كتم منها شيئاً، كما أمره ربه سبحانه: (يَا أيُّها الرّسُولُ بلِّغْ ما أُنزِل إِليْك مِنْ ربِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة:67].
أما الأسئلة: فقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام-، أن كل إنسان يُسأَل سبعةَ أسئلة، على فترتين: ثلاثةَ أسئلة في القبر، وأربعةَ أسئلة يوم القيامة.
أسئلة القبر ثلاثة، من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ أسئلة يسيرة فوق الأرض، لكنها عسيرة تحت الأرض، فوق الأرض، الجواب سهل، يعرفه الصغير قبل الكبير، أما تحت الأرض، في ظلماتِ القبور ووحشتِها، وضيقِها وهولِ مطلعها، فهناك تطيش العقول، إلا من رحم الله، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27].
لنتذكر -أيها الأحبة- يوم أن نرى أبناءَنا وبناتِنا، يدخل الواحدُ منهم قاعةَ الامتحان وحده، فلا يدخل معه أبوه ولا أخوه، ولا قريبه ولا حبيبه، لا ينفعه في الإجابة مالُه ولا جاهُه ولا صورتُه، لنتذكر تلك القاعةَ المظلمةَ التي نُمتحَن فيها بعد موتنا، حينما يدخل كلُّ واحدٍ منا تلك الحفرة الضيقة الموحشة، ويتركه أهله وأحبابه فيها، وسرعان ما ينفضون أيديهم وثيابهم، ويعودون إلى دنياهم، ويبقى العبد المسكين، وحيداً فريداً، فيضمه القبر، وينزل عليه الملكان فيسألانه ويمتحنانه: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟، أما الكافر أو الفاجر، فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أنْ كذَبَ عبدي، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، قال: فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيقُ عليه قبُره حتى تختلفَ عليه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجه، قبيحُ الثياب، منتنُ الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة.
وأما إن كان العبد مؤمنًا صالحًا، تقيًا مصليًا، فإنه إذا قيل له: من ربك؟ فإنه يقول بلسانه: ربي الله، إي والله، لسان حاله: ربي الله العظيم، الحليم الكريم، الذي أنعم علي بنعمة الإسلام والإيمان والقرآن، وحفظني من الشرك والضلال، ووفقني للخير والهداية، وجنبني الشر والغواية، ولولاه -جل وعلا- لكنت ضالاً شقيًا، ربي الله الذي طالما تلذذت في الدنيا بمناجاته، ربي الله الذي أحببته فأنست بطاعته، ربي الله الذي حبست نفسي عن شهواتها وغيّها ابتغاء مرضاته، ربي الله الذي سجدت له يوم سجد الكفار لأصنامهم وأوثانهم، وجئته اليوم وأنا أفقر ما أكون إليه، راجيًا رحمتَه، طالبًا مغفرتَه.
نعم؛ ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأكْرِمْ بِهِ مِنْ نَبيٍّ! كنت أسمع أمره فأئتمر، وأسمع نهيه فأنزجر، فينادي مناد من السماء، أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من طيبها ورَوحها، ويُفسح له في قبره مَد بصره، ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجه، حسنُ الثياب، طيبُ الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
هكذا تكون الفترة الأولى للامتحان بأسئلتها الثلاثة، حتى يأذن الله لإسرافيل بالنفخ في الصور النفخةَ الأولى، فيَصْعَق أهلُ الأرض والسماء، إلا من شاء الله، حتى إذا تكاملت عدة الأموات، ولم يبق إلا اللهُ جل جلاله، أذن سبحانه لإسرافيل أن ينفخ في الصور النفخةَ الثانية، فإذا هم قيام ينظرون، يقوم الناس لرب العالمين، في يومٍ تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، يومَ يفرّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يومَ يتذكر الإنسان ما سعى، وبرّزت الجحيم لمن يرى، يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، يقف الناس فيه على أقدامهم حفاة عراة غرلاً، انقطعت فيه الأنساب، وانتهت فيه الأحساب، وكلهم أذلة بين يدي ربّ الأرباب، إنه يوم الدين، وما أدراك ما يوم الدين؟! يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله.
يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟! ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي.
فيذهبون إلى نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فكلهم يقول: إنّ ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، حتى ينتهون إلى سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها، فينطلق فيأتي تحت العرش، فيقع ساجدًا لربه، ثم يفتحُ الله عليه، ويلهمُه من محامدِه وحسنِ الثناء عليه، ما لم يفتحه لأحدٍ قبله، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فيرفع رأسه فيقول: يا رب أمتي أمتي، ويشفع في فصل القضاء بين العباد. ثم يحين السؤال في ذلك اليوم العظيم، (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر:92-93].
ومن السؤال أن يُسألَ العبدُ أربعةَ أسئلة، أخبر عنها المعلم الأول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟".
أسئلة عظيمة رهيبة، سوف نُسأل عنها بين يدي الله الواحد القهار، أسئلةٌ مكشوفةٌ واضحةٌ أمام الجميع، ولكنَّ السعيدَ من يوفق للعمل على ضوئها، ليوفق إلى حسن الإجابة عنها.
السؤال الأول: عن العمر، أعمارنا وأوقاتنا، في أي شيء أفنيناها؟، هل استثمرنا هذه الأوقات في ما يكون لنا ذخراً عند ربنا؟ وأين نحن من قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162].
والسؤال الثاني أيضاً فعن العمر، لكنه عن خلاصةِ العمر وثمرتِه، وهي فترةُ الشباب، أين شبابنا من هذا السؤال؟ وهل يستوي شاب نشأ في طاعة الله، وشاب اتبع هواه وأعرض عن ذكر مولاه؟.
وأما السؤال الثالث فهو عن العلم الذي نتعلمه، هل نعمل به في حياتنا، ونؤدي حقه بتعليم غيرنا، أم أننا نستكثر من حجج الله علينا، فلا نعمل بما علمنا.
وأما السؤال الأخير فهم عن المال، وهو مكون من فقرتين: الفقرةُ الأولى: من أين اكتسبت المال؟ أمن الحلال؟ أم من الحرام، من ربا أو رشوة، أو غش أوتدليس، أما الفقرةُ الثانية من السؤال: فيم أنفقت المال؟ هل عصيت الله بمالك؟ أو اشتريت الحرام لك أو لأولادك؟ هل أسرفت في المال وأنفقته في غير محله؟، من الآن اعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى.
عباد الله: كلنا يشاهد آثار الامتحانات على حياتنا، لقد أُعلِنت حالة الطوارئ في البيوت، استعدادًا وتجهيزًا وترتيبًا، وهذا أمر لا لومَ فيه ولا عتب، بل هو مما يُحمَد الناس عليه، ولاسيما إذا صلحت فيه النية لطلب العلم تعلمًا وتعليمًا، لكننا نقول: لا بد أن يذكرنا هذا الاستعداد بالاستعداد للامتحان الأعظم والاختبار الأجل في يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين.
إن المؤمن الصادق يتذكر بامتحان الدنيا، امتحان الآخرة، وشتان ما بين الامتحانين، فإن امتحان الدنيا يمكنك فيه التعويض، في الفصل الثاني، أو في الدور الثاني، أو السنة التي بعدها، ولكن يوم القيامة الخسارة أعظم وأجل، إنها خسارة النفس والأهل، (قل إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:15].
أيها الآباء، وأنتم تعدون أبناءكم للامتحان اتقوا الله فيهم، أعينوهم على امتحاناتهم، ووفروا لهم الأجواء المناسبة، وقبل ذلك علِّموهم أن النجاح الأكبر بقصْر النفس على ما يرضِي الله، علموهم أن السعادة في تقوى الله، واعلموا بارك الله فيكم أنكم عن أبنائكم وبناتكم مسؤولون، فإياك أيها الأب، أن يأتي ابنك يحاجّك بين يدي الله، فيقول: يا رب، سل أبي لِم ضيعني وأهمل تربيتي.
أيها الآباء والأمهات والمربون، إن الأمة بحاجة ماسة إلى جيل قوي، قد ربي تربية إيمانية نبوية، وتسلح بالعلم في شتى مجالاته، قد عرف الغاية من وجوده، واستثمر أوقاته فيما فيه الخير لدينه وبلاده.
وصَلُّوا وسلِّمُوا -رحمكم الله- على خير البرية...
اللهم إنّا نسألك أن تجعلنا من الفائزين الناجين يوم القُدُوم عليك يا أكرم الأكرمين، اللّهمّ إنّا نسألك التوفيق لأبنائنا وبناتنا، اللّهمّ لا تضيِّع تعبهم، ولا تبدِّد جهدهم، اللّهم ذكِّرهم ما نسوا، وعلِّمهم ما جهلوا، ووفِّقهم لخيري الدنيا والآخرة، يا أكرم الأكرمين.