المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
فشملت رحمته صلى الله عليه وسلم العالمين، فكان رحمة لهم على ما أخبر الله تعالى بقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107 وعلى ما وصفه به سبحانه من أنه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) التوبة: من الآية128
الحمد لله؛ كتب على نفسه الرحمة، وأتم على عباده النعمة، فبعث فيهم أرحم الخلق بهم، وأحرصهم عليهم (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].
أحمده سبحانه على نعمه المتواترة، وأشكره على مننه المتكاثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رحم عباده بالدين والشرائع التي تدل على الخير والمصالح، وترفع الشر والمفاسد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ اصطفاه على العالمين، وجعله حجة على الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم؛ فإن الله تعالى قد شرع لكم من الدين أحسنه، وفرض عليكم من الشريعة أكملها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) [المائدة: من الآية3].
ولا يرضى لكم ربكم إلا ما هو خير لكم في الدنيا والآخرة؛ فهو الرحيم بكم الذي وسعت رحمته كل شيء، فاقبلوا عن الله تعالى دينه، وافرحوا بشريعته، واحمدوه إذ هداكم وقد ضلَّ غيرُكم (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) [الحجرات: من الآية17].
أيها الناس: الرحمة صفة من صفات الله عز وجل، اتصف بها فهو الرحمن الرحيم، ومن رحمته بالبشر أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وما ذاك إلا رحمة بهم، وهداية لهم، وقد خاطب سبحانه خاتم رسله فقال (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والشريعة، وما اتصف به من الرأفة والرحمة ما هو إلا من رحمة الله تعالى الذي أرسله بها، وحضه عليها ؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إني لم أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً) رواه مسلم.
ومظاهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم قد حفلت بها سيرته وامتلأت بها شريعته، فرحم الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمرأة والضعيف، بل شملت رحمته الحيوان والجماد، وجاء بشريعة كلها خير ورحمة للعباد، وما من سبيل يوصل إلى رحمة الله تعالى إلا جلَّاه لأمته، وحضهم على سلوكه، وما من طريق تبعدهم عن رحمة الله تعالى إلا زجرهم عنها، وحذرهم منها ؛رحمة بهم، وشفقة عليهم.
وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته أن اختار لهم من الشريعة أيسرها وأكملها، ومن الأحكام أخفها وأحكمها، ووصفته عائشة رضي الله عنها وهي ألصق الناس به فقالت: "ما خُيِّرَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بين أَمْرَيْنِ إلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا ما لم يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كان إِثْمًا كان أَبْعَدَ الناس منه" رواه الشيخان.
وكان عليه الصلاة والسلام يترك العمل وهو يطيقه، ويود العمل به، ما يتركه إلا رحمة بأمته؛ خشية أن يفرض عليهم فلا يطيقه أكثرهم، ومن نظر في سنته عليه الصلاة والسلام تبين له ذلك، وكم من مرة قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بكذا وكذا، أو لولا أن أشق على الناس لأمرتهم بكذا، قالت عائشة رضي الله عنها: "إن كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ الْعَمَلَ وهو يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ الناس فَيُفْرَضَ عليهم" رواه الشيخان.
وفي قيام رمضان صلى بأصحابه رضي الله عنهم ثلاث ليال فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال:(أَمَّا بَعْدُ فإنه لم يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عنها) متفق عليه.
وكان من رحمته بأمته أنه يغضب من المسائل التي قد يترتب عليها تشريع يشق على الناس، وينكر على من يسأله مثل تلك الأسئلة؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال:"خَطَبَنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال أَيُّهَا الناس قد فَرَضَ الله عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا فقال رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حتى قَالَهَا ثَلَاثًا فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قال ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ من كان قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ على أَنْبِيَائِهِمْ فإذا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ وإذا نَهَيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فَدَعُوهُ" رواه مسلم.
وبلغ من شدته في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ في الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا من سَأَلَ عن شَيْءٍ لم يُحَرَّمْ على الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عليهم من أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ" رواه الشيخان.
وما كانت رحمته عليه الصلاة والسلام لأمته خاصة بالدنيا بل شملتهم في الآخرة، فأجَّل دعوته المستجابة لأمته في الآخرة، ولم يعجلها لنفسه في الدنيا، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَا بها في أُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ له وَإِنِّي أُرِيدُ إن شَاءَ الله أَنْ أُؤَخِّرَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يوم الْقِيَامَةِ" رواه الشيخان.
قال النووي رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورأفته بهم، واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخرَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم.
كان عليه الصلاة والسلام شديد الرحمة بالأطفال، حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه :"ما رأيت أَحَدًا كان أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" رواه مسلم.
ولما نازعت ابنه إبراهيم رضي الله عنه روحه "جَعَلَتْ عَيْنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ فقال له عبد الرحمن بن عَوْفٍ رضي الله عنه وَأَنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال يا بن عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فقال صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ولا نَقُولُ إلا ما يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" رواه الشيخان.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قَدِمَ نَاسٌ من الْأَعْرَابِ على رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ فَقَالُوا نعم فَقَالُوا لَكِنَّا والله ما نُقَبِّلُ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْلِكُ إن كان الله نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ" رواه مسلم.
وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال أنه يحملهم ويحنكهم، ويقبلهم ويداعبهم، ويضعهم في حجره، ولا يترفع عن شيء من ذلك، ولربما بال الصبي في حجره عليه الصلاة والسلام فلوث ثيابه، فلم يغضب على من أتى به، ولم يتبرم من ذلك، بل يكتفي بنضح ثوبه بالماء.
وكانت رحمته بالأطفال لا تفارقه حتى وهو في عبادته، ومناجاته لربه عز وجل، فصلى ذات مرة وهو حامل أمامة بنت زينب ابنته "فإذا سَجَدَ وَضَعَهَا وإذا قام حَمَلَهَا" متفق عليه. وروى شداد بن أوس رضي الله عنه فقال: "خَرَجَ عَلَيْنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وهو حَامِلٌ حَسَنًا أو حُسَيْنًا فَتَقَدَّمَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بين ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا قال أبي فَرَفَعْتُ رَأْسِي وإذا الصَّبِيُّ على ظَهْرِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إلى سُجُودِي فلما قَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قال الناس يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بين ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حتى ظَنَنَّا أَنَّهُ قد حَدَثَ أَمْرٌ أو أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ قال كُلُّ ذلك لم يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حتى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ" رواه النسائي.
ومن رحمته بالنساء أنه عليه الصلاة والسلام حرَّج على المسلمين حق الضعيفين: اليتيم والمرأة ، وقال عليه الصلاة والسلام :"إني لَأَدْخُلُ في الصَّلَاةِ وأنا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ في صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ من شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ من بُكَائِهِ" رواه البخاري.
وكان يرحم ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم.
وشملت رحمته عليه الصلاة والسلام أهل الحرب من المشركين فأمر أصحابه رضي الله عنهم في مغازيهم ألَّا يغلوا ولا يغدروا ولا يمثلوا ولا يقتلوا وليدا، وألا يعذبوا الأسرى بل يرفقوا بهم، ويحسنوا إليهم، وأن يحسنوا القتلة إذا قتلوا ومن صور الرحمة التي طبقها الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو عبد الرحمن الحبلي رحمه الله تعالى فقال:"كنا في الْبَحْرِ وَعَلَيْنَا عبد اللَّهِ بن قَيْسٍ الفزاري وَمَعَنَا أبو أَيُّوبَ الأنصاري فَمَرَّ بِصَاحِبِ الْمَقَاسِمِ وقد أَقَامَ السبي فإذا امْرَأَةٌ تبكي فقال ما شَأْنُ هذه قالوا فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا قال فَأَخَذَ بِيَدِ وَلَدِهَا حتى وَضَعَهُ في يَدِهَا فَانْطَلَقَ صَاحِبُ الْمَقَاسِمِ إلى عبد اللَّهِ بن قَيْسٍ فَأَخْبَرَهُ فَأَرْسَلَ إلى أبي أَيُّوبَ فقال ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْتَ قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول من فَرَّقَ بين وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ الله بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَحِبَّةِ يوم الْقِيَامَةِ" رواه أحمد وحسنه الترمذي وصححه الحاكم.
وتعدت رحمته صلى الله عليه وسلم بني آدم إلى الحيوان فنهى عن تصبير البهائم، وهو أن تحبس وتتخذ هدفا يرمى إليه حتى تموت؛ ففيه تعذيب لها، وقال له رجل: "يا رَسُولَ اللَّهِ إني لا أذبح الشَّاةَ وأنا أَرْحَمُهَا أو قال إني لا أرحم الشَّاةَ إن أَذْبَحَهَا فقال وَالشَّاةُ إن رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ الله" [رواه أحمد].
ومرَّ عليه الصلاة والسلام بِحُمَّرةٍ قد أخذوا ولدها وهي تُفَرِّشُ بجناحيها في الأرض وَجْدَا عليه فقال عليه الصلاة والسلام "من فَجَعَ هذه بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا" ومَرَّ عليه الصلاة والسلام بِبَعِيرٍ قد لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فقال: "اتَّقُوا اللَّهَ في هذه الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً" وقال عليه الصلاة والسلام "إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ".
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد أنه كان يقوم يوم الجمعة إلى نخلة، فقال أحد الأنصار: "يا رَسُولَ اللَّهِ ألا نَجْعَلُ لك مِنْبَرًا قال إن شِئْتُمْ فَجَعَلُوا له مِنْبَرًا فلما كان يوم الْجُمُعَةِ دُفِعَ إلى الْمِنْبَرِ فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ ثُمَّ نَزَلَ النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الذي يُسَكَّنُ قال كانت تَبْكِي على ما كانت تَسْمَعُ من الذِّكْرِ عِنْدَهَا" وفي رواية قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :"كان الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا على جُذُوعٍ من نَخْلٍ فَكَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا خَطَبَ يَقُومُ إلى جِذْعٍ منها فلما صُنِعَ له الْمِنْبَرُ وكان عليه فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ عليها فَسَكَنَتْ" رواه البخاري.
وما نزول النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر، وإتيانه الجذع، وضمه ووضع يديه عليه حتى سكن إلا رحمة منه صلى الله عليه وسلم له.
فشملت رحمته صلى الله عليه وسلم العالمين، فكان رحمة لهم على ما أخبر الله تعالى بقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] وعلى ما وصفه به سبحانه من أنه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: من الآية128] فجزاه الله تعالى عن أمته خير ما جزى نبيا عن أمته، ونسأله سبحانه أن يؤتيه الوسيلة والفضيلة، والدرجة العالية الرفيعة، وأن يبعثه مقاما محمودا الذي وعده، كما نسأله أن يجعلنا من أحبابه وأنصاره، وأن يحشرنا في زمرته، ويدخلنا الجنة معه، إنه سميع مجيب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على ما أنعم وأولى ، ونشكره على ما هدى وأسدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، العبد المصطفى، والنبي المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى.
أما بعد :
فاتقوا الله -أيها المؤمنون- وأطيعوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أيها الناس: مع كون النبي صلى الله عليه وسلم رؤوفا رحيما، وقد جعله الله تعالى رحمة للعالمين؛ فإنه كان يضع الرحمة في موضعها اللائق بها؛ لئلا تتحول إلى ضعف وعجز، أو يفهم من التخلق بها ذلك، فلقد قاتل عليه الصلاة والسلام من استحق القتال من اليهود والمشركين، وضرب بسيفه في سبيل الله تعالى، وقتل أبي بن خلف بيده، وأمر بقتل جماعة من المشركين ومن اليهود، وأقام الحدود على من انتهكها؛ فرجم ماعزا والغامدية لما زنيا، وقطع السارق، وقتل المحاربين المرتدين بعد أن قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أن الحدود إذا بلغت الإمام أو نائبه وجب إقامتها فقال عليه الصلاة والسلام : "تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فما بَلَغَنِي من حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ" رواه أبو داود ومعنى الحديث: تجاوزوا عنها، ولا ترفعوها إليَّ فإني متى علمتها أقمتها.
وروى صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قال: "كنت نَائِمًا في الْمَسْجِدِ على خَمِيصَةٌ لي ثَمَنُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي فَأُخِذَ الرَّجُلُ فأتى بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ قال فَأَتَيْتُهُ فقلت أنقطعه من أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا أنا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا قال: فَهَلَّا كان هذا قبل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ" رواه أبو داود.
وجاء في القرآن في شأن جلد الزانيين (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) [النور: من الآية2].
فعلم بهذه النصوص الكثيرة أن الجهاد في سبيل الله تعالى، وما ينتج عنه من قتل المشركين ليس مما ينافي الرحمة، وأن إقامة الحدود لا تنافي الرحمة كذلك، بل هي من الرحمة لعموم البشر، وأما المناهج الوضعية الإلحادية التي سادت في هذا العصر فما هي إلا عقاب للضحايا والأبرياء، وعون للمجرمين على إجرامهم، ومكافأة للمفسدين على إفسادهم، وهي من أعظم أسباب الخوف والجوع، كما أن إقامة الحدود من أعظم أسباب الأمن والرخاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حَدٌّ يُعْمَلُ في الأرض خَيْرٌ لِأَهْلِ الأرض من أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" وفي رواية "إِقَامَةُ حَدٍّ بِأَرْضٍ خَيْرٌ لِأَهْلِهَا من مَطَرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" رواه ابن ماجه.
ولا يجوز لمؤمن بالله تعالى أن يعارض شريعة الله تعالى، أو يدعو لتعطيل حدوده بدعوى أن الزمن تغير، أو أن ذلك مما يعارض حقوق الإنسان التي تواضع البشر عليها في هذا العصر، فكل هذه الدعاوى إثم وضلال توصل أصحابها إلى الكفر بالله تعالى؛ إذ فيها منازعة لله تعالى في الحكم والتشريع، والله تعالى له الخلق والأمر، وفيها مشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما قضى وحكم (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء:115].
وكيف يزعم زاعم أن الحدود الشرعية فيها قسوة ووحشية لا تتناسب مع هذا العصر، وقد شرعها أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وقضى بها من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: من الآية16].
ألا فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، واقبلوا عن الله تعالى شريعته، ولا تلتفتوا لأقوال الكافرين والمنافقين فيها، فهي الخير والصلاح للعباد في الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا |