الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | مراد كرامة سعيد باخريصة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك أن مكة لا تصلح لإقامة دين الله، وتطبيق شريعة الله، وإظهار أحكام الله، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختار مكانًا آخر يصلح لقيام الدولة الإسلامية غير مكة التي كانت تعج بالأوثان، وتحاصرها الجبال من كل مكان، ولا يمكن أبدًا أن تكون أرضًا خصبة للانطلاقة؛ لأن الإسلام دين واقعي وعملي يلامس جميع مناحي الحياة، وليس هو مجرد طقوس تعبدية أو شعائر روحانية، فلابد له ..
هذه الجمعة هي أول جمعة في السنة الهجرية الجديدة، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وألف، ومعنى هذا أنه قد مضى على هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه من مكة إلى المدينة ثلاثة وثلاثون وأربعمائة وألف عام. فلماذا هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة؟! ولِمَ ترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكة أحب البقاع إليه وهاجر منها إلى المدينة التي كانت مليئة بالأوباء والأمراض والحمى؟! وكان ماؤها آجنًا ليس بعذب؟! حتى إن عائشة -رضي الله عنها- قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنهم -أي الصحابة- ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى". فلماذا كانت الهجرة؟! ولم هاجر المسلمون وتركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم وأوطانهم؟!
إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أدرك أن مكة لا تصلح لإقامة دين الله، وتطبيق شريعة الله، وإظهار أحكام الله، فأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يختار مكانًا آخر يصلح لقيام الدولة الإسلامية غير مكة التي كانت تعج بالأوثان، وتحاصرها الجبال من كل مكان، ولا يمكن أبدًا أن تكون أرضًا خصبة للانطلاقة؛ لأن الإسلام دين واقعي وعملي يلامس جميع مناحي الحياة، وليس هو مجرد طقوس تعبدية أو شعائر روحانية، فلا بد له من أرض يطبق عليها أحكامه، ويمارس فيها سلطانه، ويقيم عليها دولته؛ ومن هنا جاء الأمر بالهجرة، وجاء التفكير فيها.
فلو كان الإسلام -كما يصوره البعض- مجرد دين تعبدي ينظم علاقة العبد بربه، وأن حدوده لا تتجاوز المسجد فقط؛ فلماذا الهجرة إذًا؟! ولماذا هاجر المسلمون وقد كانوا يصلون في بيوتهم في مكة؟! بل كان بعضهم يصلي علنًا أمام الكعبة!
إن الهجرة جاءت لتحقيق مصلحة عليا هي إقامة دين الله؛ لتكون الكلمة العليا هي كلمة الله، ولكي تحيا الأوطان بنور الله، ولترى البشرية في واقعها حكم الله.
إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان بإمكانه أن يرضى بحل توافقي أو يجلس مع الكفار على طاولة المفاوضات، أو يرضى بأنصاف الحلول في تلك المرحلة الحرجة مرحلة الاستضعاف في مكة، خاصة وأن الكفار قد عرضوا عليه هذا الأمر وقالوا له: يا محمد: اعبد ربنا سنة ونعبد ربك سنة. وسمحوا للمسلمين بممارسة عبادتهم شريطة أن لا يجاهروا بها، وأن يدخلوا بيوتهم فيفعلوا فيها ما يشاؤون من العبادات.
ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفض هذا كله؛ لأن الهدف ليس هو ممارسة الصلاة والصيام فقط، وإنما الهدف هو إقامة الشرع وتحقيق العدل وبسط نفوذ الحق من خلال مجتمع رشيد تحكمه دولة عادلة يمارس الكل فيها حرية العقيدة بكل أمن واطمئنان.
إن المرحلة المكية اهتمت بغرس العقيدة وبناء الإيمان وإقامة دين الله في النفوس والقلوب، وتربية الجيل الذي ستقوم على أكتافه دولة الإسلام، وأما المرحلة المدنية فكانت مرحلة التطبيق على الأرض والواقع، ومعنى هذا أنه لابد للدولة الإسلامية الراشدة من تربية جيل راشد يفهم حقيقة الدين ويطبقه في نفسه، ثم ينطلق للتغيير الجذري والشمولي في مجتمعه وواقعه.
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدرك خطورة هذه المرحلة وتكاليفها الباهظة وصعوبتها البالغة، ويعلم أن هذا العهد المدني هو عهد جديد من التضحيات الجسام، وفصل آخر من فصول المعاناة التي ستكون أشد وأكبر من المعاناة التي لاقاها المسلمون في مكة.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يعرف جيدًا أن هذه الدولة لن تكون في البداية دولة قوية متينة وإنما ستكون دولة ضعيفة بلغت فيها القلوب الحناجر، وظن الناس فيها بربهم الظنون! وكان جيشها ضعيفًا؛ حتى إن الله -سبحانه وتعالى- وصفه بالذلة فقال: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران:123]، أي: عددكم قليل، وعدتكم قليلة.
بل إن من الناس من لم يتحمل هذه المرحلة الجديدة في المدينة وخاصة في بدايتها في المراحل الأولى من تأسيسها؛ حيث كانوا في خوف دائم، وترقب مستمر، وحالة الاستنفار والحذر هي المسيطرة، وكانوا يتوقعون في كل لحظة هجومًا أو مداهمة من العدو، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يجد للنوم طعمًا بسبب طول الترقب حينما قدم إلى المدينة، فتمنى -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي إليه أحد ليقوم بحراسته لينام، فجاءه سعد بن أبي وقاص، تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح البخاري: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- سهِرًا، فلما قدم المدينة قال: ليت رجلاً يحرسني الليلة! قالت: إذ سمعنا صوت سلاح، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن هذا؟!"، فقال: أنا سعد بن أبي وقاص، جئت لأحرسك. قالت: فنام النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى سمعنا غطيطه؛ وما هذا إلا لشدة الخوف والحذر والاحتياط من العدو.
وأما عن الحالة الاقتصادية التي كان المسلمون يعيشونها في ظل الدولة الإسلامية الناشئة فقد كانت حياة فقر قاتل، وجوع هائل، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يخرون صرعى من ألم الجوع وقسوته، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "ولقد رأيتني وإني لأخر مغشيًا عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون، وما بي جنون، ما بي إلا الجوع". رواه البخاري.
ويقول -رضي الله عنه- كما في البخاري أيضًا: "كان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إِنْ كان ليُخرج إلينا العُكَّة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها".
وقد قدم جعفر للمدينة في السنة السابعة للهجرة، وهذا يعني أن حالة الفقر القاسية كانت تضرب الدولة الإسلامية بعد سبع سنوات من قيامها.
وأما أهل الصُّفَّة وفقراء الصحابة الذين كانوا يأوون إلى المسجد ولم يكن لهم مال ولا أهل ولا أحد فإن حالهم وفقرهم لا يعلم به إلا خالقهم!!
ولم يكن حال لباسهم وما يستر عوراتهم بأحسن من حال طعامهم! فقد جاء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- سائلٌ يسأله عن الصلاة في ثوب واحد، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أوَلِكُلِّكم ثوبان؟!". رواه مسلم.
وكان عمرو بن سلمة يصلي بقومه فتنكشف عورته! ولم تكن له غير جبة قصيرة، فلما اشْتُرِيَت له جبة سابغة تستره في الصلاة قال: "فما فرحت بشيء فرحي بها!". فهل بعد هذا الفقر من فقر؟! وهل بعد هذا الحال من حال؟! فإن المرء قد يصبر على ألم الجوع؛ لكن، أنْ لا يجد ما يستر به عورته فهذا حالٌ مؤلم وقاسٍ.
ومما يدمع العين ويحزن القلب أن حالة الفقر هذه لم تستثن خير الخلق وأكرمهم -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه وهو رابط على بطنه عصابة يعصب بطنه بها من الجوع.
ورأى أبو طلحة -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يتقلب ظهرًا لبطن في المسجد من الجوع؛ بل كان -صلى الله عليه وسلم- يبيت الليالي المتتابعة طاويًا، وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم الشعير.
ومما يدمي القلب ولا طاقة للنفس بتحمله أن تعرف أن نبيك -صلى الله عليه وسلم- أرهقه الجوع فاضطر إلى أن يرهن درعه ليهودي لكي يأخذ منه شعيرًا يصنع به طعامًا لأهله، ومات -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهون عند اليهودي؛ ما يعني أن حالة الفقر كانت هي السائدة في حياتهم منذ تأسيس الدولة وحتى وفاته -صلى الله عليه وسلم-.
ومع هذا كله ما سمعنا أحدًا من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- يطعن في دولة الإسلام، أو يقول: كيف يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إقامة دولة وهو لا يملك أبسط مقوماتها؛ بل لا يملك الطعام والشراب الذي يطعم به نفسه فضلاً عن أصحابه؟!
وأما حال المسلمين في المدينة من الناحية العسكرية فكان عجبًا عجابًا؛ فقد كان النفر من الصحابة يتعاقبون البعير الواحد، وكان التمويل الحربي يقوم على الجهد الذاتي والصدقات الشخصية اليسيرة، وخرج المسلمون في كل المعارك بعدد قليل جدًا من العتاد والعدة، ومع ذلك قامت دولة الإسلام بفضل الله، ثم بتماسك المسلمين وقوة عقيدتهم ووحدة صفهم وثباتهم، وعدم استسلامهم للواقع المر حولهم، فقد كان المنافقون في أوساطهم يكيدون لهم، وكان اليهود موجودين إلى جانبهم في نفس المدينة يحاولون إجهاض دولتهم، وكان المشركون في مكة يعدون لإشعال الحروب لإبادتهم والقضاء عليهم.
فمرت الدولة بمحن شديدة، وابتلاءات صعبة، وأوضاع قاسية، وهزات متتالية، حتى اشتد عودها وقوي بنيانها، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:117]، ويقول: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:8-9].
ويقول -سبحانه وتعالى- في مدح الصحابة والثناء عليهم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 74]، (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التوبة:20-22].
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن المخاض العسير، والظروف القاسية، والأحوال الصعبة التي مرت بها الدولة الإسلامية في مراحلها الأولى هي أشبه ما تكون بالظروف القاسية التي تمر بها الأمة الإسلامية وطليعتها المؤمنة التي لا يضرها قلة السالكين وكثرة الهالكين، فالهجمة شرسة، وملل الكفر على اختلاف مشاربها ومصالحها قد اتفقت على الأمة الإسلامية وتكالبت عليها، ودماء المسلمين تسيل رخيصة في كل مكان.
ولكن؛ هذا هو ثمن النصر، والثمن المقدم لإعادة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة التي بشر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته فقال: "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الملاحم الكبرى والمعارك الفاصلة التي تقع بين المسلمين والروم في آخر الزمان تكون في الشام، وأن عقر دار المؤمنين في آخر الزمان بالشام، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ألا إن عقر دار المؤمنين الشام، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". رواه أحمد، وصحح إسناده الألباني في الصحيحة.
إن الشام مهد الإسلام وأرض الخلافة القادمة قد بدأت اليوم تموج وتثور، فسوريا مشتعلة، وفلسطين ساخنة، والأردن ولبنان على وشك الانفجار، واليهود قد امتلأت أجوافهم رعبًا وهم يرون الدول الحدودية من حولهم تغلي وتموج، فارتاع اليهود لقرب الوعود، وعلموا أن الملاحم على الأبواب، فأخذوا يتصرفون بهذه التصرفات الطائشة والضربات الجنونية التي يظنون أنها ستحميهم، ولم يعلموا أنها بداية نهايتهم بإذن الله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.