تحفة المعلم: هذه الرسالة من الأهمية بمكانٍ؛ حيث ألَّفها الشيخ - حفظه الله - من باب النصيحة لله تعالى، وجَّهها إلى المُعلِّمين لكي يكون لتعليمهم للطلبة ثمرة مرجُوَّة، في سلوكهم، ولينشأ النشء على حب الله وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - والإقبال على الطاعات والابتعاد عن المعاصي.
التفاصيل
تحفة المعلم تقديـم تحفة المعلمعبد الرحمن اليحيى التركيبسم الله الرحمن الرحيم تقديـمإلى من يطَّلع أو يقرأ هذه الرسالة المرفقة، والتي هي بعنوان «تحفة المعلم»، وقد أرسل بها إليَّ أخي في الله تعالى الشيخ/ عبد الرحمن اليحيى وفقه الله تعالى وإذا بها جديرة بالاهتمام والنشر والقراءة والتطبيق العملي الصادق الخالص المثمر، فإلى الجميع أحمد الله تعالى وأُصلي وأُسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.وأشكر الله تعالى أن زادنا علمًا بهذه الرسالة، فإن فيها نقاطًا مهمة لكل مدرس ومدرسة، ولكل مؤمن ومؤمنة عامة، ولا شك أن على المدرسين والمدرسات – حفظهم الله تعالى – مسؤولية عظيمة، وأنهم قد تحملوا أمانة كبيرة، ولعل الله تعالى أن يزيدهم بهذه الرسالة علمًا وبصيرة وعملاً جادًا على أداء المسؤولية فـ «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».* فهل تساءلت أخي المدرس مع نفسك وحاسبتها: كم سيتخرج هذا العام – الذي أخذ في التصرم والرحيل – على يديك من طلبة علم يُرى أثر تعليمك في سلوكهم، وأخلاقهم، وكلامهم، وأبصارهم، وأسماعهم؟ بل وفي صلاتهم، وخشوعهم، وإعراضهم عن اللغو والمنكرات، وسعيهم إلى المساجد، وحِلق الذكر، والطاعات؟ فإن الطالب نسخة من مدرسه وهو على شاكلته، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سنَّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئًا».* لقد كان الدارسون من سلفنا يبرك الواحد منهم شهرًا أو شهرين أو عامًا واحدًا أو عامين عند مدرسه وشيخه فإذا به قدوة حسنة بمجرد أن تنظر إليه، فكيف إذا وَعَظ أو تكلم؟.. وتتبع تدريس السلف هل تجد واحدًا فقط فاشلاً في علمه، وعمله تخرج؟ فالله الله في الإخلاص والصدق وتربية النشء على ذلك وربط قلوبهم بالله تعالى الذي علمك وعلمهم.* وأشكره سبحانه على نعمة السمع الذي تسمع به العلم، والعقل والقلب الذي تعقل به وتفقه به العلم، واللسان الذي أنطقه الله تعالى من قطعة لحم بالحكمة والعلم، قل للواحد منهم: عينك مَن يحركها هذه الحركة الدائبة؟ قلبك الذي يدق في الدقيقة الواحدة نحوًا من سبعين دقة ففي الساعة كم؟ وفي اليوم الواحد كم؟ بل كم لله تعالى من نعم عليك؟ إذًا فلا تنسَ رقابة الله تعالى الذي حرك قلبك وقلَّب طَرْفك ﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [فاطر: 38] ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 18، 19].اسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته لنا أجمعين التوفيق وأداء الأمانة وأن يجنِّبنا سبحانه طريق المغضوب عليهم الذين تعلموا ولكن لم يعملوا، والضالين الذي جهلوا ولم يتعلموا – آمين.* وعليك أخي في الله أن تُذَكِّر نفسك وإخوانك وطلبتك ومن يقتدي ويتأثر بسلوكك أن القدوة المطلقة هي بمن أرسله الله للناس معلمًا – صلوات الله وسلامه عليه. فإذا صدر منك خطأ أو سلوك مشين فقل: لا تقتدوا بي في ذلك. واستغفر الله من ذلك لئلا تقع في حال من يُقتدى بهم في السوء، وأخبرهم أن الإسلام بريء مما أُلصق به من القدوات السيئة والأعمال المشينة، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].* وتَذَكَّر وذَكِّر، بل انشر هذه الذكرى، فالدين النصيحة، الدين النصيحة، ومن لم يُمسِ ويصبح كذلك وإلا فقد أمسى وأصبح غاشًا، كيف وقد بايع جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، بل بايعه على أصرح من ذلك بأوضح عبارة بأن ينصح لكل مسلم، والنصيحة لكل مسلم تستوجب النصح لله تعالى، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده خصوصًا وعمومًا، سرًا وجهارًا، ليلاً ونهارًا.* تذكر حال الداعية والمعلم الأول في سورة نوح وقد دعا وعلم 950 عامًا ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [نوح: 5-10] ولم يزل على ذلك حتى وقت نزول العذاب بهم، بل قال في آخر لحظة: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود: 42]، ولقد ذُكر عنه - عليه السلام - أنه كان يُحمَل من قِبلهم ومن عصابتهم فيلقى في قعر بيت خرب يظنون أنه قد مات، فيخرج عليهم في اليوم الثاني مباشرة يعلمهم ويدعوهم إلى الله تعالى.* وإبراهيم - عليه السلام - يُرمى في النار فيقول الله تعالى لها: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا﴾ [الأنبياء: 69].* ورحم الله محمد بن الحسن الشيباني حيث ذُكر عنه أنه كان دؤوبًا في العلم، فإذا فتر من فن انتقل إلى فن آخر من العلم النافع، وكان يزيلُ النوم بالماء كلما فتر، ويقول: «إن النوم من الحرارة»، فكان يطرده عنه بالماء.* وفي الختام جزى الله من أوصل هذه الرسالة إليَّ ومن أرسلها، وألَّفها، ونشرها، ووزعها خيرًا – آمين. والحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم وعلى كل من بَلَغَته من المسلمين ورحمة الله وبركاته.من أخيكم في الله جل جلالهأحمد بن محمد بن عبد الله الحواشي* * * *تحفة المعلمالحمد لله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على النذير البشير، أما بعد:* فإن الباعث على كتابة هذه الرسالة هو النصيحة لله، التي هي من ألزم اللوازم، ومن باب قوله عليه الصلاة والسلام: «فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» [رواه أبو داود من حديث زيد - رضي الله عنه -]، وقد كتبت لك هذه الرسالة يا أخي وأرجو من الله أن تلقى عندك قبولاً واستحسانًا، وأن ينفعك الله بها حتى يثمر تعليمك وعملك، ويحصل بك الانتفاع.* ولمَّا كانت الأيام مراقيَ إلى الآداب، ودرجات إلى العلم الأكبر – كتبت لك هذه الرسالة، وقد انتخبت هذه الفضائل والنصائح من أفواه الرجال، وبطون صحائف العلماء، وما يسنح به الخاطر من الله تعالى، فخذها بقوة، وخذ نفسك بالعزائم ولا تترخص، فإن عجزت فسَل الموفِّق فإنه يؤيد بالعزائم.* فإليك هذه الآداب الشرعية والمنح المرعية:1- من الآداب المرعية التي ينبغي للمعلم مراعاتها: القدوة الحسنة وضرورة توافرها في المعلم، فإن صلاحه صلاحٌ لطلاب، كما أن عيوبهم معقودة بعيوبه، فالحسن عندهم ما فعل، والقبح عندهم ما ترك، وقد ضرب المعلم الأول عليه الصلاة والسلام بحسن القدوة الحسنة المثلَ الأعلى، فله فيها القدح المعلى حتى كان العربي القح يراه فيقول: «والله ما هذا بوجه كاذب»، فيشهد له بالصدق بمجرد رؤيته، فكيف بمن شاهد أخلاقه وحسن تعليمه، وقد أتاه الله ذلك كله وأثنى عليه في كتابه فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وهو مع ذلك رجل أمي لم يمارس التعليم، ولم يطالع الكتب، فسبحان من ألهمه وعلَّمه ما لم يكن يعلم.* ولمَّا كانت القدوة الحسنة أهم خصلة وسِمة يتحلى بها المعلم؛ لأنها ثمرة العلم والعمل، كان السلف يقصدون من العلماء من يتحلى بهذه الصفة، يقول أحد السلف: «كان يجتمع في مجلس الإمام أحمد زُهَاء خمسة الآلاف، وكان أقل من خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت».* ويقول أبو بكر المطوعي: «كنت أختلف إلى الإمام أحمد فما كنت أكتب حديثًا واحدًا، إنما أنظر إلى هديه وأخلاقه وأدبه».* ومن هنا كانت القدوة الحسنة أعظم خصلة ومنحة، فإن لم ينفع لفظ نفع سَمْت وهدي، فيدعو الناس إلى عمله بالصمت والوقار؛ ولهذا تعمل هذه الخصلة في القلوب ما لا تعمله آلاف الخطب والمواعظ. وهذا الكلام موجه لمن أراد أن يخدم هذه الأمة المباركة، أمَّا من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يفكر في خدمة هذا الدين فلا على مثله يُلوى ولا يحزن، ولن يلتفت إلى هذا الكلام أصلاً، ولكن كما قال الشاعر:علومًا لو دراها ما قلاها ولكن الرضا بالجهل سهلُ * ومَنْ نظر إلى حال الصحابة فلن يتردد في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي ورسول من عند الله، وقد ذكر العلماء أن التلميذ صورة من شيخه، فإذا كان الشيخ صالحًا فالتلميذ صورة منه، وإذا كان فاسقًا كانوا فاسقين.2- ومن الآداب المرعية التي ينبغي للمعلم مراعاتها: عدم تنفير الطلاب من العلم وتكريههم فيه؛ فكم من معلم بسوء تربيته وتعليمه وعلاجه للأخطاء جعل بعض الطلبة يفشلون في حياتهم ودراستهم، فأصبحوا بعد الهرب من المدرسة مصدر شر وبلاء على المجتمع.* فهناك من المعلمين من تجد سَوْطه قبل تعليمه وتوجيهه، وتهديده قبل ترغيبه، وسبه ولعنه قبل توجيهه، وإذا كان هذا حال المعلم وسلوكه فقل لي بربك: كيف يعطي الشيء من هو فاقده؟ وكيف يوجه من يحتاج إلى توجيه؟ إن التعليم ليس فقط تلقين المعلومات! فلو كان الأمر كذلك لتركنا كل فصيح يصيح؛ ولكنه توجيه وتعليم وتربية. هل تعرف معنى التربية؟ إن من معانيها «التغير والتحسين والتأديب» ومن هنا كاد المعلم أن يكون رسولاً.* ولمَّا كان الأمر بهذه المثابة، فينبغي أن يكون المعلم على جانب كبير من الحرص والشفقة والرحمة، فإن الطلاب بحاجة ماسة إلى معلم لا يضيق صدره بجهلهم وضعفهم ونقضهم، ولو لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا ورءوفًا بالمؤمنين ما تألَّفت القلوب حوله، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159].* فالطلاب بحاجة ماسة إلى كَنَف رحيم، وإلى رعاية وبشاشة وسماحة، وهذه هي مهمة الرسل؛ ولذا كانت مهمة المعلم صعبة، فليس الأمر فقط أن يلقي المعلم درسه ويتعهد حل الواجبات دون أن يوجه وينصح ويحاول في الإصلاح ما استطاع مع كثرة الدعاء لهم بالصلاح والتوفيق والاستغفار لهم والعفو عنهم، فالمعلم الناصح مَنْ حاول مراعاة هذه الآية التي هي من كنوز القرآن، وَوُفِّقَ إلى استخراج ما فيها من كنوز، وأنفق منها – فغنم وربح في تعليمه، وقد أشرنا إلى هذه الآية وخصوصًا قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾. فكن رؤوفًا رحيمًا بمن تحت يدك من الطلاب، ساعيًا في الإصلاح ما استطعت، ولك أن تتأمل الفرق بين من هو متصف بهذه الآية وبين من يعلو صوته دائمًا بالسبِّ والشتم والدعاء على الطلاب وتَنقُصهم وذمهم في كل مجلس.أخي المعلم:* لابد أن تغير من طريقة تعليمك، وتدعو الله أن يوفقك إلى الصلاح، وأن يمدك بصبر، وقل: ربنا أفرغ علينا صبرًا، فإن الأمر يحتاج إلى صبر، وقد أمر الله رسوله بالصبر فقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115]، ولهذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسأل الله العزيمة على الرشد.* واعلم أن الله إن علم منك الحرص على الخير يسَّره لك، فأكثِر من الدعاء والاستغفار لك ولطلابك حتى يثمر تعليمك وعلمك، فإن نازعتك نفسك وقالت لك: «من يفعل مثل هذا؟» فأقول لك بأن العلاَّمة الشهيد الشيخ أحمد الصغير رحمه الله المتوفى بنجران، كان يدرس في المعهد العلمي بصامطة، فيُذكر بأنه دخل يومًا على الطلاب ففوجئ بأن الطلاب لم يحلوا الواجب، فاسترجع وتوجه إلى القبلة وصلى ركعتين ولعله كان يدعو لهم. وقد ذكر هذه القصة أحد تلامذته.* ولا تنسَ قوله تعالى: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا﴾ [الأنفال: 70]، فلا ينظر الله إلى قلبك إلا وهو يفيض بالخير ويحب الخير للناس، حتى أنه لينبغي للمعلم أن يدعو لأخيه المعلم والواعظ إذا رآه يتكلم وحصل به النفع، فيدعو له بالتوفيق والتسديد.* وقد حقق هذا المعنى بعض الدعاة، فتراهم يجوبون البلدان بموعظة واحدة، وإذا تكلم الواحد منهم رفعوا له أيديهم بالدعاء وحُسن التوفيق، فحصل به النفع. وهكذا ينبغي للمعلم والداعية إذا رأى أخاه يتكلم أن يبسط يديه بالدعاء له بالتوفيق والتسديد؛ لأنه يمثل الدعوة، وإياك أن تكون ممن يحب لأخيه أن يتعثر، فإنها علامة على عدم الصدق، وحب التصدر.3- ومن الآداب المرعية والتي ينبغي للمعلم مراعاتها في تعليمه: قوله عليه الصلاة والسلام ووصيته لأبي موسى ومعاذ ابن جبل لما أرسلهما إلى قوم كافرين من أهل الكتاب: «يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا» [رواه البخاري رحمه الله تعالى].* يقول الإمام ابن حجر رحمه الله: «يجب أن يكون تعليم المعلم بالتدرج؛ لأن الشيء إذا كان ابتداؤه سهلاً حُبِّب إلى من يدخل فيه وتَلَقَّاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبًا إلى ازدياد، بخلاف ضده».* فتأمل هذا الحديث والكلام عليه، ثم تأمل حال من يدخل على الطلاب في بداية العام أو الدرس، فيتهدد الطلاب بصعوبة الدرس، أو بصعوبة المادة وقلة الناجحين عنده، وصعوبة الأسئلة التي يضعها، فيكرِّههم في العلم من أول يوم، وتقل رغبتهم في العلم، وقد يُحَمِّلهم من أول يوم واجبات منزلية كثيرة مع أن التدرج أمر مطلوب.أخي المعلم:* إن التيسير والتبشير أمر مطلوب عند المعلم، حتى تُرَغِّب الطلاب في العلم والمواصلة فيه، فهذه القلوب تتنافر تنافر الوحش، فتألَّفْها بالتبشير والتيسير والتوسط في التعليم؛ لتحسن طاعتها ويدوم نشاطها، وكن وسطًا بين الترغيب والترهيب، والشدة واللين، وخلط الحلوة مع المرة، وهذا من منهج الخليفة الراشد، فقد كان مع ما فيه من الشدة على نفسه يضع منهجًا تربويًا لإخوانه، فيخلط لهم الحلو مع المر يقول: «والله إني لأريد أن أخرج لهم المرَّة من الحق، فأخاف أن ينفروا، فاصبروا حتى تجيء الحلوة من الدنيا، فأخرجها معها، فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه» لأنَّ المقصود دعوة الناس إلى الخير لا لإقامة الحجة فقط.* ولهذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «والطبيب الحاذق يعلم كيف يطب النفوس، فلا يعمر قصرًا ويهدم مصرًا»، ويقول: «ولهذا لمَّا ظهرت الرعاية للمُحَاسبي، وكانت تعتمد على الترهيب فإذا قرأ العبد مثلاً باب الرياء يئس من النَّجاة منه، فلمَّا اشتغل بها العباد عطَّلت منهم مساجد كانوا يعمرونها بالعبادة».* فلابدَّ من مراعاة الترغيب والترهيب، والمدح والذم، حتى في تقويم المعلم، فلا تذكر له سلبياته فقط، بل لابدَّ من ذكر بعض محاسنه مع التنبيه غير المباشر في حق البعض، والابتداء بالتلميح دون التصريح، والتلطف في الخطاب، ومراعاة حسن الأسلوب ومكانتهم، واختيار أفضل الطرق إلى القلوب؛ لأن الهدف الإصلاح، فابحث عن الأسلوب الأمثل، وعدم ازدراء أو تسفيه رأي من أمامك. فإنَّ كل ذلك مما يؤلف القلوب الناشزة، وتُرد به القلوب النافرة، ويدني من سماع القول الصالح؛ فيثمر تقويمك وتعليمك.* فينبغي للمعلم الحرص على توجيه الطلاب، وتعليمهم، وكسبهم أكثر من تنفيرهم، فإن المنهجية السديدة في التعليم والتوجيه هي البحث عن الطريق السليم في حل وعلاج الأخطاء، كأنك أمام غريق، والنُصح بالشكل الذي يُرَغِّب في الحق ولا ينفر منه.4- ومن الآداب المرعية التي ينبغي للمعلم مراعاتها: أن يكون مجلسه هادئًا، وحديثه منتظمًا ومرتبًا، يفتتحه بحمد الله، والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مع مراعاة هذه الآداب أثناء حديثه، فإذا مرَّ بلفظ الجلال فلابدَّ أن يقول أو يكتب «عز وجل»، أو «تعالى» وما أشبه ذلك، وكذلك الأمر عندما يمر بذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكتبها كاملة ولا يرمز لها بحرف، سواء كان ذلك أثناء كلامه أو كتابته.* وإذا مرَّ بذِكر صحابي فلابدَّ أن يترضَّى عنه، فمن الناس من يذكر مثلاً «معاوية» ذدون أن يقول: «- رضي الله عنه -» فلابدَّ من الترضي عن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين، ولا يسأم من تكرار ذلك فإنه يدل على تعظيم المعلم لهم إذا أكثر من الترضي عنهم، وفيه تعليم للطلاب على ذلك، ومن أغفل هذا فقد حُرم خيرًا كثيرًا؛ لأن الملَك يقول: «ولك يمثل ذلك» [ذكره الإمام النووي رحمه الله في شرح مقدمة صحيح الإمام مسلم].* وكذلك عند ذكر العلماء والصالحين، فينبغي للمعلم عند ذكرهم أن يذكرهم بوصف التعظيم والإجلال والترحُّم على من مات منهم، فمن نحن لولا الله، ثم العلماء الذين نقلوا لنا وجمعوا كل ما نحتاجه من معرفة الحلال والحرام، وما يقربنا إلى ربنا جلَّ وعلا. وكان بعض العلماء كلما استفاد فائدة من عالم أكثر من الترحم عليه، وهذا أقل الواجب في حقهم علينا. فإذا عمل المعلم بهذا الأدب الذي هو من صُلب العمل بالعلم وربَّى الطلاب عليه، وشجعهم على التأدب به – قيَّض الله له في المستقبل من يترحم عليه؛ لأنَّ الجزاء من جنس العمل، وهذا قرض يُرد بالميزان، ومن لم يكن عنده فقه نفس، أو معرفة بهذا الكلام، فإنَّه يفوته ربح عظيم وهو لا يشعر.* فإذا جمع المعلم بين هذه الآداب، وبين حسن الدخول في الدرس، مراعيًا التدرج في إيصال المعلومات، فيبدأ بالأسهل، عارفًا بما يشرحه، محضرًا لها – حصل الخير والنفع الكثير، وإن ختم مجلسه بهذا الدعاء فحسن. ذكر الحافظ أبو طاهر السلفي أن الخلعي كان إذا سُمِّع عليه الحديث يختم مجلسه بهذا الدعاء «اللهم ما مننت به فأتِمَّه، وما أنعمت به فلا تسلبه، وما سترته فلا تهتكه، وما علمته فاغفره»، أو دعاء كفَّارة المجلس.5- ومن الآداب المرعية التي ينبغي للمعلم مراعاتها: عدم سلب مادته روح الإسلام، فإنَّه قد يدخل بعض المعلمين على طلابه ويخرج من عندهم وما ذكر الله، ولا صلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نَصَح أحدًا، وما وجَّه أو قوَّم اعوجاجًا، مع أنه يرى بعض التصرفات غير السليمة! وحالته هذه ليست ليوم أو يومين، بل طوال تدريسه، وكأن الأمر لا يعنيه، ويظن أنَّه لا يُسأل عن هذه المجالس يوم القيامة!!* فينبغي للداعية استغلال كل فرصة في أداء مهمَّته، وهي التربية. يقول بعض المشايخ – أعزهم الله تعالى: «درسٌ ما زلت أحفظه بكل وضوح بعد عشرين عامًا، وهو درس يتجلى أمام عيني كلما رأيت ترددًا يقود إلى إضاعة فرصة، أو تكاسلاً يؤدي إلى تفويت منفعة، ولطالما رأيت مواقف ازداد فيها العلاج صعوبة حتى كاد يستعصي أحيانًا بسبب التأخر في التحرك الإيجابي، مثل التأخر في كنس قطع الزجاج المتناثر على الأرض مما يتسبب في جرح بليغ، أو التردد في علاج عيب في الطبع لدى أحد الأطفال كالأنانية أو العدوانية بحجة أنه طفل صغير، ثم إذا كبر معه يصبح علاجه من المستحيلات».* ومن هنا كان دور المعلم عظيمًا في التوجيه والنُصح، فعليه ألا يسلب درسه روح الإسلام، فإن فعل فهذه علامة على عدم اهتمام هذا المعلم بدينه، ونُصحه لأمَّته، إنَّ من اليهود والنصارى من عنده غيرة واهتمام بدينه الباطل أكثر ممن كان مثل هذا الصنف الذين – لا كثَّرهم الله – في الأمَّة. وليس هذا الأمر عامًا في كل معلم، لكن يوجد أصناف من هذه النماذج الذين هدفهم الرئيسي الراتب والتنزه واللعب.* فينبغي للمعلم أن يتقي الله، ويراعي أثناء تدريسه بث روح الإسلام في مادته، حتى في ضرب الأمثلة، فيذكر مثلاً عن صحابي ويتكلم عنه قليلاً؛ لأنَّ أصل التعليم هو ربط القلوب بالله العظيم، وما أحوج الطلاب إلى معلم يغرس آداب الإسلام وأخلاقه في قلوبهم مع استغلال كل فرصة في بث روح الإسلام وترسيخ هذا الدين في القلوب، فمثلاً إذا ترك بعض الطلاب حل واجب تقول مثلاً: من صلى الفجر في جماعة هذا اليوم نسامحه، ثم تتكلم عن صلاة الفجر قليلاً، وأنَّ من صلاها في جماعة كان في ذمة الله حتى يمسي، ومعنى في ذمة الله أي يعصمه من المعاصي ويوفقه، أو تقول: من ختم القرآن هذا الشهر؟ أو صلى قيام الليل؟ أو الضحى؟ أو أي موضوع تريد أن تتكلم عنه.6- ومن الآداب المرعية التي ينبغي للمعلم مراعاتها: تعليم الطلاب آداب العلم، وهذا خاص في بداية كل عام أو فصل دراسي، فإن تعلُّم الأدب حق ودين، فكل علم بلا أدب كطعام بلا ملح، يقول الإمام ابن المبارك: «طلبنا الأدب لما فاتنا المؤدبون؛ لأن الأدب قوام الدين، وأدب العلم أكثر من العلم»، ويقول رحمه الله: «إذا وُصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوات لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه وأتأسف على فواته» وقال: «لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزين علمه بالأدب».* فإذا تبين هذا، فينبغي للمعلم أن يتعلم الأدب ويُعَلِّم الطلاب آداب العلم، فيعلمهم أدب الطالب مع معلمه وفي درسه وأدبه مع كتابه ومع زميله، ويبين لهم أدب الطالب حتى في كيفية السؤال، فلا يسأل معلمه بطريقة الاعتراض، بل يقول: أَشْكَل عليَّ كذا، أو: كيف نجمع بين كلامك وكذا ،ما رأيك؟ ويتخير الألفاظ الحسنة في الأمور التي يستحي من ذكرها، فيُلَمِّح ولا يصرح، كما علَّمنا ربُّنا في كتابه كما في قوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [المائدة: 6].* فمن الناس من لا يراعي هذا الأدب بحُجَة «لا حياء في الدين»، وهذا ليس بصحيح؛ ولهذا لما جاءت امرأة تسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية معرفة الطُّهر؟ فقال: «خذي قطعة ممسكة» فلم تفهم فقالت: كيف؟ فأعاد عليها نفس الإجابة، حتى أخذتها عائشة رضي الله عنها وبيَّنت لها ذلك. وكذلك حسن إجابته عليه الصلاة والسلام مع الأعراب إذا سألوه، وعلم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه – هو من شعبة الأدب العام الذي ينبغي مراعاته.* ومن الآداب التي ينبغي تعلمها: أدب الطالب مع كتاب الله، وذلك باحترامه أثناء القراءة، واجتناب الضحك، واللغط، والحديث أثناء التلاوة، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]. وقد كان عمر - رضي الله عنه - إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأه.* ومن المعاني التربوية: تعليم الطالب ونهيه – وهذا خاص بالولد والمتعلم أو التلميذ – أن ينادي أباه أو معلمه أو شيخه باسمه. ذكره الإمام النووي رحمه الله في كتاب الأذكار، وقال: «رويناه في كتاب ابن السني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً معه غلام فقال: «يا غلام، من هذا؟» فقال: أبي. قال: «لا تمش أمامه، ولا تستبر له، ولا تجلس قبله، ولا تَدْعه باسمه» أمّاَ قوله: «لا تستبر له» أي: لا تغضبه أو تفعل فعلاً يجعله يسبك زجرًا على فعلك القبيح».* ومنها أن يلفت نظر الطلاب إلى حسن اختيار الأصحاب، فإن الصاحب ساحب، إمَّا إلى جنة، أو إلى نار.فهذه أمور ينبغي للمعلم ألا يغفلها أثناء تدريسه، وهناك آداب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها فراجع «منهاج المسلم».7- ومن الآداب المرعية التي ينبغي للمعلم مراعاتها: مزج تعليمه بالرقائق، وحث الطلاب على مطالعة سير الأوائل من السلف والعُبَّاد، فإن ذلك من أعظم السباب لرقة القلوب، فإن العلم النافع هو فهم الأصول ومعرفة المعبود وعظمته وما يستحقه؛ وذلك بالنظر في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم - أجمعين – والتأدب بآدابهم وفهم ما نُقِل عنهم.* فينبغي للمُعلم مراعاة هذه الخصلة العظيمة، فإن أصل المقاصد في التعليم ربط القلوب بعلام الغيوب، بشرط أن تكون هذه الرقائق مشاعة في أوساط الدُعاة، فليس كل قصة تقال، مع احترام المقابل، وعفة اللسان، وتجنب الألفاظ المذمومة، واستخدام الكنايات، والتلميح دون التصريح كما علَّمنا ربُّنا في كتابه. فمثلاً عندما ذكر الجماع أو دواعيه قال تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [المائدة: 6]، كذلك إذا عاتبت أحدًا فقدم طلب العفو عنه، وخصوصًا إذا كان ذا جلالة، فإن الله عاتب نبيه كذلك، فقال سبحانه وتعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43].* وهذه آداب ينبغي للمعلم مراعاتها أثناء كلامه، واجتناب الألفاظ القاسية، ومراعاة الرفق، والتمهيد للأمر المستغرب بالحسنى، والتلميح دون التصريح.* وبالجملة التلطف أثناء الكلام بكل الوسائل الطبية للوصول إلى المقصود دون تنازل أو تملق أو مداهنة، حتى تتألف القلوب حولك، مع التحرز من القصص التي تشيع الفاحشة أولاً؛ لأنَّها من إشاعة الفاحشة.* أضف إلى ذلك أن الطالب يأخذ بشر ما يسمع، فعليك بالقصص التي ترقق القلوب وتربطها بالله سبحانه وتعالى، فيضبط هذا الانفتاح بهذه القيود، حتى يحصل النفع ويثمر تعليمك، والله الهادي إلى سواء السبيل.8- ومن الآداب المرعية التي ينبغي للمعلم ومن أراد أن يُنَصِّب نفسه للدعوة وخدمة هذا الدين: الحرص على العلم والتزود منه، فالعلم يصعد بالهمة، ويصفي النية، ويورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، ويبصره بحيل إبليس، ولا تظن أن العلم يحصل بمجرد التخرج، أو أنَّه قاصر على فئة معينة، بل أكابر العلماء طلاب علم حتى يموتوا، فكم من عالم مات والقلم والكتاب في يده، بل إن الله لم يأمر نبيه بالتزود من شيء إلا من العلم فقال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]. ولهذا كان يستفتح - صلى الله عليه وسلم - كل يوم بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك علمًا نافعًا ورزقًا طيبًا وعملاً متقبلاً»، فطلب أولاً العلم النافع الذي يكون له عند ربِّه شافعًا.* واعلم أن أخذ العلم عن الكتب لا يكفي ما لم يساعد التوفيق ويرزق العبد بعالم ربَّاني، فإن الصبابة لا يعرفها إلا من يعانيها، وإن العلوم لا يدريها إلا من أخذها عن أهلها وصحب راويها، كذلك ينبغي للمعلم البعد عن الأشخاص المثبطين والتحول عن البيئة المثبطة التي تدعو إلى الكسل والخمول وإيثار الدون فإن على المرء هجرها:تقول ابنةُ سُعْدى وهي تلومني أمَا لك عن دار الهوان رحيلُ 9- ومن الآداب المرعية للمعلم: ضرورة إخلاص النية لله وحده، فإن النية مَطِيَّة، فمن الناس من يُعَلِّم من أجل الراتب، فإذا قُطع عنه الراتب لم يُعَلِّم، ولو خُصم عليه شيء نقص من تعليمه بقدر ما نقص، ومنهم من يطلب التعليم ليعلم، ومن هنا جاء قوله عليه الصلاة والسلام: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته على ما هجر إليه». وهذه هجرة من لم يشم رائحة العرفان، ولم يذق طعم الإيمان.* فكل امرئ على شيئين: على قصده، وشاكلته، وهي التي تورده وتصدره، فراجع نيتك وصححها واستعن بالله، فإن غلبك الهوى فابعث رائد الانكسار والعجز والافتقار، فإنه عند المنكسرة قلوبهم، وسَلْهُ تيسير الإخلاص والصدق، فإنه صعب وعسير إلا على من يسَّره الله له عليه، وليس بينك وبين من لم يخلص إلا هذه النية، وهي من مكنونات الصدور التي لا يعلمها إلا العليم بذات الصدور، ويظهر ذلك يوم يُبعثر ما في القبور ويُحصَّل ما في الصدور.10- ومن الآداب المرعية للمعلم: استخدام أقصر الطرق في إيصال المعلومات مع مراعاة سهولة الأسلوب الذي يتناسب مع قدرة الطالب، فيترك وحشي الكلام وغريبه، فإن لكل تربة غرسًا، ولكل بناء أساسًا، ولكل ثوب لابسًا، ولكل علم قابسًا، فالبس لكل حالة لبوسها، وضَع الأمور في نصابها، فلا تحدث العلم غير أهله، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، وكن كالطبيب يضع العلاج في مكانه، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «ما أنت بمُحَدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» فالإمساك عن بعض العلوم والأخبار أولى، وعليك بغرس الإيمان في القلوب، فإن معالجة كل فتنة أمر يطول.* ثُمَّ عليك بتسهيل المادة على الطالب ليحبها؛ لأنَّه الأصل في التعليم، فليس المقصود فقط الامتحان، فبهذا تحصل الثمرة، ويعم الخير، ويكون لك نصيب من وراثة الحبيب عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.11- ومن الآداب المرعية للمعلم – وهو من أهم هذه الآداب: تشجيع المواهب والعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتؤتي ثمرها، فرُبَّ طالب تزدريه الأعين يكون إذا شُجِّع وأخذ بيده عالمًا من أكابر العلماء، أو أديبًا من أعاظم الأدباء، وكم من عالم وأديب نتيجة التثبيط والاحتقار حُرم النَّاس علمه، وذلك نتيجة التعليم من بعض المعلمين.فمما يُذكر أن العلامة الشيخ سليم البخاري رحمه الله تعالى مات ولم يصنف رسالة فما فوقها – على جلاله قدره وسعة علمه وشدة بيانه – وسب ذلك أنه صنف رسالة في أول طلبه في المنطق وكتبها بلغة سهلة وعذبة، ثم عرضها على شيخه، فسخر منه وأنَّبه وقال له: أيها المغرور، أَبَلغَ من قَدْرك أن تصنف وأنت أنت؟! ثم أخذ الرسالة فسجرها المدفأة، فكانت أول مصنفات العلامة وآخرها.وقل لي بالله عليك: إذا قوبلت مثل هذه المواهب بمثل هذا التشجيع فمن كان عنده نصف موهبة دفنها. سبحان الله! الكفَّار يشجعون أنصاف المواهب وما دونها، فلا ريب أن حصلوا على خير كثير؛ ولهذا ينبغي للمعلم ألا يغفل هذه الخصلة فإنها تفتح الطريق للعبقريات وتجني الأمة من وراء هذا العمل خيرًا كثيرًا، ومن أجل هذا أنشأت أمريكا 700 معهد تشرف عليها 300 جامعة، وعقدوا المؤتمرات والندوات لتخطيط وتنظيم ورعاية النابغين، وذلك بعد أن أطلق الروس أول مركبة فضائية سنة (1957م)، وكان الأمريكان يعتبرون رعاية النابغين ترفًا تربويًا ولم يبذلوا جهودًا جادة إلا بعد هذه الحادثة، مع أن المسلمين الأوائل قد سبقوا الكفار في هذه النقطة بقرون كثيرة.* فينبغي للمعلم ألا يغفل عن هذا الجانب، بل يجب عليه أن يشجع أنصاف العبقريات، ويهتم بهم، فكم من معلم يحسن رعايته وتوجيهه أخرج للأمة عالمًا، أو أديبًا، أو خطيبًا؟! ولا تنسَ قول الشاعر:ليس يخلو زمانُ شعبٍ ذليلٍ من عليم وشاعرٍ وحكيمِ 12- ومن الآداب المرعية للمعلم: الاجتهاد في الدعوة إلى الله سواء كان ذلك داخل المدرسة، أو خارجها، فيحرص على نشر الخير وتعليم الناس ما علَّمه الله من الفقه، في مجالسهم ومساجدهم، فقد كان السلف يدأبون في نشر الخير ونُصح الناس حتى قال بعض من صحب سفيان الثوري رحمه الله: «أنه كان لا يكاد يفتر لسانه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».* وكيف لا يحرص الإنسان على الدعوة وقد علَّمه الله ما لم يكن يعلم؟!* إن الدعوة هي زكاة عمر العبد، فقد مكث نحوًا من عشرين سنة يتعلم، فبعد أن بلغ فيه الأمر ووصل إلى هذا المكان الذي حُرِمه كثير ممن هم أفصح وأذكى منه وجعل الله مراده بين يديه، فماذا سيصنع تجاه دينه وأمته؟ وإيَّاك أن تكون ممن قال الله فيهم: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾ [الأعراف: 169].أيها المعلم:* إن الله قد أخذ عليك الميثاق، فما لك تنبذ الوحي خلف ظهرك؟ ماذا قدمت؟ هل وجهت ونصحت؟ هل فكرت كيف تكسب شخصًا، أم الأمر عندك سُدىً؟ يا هذا، إن الأمر شديد، والله لو تعلم ما تحملت من الأمانة لخرجت إلى الصَّعَدات تجأر إلى الله، أولاد المسلمين بين يديك فما أنت صانع؟ أقول لك: قلِّص إرادتك فيما أنت فيه، واستقبل زمانك، ودع الهزل، أَمِثْلكَ يرضى بمثل هذه الحياة؟! أكل وشرب، فأين الغيرة التي في قلبك على دينك؟! أمثله يضيق به الفضاء فلم تعرف كيف تصل إلى القلوب؟ سبحان الله! يفسد أبناء المسلمين بين يديك وأنت بارد القلب!!* فاغتنموا رحمكم الله عملكم في الدعوة إلى الله التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، ومراغمة أعدائه، فإنها من موجبات رحمته ومغفرته.13- ومن الآداب المرعية للمعلم في استخدام العقاب البدني، بعد أن يقدم المربِّي أسلوب التشجيع والتجاهل عن بعض التقصير في بعض الأوقات، مع حسن الإشارة والتلميح دون التصريح، فإن أصر عاتبه سرًّا، فإن أصر عاتبه جهرًا دون شتم أو سب أو تحقير لذاته، فإن تمادى يهدد بالضرب، وإن كانوا صغارًا علق السوط بحيث يرونه، فإن لم تنفع كل هذه الوسائل يلجأ إلى الضرب بشروطه:1- ألا يضرب قبل سن العاشرة كما في الحديث.2- أن يعلم المربِّي أن الضرب وسيلة علاج، فليست وسيلة إهانة وتحقير وتشويه لنفسيته، وليست وسيلة انتقامية يفرغ شحنة غضبه، وعليه فلا يٌقْدِم على الضرب وهو غضبان.3- ألا يكون الضرب شديدًا مبرحًا، ولا يزيد على ثلاث ضربات، وأن يتوقَّى الوجه والأماكن الحساسة، ولا يُكرَّر في موضع واحد.4- أن يتناسب العقاب مع حجم الخطأ ونوعه.وأخيرًا كما قال الشاعر العميثل عبد الله بن خليد الشاعر البليغ:اصْدُق وعف وبر واصبر واحتمل واصفحْ وكافِ ودَارِ واحلم واشجعِ والطُف ولِن وتأنَّ وارفق واتئِدْ واحزم وجِد وحام واحمل وادفعِ فلقد نصحتُك إن قبلتَ نصيحتي وهُدِيت للنَّهج الأَسَدِّ المهْيعِ وصايا مهمة في ختام هذه التحفة:1- ما رأيت مثل التحبب للطلاب وكسب ودهم لتوصيل ما عندك من هموم وأفكار توجيهية.2- التغاضي عن الأخطاء اليسيرة وقبول العذر عند بعض التصرفات من الطلاب.3- اختيار الفرصة المناسبة لإنفاذ ما عندك، فإن استغلال الفرص يكون له وقع عند السامع؛ لأن الموعظة دائمًا وبدون مناسبة قد لا تجدي كثيرًا.4- الأمر الأهم من هذا كله زاد الليل، فمن لا زاد له بالليل لا يكون له أثر بالنهار.5- أخيرًا إن مَن سَبَرَ أحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعليم يجد العجب العجاب؛ فمرة ينادي الشخص باسمه مرارًا كما فعل مع ابن عباس: يا غلام، ثم يتركه فترة ثم يناديه حتى إذا هيَّأه لتلقي المعلومات أعطاه ما عنده. ومرة يسأل أصحابه عن شجرة مثل المؤمن، ومرة يستغل المواقف فمر على جدي ميت فسألهم من يشتريه بدينار فقالوا: لو كان حيًّا لم نأخذه بدينار، فقال: «للدنيا أهون عند الله من هذا على أهله»، ومرة يسأل معاذًا ما حق الله على العباد؟ ثم يعطيه الإجابة، ومرة كان جالسًا مع أصحابه فرمى بثلاثة أحجار، واحد تلو الآخر، ثم سألهم عن خبر هذه الأحجار ثم قال: هذا الإنسان وهذا أجله والآخر أمله. ولهذا يجد المعلم عند قراءة سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأساليب المتنوعة في إيصال ما عنده من خير، ولهذا ينبغي للمعلم أن ينوع أساليبه في التعليم فليس الهدف إلقاء المعلومات فقط، ولكن العبرة هي ترسيخ المعلومات وإيصالها لهم بالأسلوب المناسب لكل سن.* وختامًا لا تدخر عمارة مجلسك بذكر الله والدعوة إليه ونشر العلم. والكلام الطويل تضيق عنه هذه الرسالة، فهي لا تعدو أن تكون مقدمة موجزة في تجديد فكر المعلم وتبصير المربي، ولم أكمل المسح الشامل لتلك العلل والأسباب والظواهر التربوية التي ينبغي مراعاتها مكتفيًا بهذه الإشارة، يقينًا مني بأن المسلم سيجد في مصحفه أكثر مما سأنقله له، سبحان ربِّك ربِّ العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، حامدين لله، مثنين عليه بما هو أهله وبما أثنى به على نفسه.والحمد لله حمدًا يملأ السموات، ويملأ الأرض، ويملأ ما شاء من شيء بعد، حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مُستغنىً عنه ربُّنا، ونسأله أن يُوزِعنا شكر نعمته، وأن يوفقنا لأداء حقه، وأن يجعل ما قصدنا له في هذه الرسالة وغيرها خالصًا لوجهه الكريم، ونصيحة لعباده، ومبلغًا إلى مرضاته، وأن يبارك لي في هذا العمل.أيها القارئ الكريم:* كما قال بعض الصحابة: «أقبل الحق ممن قاله وإن كان بغيضًا، ورُد الباطل على من قاله وإن كان حبيبًا»، وما وجدت فيه من خطأ فإن قائله لم يَأْلُ جهد الإصابة، والحمد لله ربِّ العالمين ولي التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين وعلى آله أجمعين.